الرئيسية / فن وموسيقى / مشروع اثارة : قضية مناقشة د. جلال أمين.. سايكلوجية الخوف من نقد الكبار

مشروع اثارة : قضية مناقشة د. جلال أمين.. سايكلوجية الخوف من نقد الكبار

لقد أثار الاخ الدكتور جلال أمين قضية نقاشية مهمة جدا على صفحات مجلة الهلال العريقة ، العدد (3) الصادر في شهر مارس 2000 ضمن مقالته ” بين أم كلثوم والقصبجي ” ، والتي تمتّعت بقراءتها كثيرا ، وأثارتني كي أكتب مقالتي هذه التي تتضمن بعض تعليقاتي التي أزعم انها مهمة وربما تستكمل الصورة التي رسمها صاحبنا العزيز ، خصوصا وأنه كتب بعض ” الافكار ” المهمة التي لابد أن يعتني بها تفكيرنا العربي المعاصر بعد أن أختتم العرب صفحاتهم التاريخية في القرن العشرين ، ودخلوا سلسلة جديدة من تكوين تاريخي أعتقد أنه سيختلف اختلافا كبيرا عما عاشته الاجيال الثلآثة الماضية في القرن العشرين .
أين نحن من نقد الكبار ؟
ثمة سلوك توارثناه نحن العرب عن آبائنا وأجدادنا الذين مضوا منذ القدم لم ينفكوا عنه برغم محاولات تربوية وعلمية ومعرفية وفلسفية جادة برزت في القرن العشرين .. ذلك هو الاحجام عن النقد والتوقف عن ممارسة الحوار وفقدان احترام الرأي الاخر ، خصوصا عندما تصل درجة الاعجاب والانبهار باشخاص معينيين الى مرتبة التقديس ، أو رسم هالة عريضة من المفاخرات والتمجيد والثناء .. بعيدا عن أية نزعة نقدية في اعطاء كل ذي حق حقه ! ويعزو د. جلال أمين ذلك الى نزعة الخوف من النقد وخصوصا نقد الكبار ، متخذا من أم كلثوم في حياتها أو حتى بعد قرابة ربع قرن على رحيلها نموذجا ليس لما كتبته د. رتيبة الحفني عن تلك الشخصية الاسطورية في حياتنا الفنية العربية ، بل ما برز بشكل واضح في المسلسل التلفزيوني عنها والذي نال شهرة واسعة أكثر من أي مسلسل تلفزيوني آخر .. ليس لأي سبب الا بسبب مكانة ام كلثوم وشهرتها في المجتمع العربي المعاصر .
ويثير د. جلال أمين نقطة في غاية الاهمية ـ هنا ـ هي ظاهرة الخوف من النقد .. ويقصد به ـ كما هو قصدي أيضا ـ : ظاهرة الخوف من نقد الكبار في حياتنا الفنية والادبية عندما يقول : ” هو نفسه الخوف الذي يسيطر على حياتنا الفنية والادبية كلها من نقد أي فنان أو كاتب شهير ، وهو نفسه الخوف الذي يسيطر على حياتنا السياسية ” ( ص 55 – 56 ) . نعم انه الخوف الذي يتلبس أغلب الكتاب والمفكرين العرب من نقد ( الكبار ) ، علما بأن النقد لا علاقة له بما نفتتن به أو نعشقه ، فليس هناك من لم يفتتن بصوت أم كلثوم الا الندرة من الناس ، وليس هناك من لم يعترف باعمال العمالقة العرب من المبدعين في القرن العشرين .
لماذا الخوف ؟ ومتى تبلورت سايكلوجية الخوف العربي ؟
لم يكن العرب في تاريخ نهضتهم الحديثة ملأى بالخوف .. أو أنهم كانوا أصحاب سايكلوجية للخوف ، والتي أفرزت في بعض مجتمعاتنا العربية المعاصرة حالات من الرعب الا في الخمسين سنة الاخيرة أو في حياتنا خلال النصف الثاني من القرن العشرين وعند جيلين عربيين ، وبالتحديد اثر قيام الانظمة السياسية الشمولية ، اذ تبلورت سايكلوجية الخوف السياسي أولا ، ثم أثّرت تأثيرا مباشرا وبالغا في التفكير العربي المعاصر .. مقارنة بما كان عليه الحال لدى جيلين عربيين سابقين كالذي كان عليه جيل الاستنارة الفكرية المخضرم بين قرنين التاسع عشر والعشرين .. وجيل الاستقلالية الوطنية الذي عاش بين الحربين العالميتين الاولى والثانية ! وعليه ، فقد قامت معارك فكرية ونقدية وفي مصر بالذات أغنت جميعها التفكير العربي ، وأثرت مضامينها المعرفة العربية ، ورفدت نتائجها حياتنا النهضوية العربية الحديثة .
لقد نشرت نقدات صارخة وملاحظات رصينة وتحديات قوية عن معظم الاسماء القوية والكبيرة ، أمثال : طه حسين وأحمد أمين وعلي عبد الرازق واسماعيل مظهر ومصطفى صادق الرافعي وعباس محمود العقاد وغيرهم .. كما كانت أم كلثوم نفسها قد انتقدت عدة مرات وقت ذاك .. ولم يكن هناك أي خوف من أسمها ، علما بأن أسمها كان كبيرا وكانت بشدوها وغنائها قد وصلت ذروة العطاء عند الاربعينيات .. وهي مرحلة متميزة بالشجاعة الفكرية والسياسية والنقدية ، اذ كان قلم طه حسين يلهب التفكير ، وكان صوت العقاد يّدوي في قاعة البرلمان ، وكانت آراء عبد الرازق تصطدم بالازهر ، وكانت الرافعي يدافع بشراسة عن الموروث .. وهكذا كان شوقي وحافظ ومطران ومحمد فريد ومحمد حسين هيكل وزكي مبارك والمازني والزيات .. وقافلة من المثقفين اللامعين ، الذين يتهمهم الجيل الحالي بتهمة رخيصة شائعة على الافواه منذ خمسين سنة .. ذلك انهم من المنبهرين بالحضارة او الثقافة الاوربية ، دون التعمّق قليلا في قوة ما انتجوه وفعالية ما أبدعوا فيه .
لقد تغيّرت الادوات والوسائل بتغير اساليب التفكير .. ذلك لأن ممارسة النقد مهما كان كاسحا لا تقلل من شأن العمالقة في شيىء ، بل تزيدهم مكانة وقوة .. وكم كان الفكر المصري المعاصر بحاجة الى تطوير ما كانت عليه تلك الادوات والوسائل من أجل الارتفاع بالاساليب في التفكير على امتداد الخمسين سنة الاخيرة من القرن العشرين ؟ وكم كان حريا بالنقد أن يزدهر دون أي روادع سياسية أو أيديولوجية من أجل فسح المجال لولادة مبدعين آخرين ؟؟ وكم كانت الحاجة ماسة ان لا يكتفي العرب باسماء قليلة يقدسونها ، بل وينصبونها عليهم بمثابة زعماء وأوصياء على هذا الحقل أو ذاك المجال .
لا قدسية في الفكر والفن والسياسة !
لقد صنعت الحياة الفكرية والنقدية العربي في الخمسين سنة الاولى من القرن العشرين عدد كبير من المتميزين في حقول معرفية وفكرية وأدبية وفنية عديدة ، نظرا لتوافر التربة الخصبة التي نبتوا فيها ، وأطلقوا أنفسهم في خضمها .. دون أن تكون هناك أية قدسية لأحدهم ، ولكن تبدلت تلك ” الحياة ” بحياة من نوع آخر ، أذ وجد الفكر والتفكير معا والفن والمعرفة معا أمام محدّدات سلطوية وخطوط أيديولوجية وموانع أمنية .. لكي تنقاد الملايين الى الاصوات الواحدة والزعماء الاحاديين والكتاب الاحاديين .. وأصبح لكل مجال أو حقل عملاق مصنوع ، ورمز معلوم ، ووأسم يطير لوحده على الافواه ! وكان للدعاية الحكومية واعلاميات الدولة في كل من صحافتها واذاعاتها ادوارها في بلورة نمطين من التفكير : سايكلوجية الخوف اولا وصناعة الرموز ثانيا .. وبرغم انني لا اقلل ابدا من شأن الرموز ، الا ان تلك الرموز من الخطأ الكبير ان تصبح مقدسة تحيطها هالة تعظيمية لا يمسسها النقد ولا يجرؤ احد على الحوار النقدي معها ! وعليه ، فان الحياة العربية كان لابد لها ان تزدهر أكثر بكثير مما آلت اليه لولا العقم والرتابة من جانب أو الدعاية وصناعة الابطال والقديسين من جانب آخر !
أزمة المثقفين !
هذا عنوان كتاب نشره الاستاذ محمد حسنين هيكل عام 1961 ، وقد غدا هذا الرجل أحد الاقطاب او الرموز من الصحفيين المصريين الكبار الذي يصفه البعض بالاسطورة .. وقد طبع هذا الكتاب طبعة يتيمة واحدة ببيروت وهو يعالج أزمة المثقفين المصريين التي ظهرت في الخمسينيات من القرن العشرين .. ولقد كتب غالي شكري في كتابه : النهضة والسقوط في الفكر المصري الحديث يصف كتاب ” أزمة المثقفين ” قائلا بأنه : ” الوثيقة الثانية ـ بعد كتاب فلسفة الثورة للرئيس الراحل جمال عبد الناصر عام 1953 في طبعته الاولى عام 1953 وطبعته الاخرى عام 1957 ـ كانت مقالات هيكل التي جمعها في كتاب عنوانه ” ازمة المثقفين ” ، وهو يبرر موقفا يتصور انه ( الوسط ) بين اليمين واليسار ، فهو يمهد ويؤيد الاجراءات الاقتصادية الجديدة ، ولكنه ينظر ويؤصل لفكرة التنظيم السياسي الواحد ، الجامع المانع . وهو تأصيل يعتمد على الوقائع الجزئية ، ولا يعبأ كثيرا بالفكر المبدئي لمسألة الديمقراطية .. ” ( ص 80) . ومن ابرز الامثلة التي يضربها غالي شكري ان المفكر المعروف خالد محمد خالد أنهى علاقته بالاهرام عام 1957 لأن محمد حسنين هيكل نفسه لم ينشر رد خالد محمد خالد على مقالاته في الاهرام !
لقد تبلورت الازمة ليس في مصر وحدها ، بل في اغلب البلدان العربية التي انتفت فيها الديمقراطية .. فدخل المثقفون العرب وكان المصريون في مقدمتهم ازمة صعبة جدا ، اذ انقطع النقد وتقوقع الجدل وسادت الاحادية .. علما بأن كلا من عقدي الخمسينيات والستينيات قد شهدا ولادة جملة رائعة من المثقفين والمبدعين سواء كانوا من اليمين او من اليسار او الوسط .. وتكرسّت ظاهرة الاحادية التي قتلت المواهب او غمرتها او همشّتها ، فضلا عن ولادة سايكلوجية الخوف وتبلورها .. انها الازمة التي خلقها المأزق السياسي العربي الذي اعترف بازمة المثقفين ، ولكنه تناسى العلل الحقيقية التي قادت اليها ! فالمثقف هو الذي ينبغي ان يقود السياسي ، لا أن يهيمن السياسي على أنفاس المثقف !
من الذي يحرك الناس ويخلق أذواقهم ؟
انني اشارك الاخ د. جلال أمين ما قاله في نقد كلمات الثناء والمديح التي كانت ولم تزل تزجى لهذا أو تمنح لذاك دون أي كلمة نقد تقال في حقهما ! واذا كان الرجل قد ذكر ام كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم حافظ ونجيب محفوظ ويوسف شاهين وفاتن حمامه وصولا الى أحمد زويل .. فليس معنى ذلك ان هؤلاء كانوا معصومين عن الخطأ . وان الهالة التي تمتعوا بها عن جدارة وما زالوا ضمن دائرتها هي من حقهم ، ولكن الانسان مهما كان مبدعا وعملاقا فهو في حاجة لكلمة حق تقال فيه ، وهو بحاجة الى اشعاره بأن الزمن كفيل ان يبقيه حيا على امتداد التاريخ ، او يغمره أيضا .. ولكن من حق الاخرين عليه أن يجعلهم يتنفّسوا قليلا في جو خال من الخوف اولا ( وبالاخص : خوف الكبار ) .. فضلا عن أرضية خصبة يتحرك عليها الجميع بكل عدالة ، وهذا ما يسمّى بـ ” تكافؤ الفرص ” في كل ميادين الحياة .
ان منح الناس شهادة حسن سلوك في الذوق والاختيار لما يسمونه بـ ” الافضل ” عملية دوغمائية بحتة في محيطنا العربي بشكل خاص ، ذلك ان التجربة والتجربة الاعلامية العربية بالذات قد اثبتت بما لا يقبل مجالا للشك ان للناس مذاهب في ما تعشق وتهوى ، ولكنها تنقاد اعلاميا ودعائيا وخطابيا لتأليه من لا يجوز تأليهه .. ولا أعتقد انها ظاهرة ” فرعونية ” ـ كما وصفها الاخ جلال أمين ـ ( ص 57 ) ، اذ انها موجودة في امكنة عدة سواء في محيطنا العربي ام غيره .. وصحيح ان تسليط الاضواء ومنح البعض فرصا لم تمنح لغيرهم ولكن ضمن آليات وأسباب منها ما هو معروف ومنها ماهو خاف وخصوصا في العالم الغربي الذي يزدحم بالمبدعين الذين يتنافسون جميعا من اجل الاحسن وفي عالم لا يغيب عنه النقد والحوار والجدل والديمقراطية ! واذا كان الغرب متفوقا بذلك في القرن العشرين ، فهو قابل لأن يستوعب الالاف المؤلفة من المبدعين في شتى المجالات .
نموذج من عشرات النماذج :
برغم بروز ظاهرة عبد الحليم حافظ في غناء الستينيات .. مع شغفي كبقية اقراني العرب باغنيات الراحل الجميلة ، الا أن صوته اعلاميا واذاعيا .. دعائيا وصحافيا أسكت عن عمد وعن سبق اصرار وترصد أصوات مصرية رائعة نحسّ بقيمتها اليوم نحن الثلة القليلة من المثقفين العرب . نعم ! لقد ضاعت أصوات رائعة كان يصدح بها : كارم محمود وعبد الغني السيد وعبد العزيز محمود ومحمد رشدي ومحمد قنديل ومحرم فؤاد وغيرهم من قافلة المبدعين الذين لم تعرفهم اليوم الاجيال الجديدة مع الاسف … لماذا ؟
ليس لأن هؤلاء ما كانوا بمبدعين ؟ وليس لأن هؤلاء ما كانوا بوطنيين ؟ وليس لأن صوت عبد الحليم أفضل منهم ؟ وليس لأن عبد الحليم غنى لمصر وثورتها وهم لم يغنوا لمصر وثورتها ؟؟ بل لأن دعاية محددة في الصحافة والراديو والسينما قد نجحت في رسم هالة واسعة حول اسمه ، ثم تبعتها آيات تبجيل وتعظيم .. وما ينطبق على الفن والغناء ، ينطبق على كل مجالات الابداع ليس في مصر وحدها .. بل على امتداد رقعتنا العربية ! وقد يعجب القارىء الكريم انني اليوم اصغي مليا لاغنيات الفنانين الذين غبن حقهم : محمد عبد المطلّب وعبد العزيز محمود وكارم محمود وعبد الغني السيد ومحمد قنديل ومحرم فؤاد .. وغيرهم اسمعهم اويقات الليل او في اطراف النهار .
الدولة وصناعة المبدعين :
ان صناعة المبدعين عملية ليست بصعبة ابدا اذا ما توفرت الارضية النقدية والفكرية الخصبة في تقويم الاداء واعطاء كل ذي حق حقه من دون خوف من اولئك الكبار في حياتهم ، ولكن الانكى من ذلك ان تبقى سايكلوجية الخوف تفعل فعلها حتى بعد رحيلهم .. وهذه الظاهرة التي عالجها الاخ جلال أمين لابد ان تثرى بالمزيد من الاراء والافكار بعيدا عن تفضيل عهد سياسي على آخر ، لأن المؤرخ في المستقبل سوف يكون له شأن آخر غير هذا المألوف الذي عشناه على امتداد النصف الثاني من القرن العشرين .
ان الصورة الواضحة ستبرز أمامه لتقول بأن مصر كانت من أعرق البلدان الشرقية في ولادة نهضتها الحديثة وفي وسائل الاعلام والصحافة في مقدمتها على امتداد قرنين من الزمن .. وعندما سيقرأ مؤرخنا في المستقبل تاريخ المبدعين النهضويين المصريين على امتداد القرن العشرين ، سيقف منذهلا عما كانت عليه لدى نخبها المبدعة في نصفه الاول ، وما آلت اليه لدى بعض أسمائها في نصفه الثاني ! وخصوصا بعد سيطرة الدولة على كل المرافق الاعلامية الحيوية ! فالمشكلة ليست في أذواق الجمهور ، أو هكذا يريد الناس ، ولكن المشكلة في من يسيطر على تحريك العواطف واحياء أو اماتة الاذواق لدى ابناء المجتمع ! وهو عمل سياسي بالدرجة الاولى تتحمل مسؤوليته الدولة على امتداد جيل كامل ، وبطبيعة الحال عندما يأتي جيل جديد يكون الخواء قد حصل لا محالة !

القصبجي مثلا ساطعا !
لولا مسلسل أم كلثوم الذي بثّ مؤخرا على القنوات الفضائية العربية ، ونال ايضا من الاعلام ما لم ينله أي مسلسل تلفزيوني آخر على الاطلاق .. لما كان الناس في الاعم الاغلب بعارفين من هو محمد القصبجي ! ولماذا غاب أسمه طويلا على مدى خمسين سنة أو أكثر سواء في حياته او من بعد مماته .. وبرز أسمه فجأة من خلال هذا المسلسل التلفزيوني الذي لم يكن بطله ، بل كانت كوكب الشرق أم كلثوم بطلته ؟ ببساطة متناهية : كان القصبجي فنان متميز غمط حقه وتاريخه وأبداعه طويلا على امتداد خمسين سنة .. وان فرصته التي وجد موهبته وابداعاته فيها قد اختفت عن المسرح الثقافي مذ اختفى ذلك العصر الليبرالي الخصب الذي ازدحمت فيه الطاقات والممارسات والمنتجات الرائعة ، ليس عند اسم معين أو اسماء محددة ، بل عند نخب عدة كانت لها خصالها المتميزة في كل مجالات حياة النهضة والابداع .
ان قريحة القصبجي لم تنضب ابدا ، كما يريد البعض من المحللين ان يقول ، ولكن الحياة التي كان القصبجي يعايشها قد نضبت ! لقد وجد الرجل نفسه فجأة على أرضية هي غير تلك التي كان يتحرك فوقها في الخمسين سنة الاولى من القرن العشرين ! واذا قال قائل : ان غيره بقي مستمرا في عطائه وابداعه أمثال : رياض السنباطي ومحمد عبد الوهاب وفريد الاطرش وغيرهم ، فاننا نقول : ان من يتوغل في اعماق القصبجي ، سيجده مختلف جدا عن أقرانه في التفكير الموسيقى ، اذ لا يمكن للرجل البقاء ضمن حيز واحد فقط من مقامات السلم الموسيقي الشرقي على غرار ما فعله السنباطي الذي كان يّنوع ألحانه ضمن حيز مقام واحد من ذلك السلم .. فضلا عن أن القصبجي لم يقتبس أي لوازم موسيقية عن غيره من المؤلفين الموسيقيين العالميين كما فعل الموسيقار عبد الوهاب والموسيقار فريد .. لم يفعل القصبجي ذلك ليسخّرها عربيا ، فتذيع وتنتشر اعلاميا وابداعيا .
ذروة في الاعماق :
كان القصبجي وأعماله شاهدة على مقدرته العليا على صياغة لوازم موسيقية اصيلة ، وقوية ، وصعبة .. فضلا عن ابداعه في بناء جملة الحان جديدة ومتماسكة مطّورا في الالحان العربية ومجددا في الموسيقى الشرقية . واعتقد أنه الوحيد الذي طّور الموسيقى العربية بأصالة واقتدار .. وكان من قبله الموسيقار سيد درويش الذي سبقه بجيل ! فالقصبجي في موسيقاه من الصعوبة بمكان ان يجد الاصوات التي يمكنها ان تصدح بها ، واذا كان الرجل قد وصل ذروته مع أم كلثوم في رائعة ” رق الحبيب ” ، فقد كان ذروته ايضا مع اسمهان في رائعة ” يا طيور ” .. ولقد أبدعت كّل منهما في ترجمة التفكير الموسيقي الخصب للقصبجي .. ولما رحلت اسمهان ذات الصوت الاوبرالي الواسع الى السماء قبل أن يبدأ النصف الثاني من القرن العشرين صفحاته ، فان القصبجي رحل بموهبته الخصبة في أعماقه والتي لم تستطع أم كلثوم ان تنتشلها كي تترجمها بفعل تأقلمها مع الصفحات الجديدة التي سببّت محنة نفسية وابداعية حقيقية للقصبجي .. فماذا حدث ؟
لقد بقي جسمه شاخصا امامنا مع كل معاناته ، ولكنه ابقى نفسه عن عمد وسبق اصرار عظيما ، ولم يهمّه أبدا ان يجلس عازفا على عوده في فرقة الست على امتداد لسنوات المتبقية من حياته ! ولا ندري كيف كان يفكر موسيقيا في تلك المرحلة الاخيرة من حياته ، وهو يعزف بهدوء على اوتار عوده تلك الالحان الشجية التي كان يضعها زميله رياض السنباطي أو تلك التي وضعها عبد الوهاب ؟؟ نعم ، كان يتقبلها ليس على مضض بل على استحياء كونه احتفظ لنفسه بموهبته وقريحته في أعماقه وربما كان الرجل يبكي في اعماقه ليس على يسمع من شدو الست الكبيرة امامه ، بل على ما حدث من انقلاب فاضح في مفاصل الحياة كاملة ! ولكن خل كان من السهل عليه أن يتقّبل الجمل اللحنية والموسيقية التي كان ينسجها غير السنباطي ؟ واذا كان يتقّبل كلمات شوقي وبيرم ورامي واخيرهم ناجي في القصائد الرائعة التي شدت الست بها ، فهل كان يتقبّل منها كلمات بقية اغانيها بكل تجّرد ؟
الافتراق عند طريقين :
انني اعتقد بأن الرجل كان يكظم آلامه في أعماقه ليخزنّها الى جانب ما كان يخزنه من الاحن ! وأقول : حسنا جاء رحيله قبل رحيل الست ام كلثوم سنوات عدة ، لأنه لن يسمع اغنياتها الاخيرة التي غنتها بعد الاطلال !! كما واعتقد ان الرجل كان يتمنى في محنته السايكلوجية لو توقفت الست واحتفظت بموهبتها في اعماقها أيضا منذ سنوات على رحيله ؟ أو بالاحرى ، انها رحلت في اعماقها بعد رحيله هو نفسه في أعماقه .. ولكن ليس في اليد حيلة ، ما دام الامر يتوقّف على رزقه الذي يقوم بسد متطلبات حياته واسرته !
ان الفرق المدهش بين هذا الرجل وهذه المرأة انهما مختلفين في تفكيرهما حقا ! لقد كان يريد لنفسه من خلال موهبته ان تسمو متجلية في الاعالي فيسبح من يسمع موسيقاه في عالم ملكوتي صعب غير موجود .. في حين ارادت الست لنفسها ان تنزل من عليائها التي كانت عليها في الاربعينيات لتسيطر على عالم سهل موجود فعلا كالذي توّفر عندها ببساطة وبين يديها في الخمسينيات والستينيات ! لقد اراد القصبجي ان يبقي مجده معلّقا في السماء .. في حين ان ام كلثوم ارادت ان تبقي مجدها على الارض فتسيطر على الاخضر واليابس ! ولا اعتقد بـــأن ” القصبجي الموسيقار قد سبق عصره ” ـ كما ذكر ذلك الاخ جلال أمين نقلا عن فكتور سحاب نقلا عن توصيف الست للرجل ، بل اعتقد ان القصبجي كانت ضحية تاريخ جديد فالعصر هو الذي سبقه ولم يكن هو الذي سبق عصره .. ذلك لأن ما استجد لاحقا في الخمسين سنة الثانية من القرن العشرين كان متدنيا مقارنة بما كان عليه الابداع الموسيقي المصري في النصف الاول منه !
كشف الحقائق : أجمل ما في التاريخ !
ان أجمل ما في التاريخ أن يكشف لنا عن حقائق جديدة ، بل ويزيل الغشاوة عن أدوار العمالقة الذين غيبّهم العصر المنكود باعلامياته الكاذبة وآلياته التعيسة باسم التقدمية والتطلعات الثورية .. وأعود لأقول : بأنها ليست ظاهرة فرعونية يا عزيزي دكتور جلال .. فلقد كان جيل الاستنارة الحقيقية : مصطفى كامل وقاسم أمين واحمد لطفي السيد واحمد شوقي وولي الدين يكن وسيد درويش وسعد زغلول وجرجي زيدان ومحمد عبده وطلعت حرب .. وصولا الى طه حسين واحمد أمين ومصطفى صادق الرافعي ومحمد فريد بيك ومصطفى عبد الرازق واسماعيل مظهر وسلامه موسى وعباس محمود العقاد واحمد حسن الزيات ومحمد القصبجي واسمهان وعبد الرزاق السنهوري ومحمد شفيق غربال وزكي مبارك ومحمد علي مشرفه .. وقافلة نخبوية من غيرهم بمعيتهم .. يأخذون ويعطون ، ينقدون وينتقدون ، يسمعون ويتكلمون ، يكتبون ويخطبون ، يمتحنون ويمتحنون ، يهاجمون ويدافعون ، يتعالون ويتواضعون ، يفكرون ويبدعون … صحيح غدا للادب العربي عميده لكنه لم يكن فرعونا .. وصحيح كان للشعر العربي أميره ، لكنه لم يكن فرعونا ، وصحيح كان للاجيال استاذها ، لكنه لم يكن فرعونا .. وهكذا كان لمنشىء الهلال وشاعر الشباب وشاعر القطرين وعميد المسرح وصاحب العبقريات … وغيرهم من الذين لم تصنعهم اعلاميات دولة اولا فيغدو فراعنة مجتمع ثانيا !
اشتراطات التغيير :
ان ظاهرة الخوف من نقد الكبار ليست فرعونية تاريخية ـ كما قال الاخ جلال أمين ـ بقدر ما هي سياسية مرحلية . صحيح ان وجودها آني على مستوى جيل ، وان تأثيرها سوف يستمر على مدى جيل أو جيلين .. ولكن أي محاولات نقدية ومكاشفات صريحة على اعمال الكبار ، فثمة وعي جديد سيولد ، وثمة تفكير جديد سيعمل ، وثمة فهم جديد سيرسخ في الحياة ليس المصرية حسب ، بل العربية كلها .. ولكن ضمن اشتراطات أساسية كالتي نادى بها وعمل بمضامينها رجالات الاستنارة من النهضويين العرب : احياء للتنوعات ، وممارسة للحريات ، واشاعة الشجاعة الادبية ، والحفاظ على الامانة العلمية والابداعية ، وخلق المعارك النظيفة بعيدا عن المهاترات والمحاكمات الشخصية ، واحترام للرأي الاخر والدفاع عنه .. والتخلص من التمجيدات والمفاخرات والتقريضات باحلال بدائل النقد وخصال الاختلافات والتعددية بمنتهى الشفافية .. بعيدا عن التخوين كما كان يجري في الامس القريب ، او التكفير كما هو جاري اليوم .. عند ذاك سيكون الخلاص من سايكلوجية الخوف التي لازمت الفكر العربي والثقافة العربية طوال عقود النصف الثاني من القرن العشرين .

مجلة الهلال المصرية ، يوليو 2000 .

شاهد أيضاً

فقرات من كلمة الدكتور سيار الجميل في حفل تكريم صديقه الفنان حمودي الحارثي في كندا الحفل اقامه اتحاد الفنانين التشكيليين العراقيين الكنديين يوم 29 /5 / 2011 على قاعة اسيمبلي هول في مدينة تورنتو

ايها الاصدقاء الاعزاء اسعدتم مساء شكرا جزيلا لاتحاد الفنانين العراقيين الكنديين استضافته لي هذه الامسية …