Home / محاضرات / بنية المجتمع العراقي .. محاولة في تفكيك التناقضات

بنية المجتمع العراقي .. محاولة في تفكيك التناقضات

المحاضرة التي القاها الاستاذ الدكتور سيّار الجميل في غاليري الكوفة بالعاصمة البريطانية لندن مساء يوم 20 ايلول/ سبتمبر 2005 والتي قدّمه فيها الاستاذ الدكتور ابراهيم العاتي عميد الدراسات العليا في الجامعة العالمية لدراسات الحضارة الاسلامية في لندن

القسم الاول
السيدات والسادة ..
اصدقائي الاعزاء
اسعدتم مساء والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .. انها فرصة ثمينة ان اكون بينكم في لندن لاتكلم في ” موضوع ” اعتبره واحدا من اخطر موضوعات العراق واهمها على الاطلاق ، شاكرا ادارة غاليري الكوفة على دعوتها لي ممثلّة بالاستاذ الدكتور محمد مكيّة وطاقمه الكريم ، واشكر الصديق الاستاذ الدكتور ابراهيم العاتي عميد الدراسات العليا في الجامعة العالمية للحضارة الاسلامية على تقديمه لي وما قاله بحقي من كلام لا استحقه . واشكر قدومكم وحضوركم متمنيا جدا ان نستفيد معا وخصوصا وان ” الموضوع ” يستوعب مزيدا من الافكار والاراء وبالاخص ان تفكيك بنية المجتمع العراقي بحاجة الى رفع الاغطية السميكة عن معلومات مسكوت عنها او انها كانت ولم تزل خفية عن الاعين . وساتكلم عن ” ثيمات ” معينة فالموضوع اصلا اشتغل عليه منذ سنوات في مشروع كتاب ، ولم انجزه بعد ، وما زلت استفيد من كل المداخلات والمعلومات والاضافات الجديدة التي تثري وتضيف اليه الشيئ الكثير .
لقد اختلفت الرؤى حول العراق والعراقيين كثيرا ، وهذا دليل على ان المجتمع العراقي يتميز بثقل موروثاته وتنوع ثقافاته وتعدد اجناسه .. وبالرغم من ان الثقافة العربية قد صبغت العراق وان العراقيين قدموا لها وللتاريخ وللوجود ابرع التكوينات الحضارية منذ فجر السلالات حتى اليوم .. وكان العراقيون برغم تنوعهم بين الماضي والحاضر قد قدموا لهذا الوجود منجزات كبرى ، الا ان مهد الحضارات شهد العديد من المجتمعات عبر العصور وقد تنوعت تنوعا كبيرا . ان كل ما نجده اليوم في مجتمع العراق هو نتاج سلاسل طوال من التاريخ الذي ينقسم عندي الى قسمين ( وقد اوضحت ذلك بالتفصيل في فلسفة التكوين التاريخي ) ، قسم سياسي يمثّل منتهى البشاعات وعلى نقيضه قسم اجتماعي يمثل اروع الحضارات ! ان مجتمع العراق اليوم يعّبر عن حالات عقيمة نتيجة افظع الاهوال التي مر بها ، وقد اجتمعت عنده ركامات من التناقضات وافتقد بعضا من انسجاماته وتعايشاته القديمة بحكم تفاقم اسباب وتفاعل عوامل داخلية وخارجية على امتداد خمسين سنة مضت .
دعونا نرى منتهى الطيبة والوداعة التي يقابلها منتهى التوحش والقساوة .. اروع التعابير والجماليات واخصب العواطف يقابلها اقبح الكلمات واسوأ التعابير والشتائم .. اقوى العلاقات الحميمية والمحبة يقابلها سلوكيات عدوانية وكراهية واحقاد .. عشق للعمل وتفان في اداء الواجب وحب الوطن يقابله فقدان الشعور بالمسؤولية وتنصّل عن القيم وكره لروح المواطنة .. الخ من الحالات التي تستدعي الانتباه والتأمل ، كوننا لا نجد حالات شبيهة بها ابدا لدى مجتمعات اخرى ، والتناقضات ليست دليل ضعف بل دليل قوة في مفاصل المجتمع – حسب رأي كارل مانهايم – .
ان ما حدث من تغيير في العراق لم يصب صدام حسين لوحده وزبانيته ودولته حسب ، بل اسقط كل الالهة التي كانت تعشّش في المجتمع منذ زمن طويل . التفت الي صديقي اللبناني وهو مختص معروف ومثقف بارع قائلا : لم اكن اعرف العراق الا بعد العام 2003 ! اجبته : انني انا العراقي فوجئت بالعراق وكل يوم سيضفي مفاجآت كثر ! العراق لم يكن واضحا على العالم بكل حقائقه ابدا .. كان عراقا مزيّفا مزيّنا وكأنه خارج للتو من الف ليلة وليلة من دون ان يدرك الخلق ان مجتمعه هو واحد من اكثر المجتمعات المعقدة في هذا الوجود . ومن هنا تأتي اهمية هذا ” الموضوع ” الذي يحتاجه كل عراقي يهتم ببلاده وبمستقبله وله القدرة على ان يشارك حقيقة في تغيير المنظومة السلوكية للمجتمع والذي لا يمكن ابدا ان يبقى على وضعه الحالي وقد ورث كل اسلاب الماضي الصعب وبقاياه المعطلة . وهنا اعترف بأنني ساتحدث في موضوع خطير جدا بالرغم من كونه ليس موضوعا سياسيا ولكن السياسة نتاجه شئنا ام ابينا .. كنت سابقا اسوة بكل العراقيين اخاف ان اتكلم بصراحة لاننا نخشى بطش الدولة ، وصرت اليوم اخشى بطش المجتمع . بقدر ما كانت الدولة في عهد البعثيين غليظة الطبع وقاسية الاساليب وتفزع كل الكائنات .. بقدر ما غدا المجتمع اليوم بمنتهى القساوة والبشاعة يعاني من همجية ووحشية مرعبة .. بكل انشقاقاته وانقساماته وتحزباته وهلامياته .. بكل ما حل فيه من الاحقاد والكراهية والبغضاء .. واذا كانت الدولة والنظام السابق عدوان لدودان ومعروفان للجميع ، فان المجتمع اليوم بكل تداخلاته لا يمكن ان نغدو اعداء له ، وخصوصا النخب التي ولدت في رحمه في الخمسين سنة الاخيرة من القرن العشرين .
سأعالج هذا ” الموضوع ” من خلال ثلاثة محاور ، هي : محور اول يتّصل بادوات الفهم المنهجي ونقد المصادر وتحليل مرجعيات فهم هذه ” البنية ” الصعبة . ومحور ثان يتعّلق بتفكيك مضامين التناقضات من خلال تحليل مكونات البنية الاجتماعية على اسس منهجية متعددة ، وهو العمود الفقري لهذا البحث .. واستعين في هذه الحالة ببعض ما ساعرضه عليكم من مصورات وخرائط وارقام والوان .. ومحور ثالث يتعلق بالاستنتاجات التي خرجت بها من هذا الموضوع ورسم صورة مستقبلية لما ستغدو عليه حياة العراق الاجتماعية في القرن الواحد والعشرين مقارنة بما كانت عليه في الماضي .. واتمنى ان اقدم بعض ما التأملات بصدد ما سيصادفه مجتمعنا من تحديات في المستقبل المنظور وحتى في المستقبل البعيد .
المنهج : تفكيك البنية الاجتماعية
دعوني اوضح المنهج الذي سأتبعه في هذه ” المحاضرة ” التي أراها مهمة جدا ليس في مضمونها وفلسفتها حسب ، بل في منهجها والاستنتاجات التي سأخرج منها خصوصا وانني لابد ان أوضح لاسماعكم بأن مثل هذا ” الموضوع ” على اشد ما يكون من التعقيد والتشابك ليس بسبب تعقيدات البنية الاجتماعية العراقية بحد ذاتها حسب ، بل لاسباب متعددة منها اننا نتحدث عن اقدم مجتمع في الدنيا اذ انه الوحيد الذي يمتلك تاريخا كلاسيكيا يكاد يكون الاعرق بين مجتمعات الدنيا قاطبة .. كما اننا نتحدث عن مجتمع لا يقتصر على عمقه الزمني ، بل على مركزيته الجغرافية في كل من العالم القديم وعالم اليوم ايضا .. اما البعد الاخر ، فان مجتمع العراق مزيج من بقايا ثقافات وحضارات متنوعة وعديدة ، فضلا عن كونه فسيفساء من السلوكيات المتناقضة التي افرزت هذا ” التنوع ” في الالوان وهذا التعدد في الاطياف . ثمة بعد آخر طالما يشدد عليه البعض عندما نجد تأثير المناخ القاري الحار جدا صيفا والبارد جدا شتاء على امزجة الناس .. وهنا يعتبر مثل هذا ” المجتمع ” من مجتمعات الندرة المتنوعة العجيبة الفاصلة تاريخيا وجغرافيا ومناخيا وحضاريا على حد تعبير كارل مانهايم ايضا في تصنيفه انواع المجتمعات العالمية .
من هنا لابد لي ان احدد جملة مختزلة من الخطوط العريضة التي يمكن ترسيخها من اجل فهم طبيعة البنية الاجتماعية العراقية فهما حقيقيا لا مزيفا ، وان تدرك كل الاولويات والابعاد في ظل اكثر من منهج يمكن اتباعه بعيدا عن كل ما كان يقيد العراقيين في الماضي الصعب من قيود واغلال .. واعتقد بان الاجيال القادمة ستكون اكثر قدرة على استيعاب تلك القيود والاغلال التي حكمت عقول العراقيين ردحا طويلا من الزمن .. لتبدأ حياتهم تتخذ له اساليب من نوع آخر في التفكير والتصرف والسايكلوجية المنفتحة التي قلما نجدها اليوم حتى لدى النخب العراقية التي يقال عنها انها متحررة من كل القيود الثقيلة ، مقارنة بما حظيت به النخب العراقية في كل من الخمسينيات والستينيات في القرن العشرين ، ولعل تحليلات جاك بيرك لقيمة تلك النخب تمنحنا الثقة بأن المجتمع العراقي قادر على العطاء والابداع عندما تمنحه حرياته الثقافية والاجتماعية قبل ان تطلق يده كي يعبث باسم الديمقراطية والحريات الشخصية .
ملاحظات نقدية
ثمة ملاحظات نقدية وأساسية لابد أن اثيرها ذلك ان قسم علم الاجتماع في جامعة بغداد كان اول قسم علمي يعتني بهذا العلم في منطقة الشرق الاوسط .. ولكنه بقي قسما خاملا باستثناء جهود الاستاذ الدكتور علي الوردي وبعض الزملاء الذين اشتغلوا على المجتمع العراقي .. ويعد قسم علم الاجتماع اخطر قسم علمي في العراق نظرا لتوجس الدولة العراقية بمختلف انظمتها السياسية من علم الاجتماع .. وعليه ، فان معظم كادر هذا القسم عملوا على بحوث نظرية ومحاضرات ناشفة لا تمت بأي صلة للمجتمع العراقي .. والاسباب عدة منها قبل كل شيئ تأثير الخوف من السلطة لمجرد التلميح الى اي تحليل علمي معمّق للمجتمع العراقي والخوف ليس من السلطة ، بقدر ما هو الخوف من المجتمع . وعليه ، نجد ان اي محاولة في فك الغاز وبنية المجتمع وفضح تناقضاته سواء في مجال الكتابة والنشر او في مجال المحاضرة والتدريس سوف لن تجد لها اي فرصة لتحقيق اي نتائج تعالج مشكلات المجتمع وتساهم في حل معضلاته الجسيمة .
لم يعد التحليل المادي وصراع الطبقات هو المنهج الاساسي في الدراسات الاجتماعية اليوم ، انما تستخدم اليوم عدة مناهج لا تعتني بالطبقات حسب ، بل تعتني بالانساق والوحدات الاجتماعية ، ثم تحليل انثربولوجية ثقافات المجتمع الواحد ومنهج القرابة في التأصيل والبحث عن عوامل ليست اقتصادية بالدرجة الاساس .. فالقيم الاجتماعية حسنة كانت ام سيئة في مجتمع كالعراق هي اكبر في كثير من الاماكن والاحيان من القيم المادية .. ثم هناك منهج المحليات والقوى الفاعلة لمعرفة الاصناف المتنوعة في المجتمع وخصوصا في مدن عريقة بالمهن فيها مثل الموصل وبغداد .. ثمة منهج يلتصق بكتابات جاك بيرك الذي اعتنى بالثقافة الاجتماعية والجماعات والنخب ودراسة منتجات ما تعبر عنه في حياتها الاجتماعية قبل اي شيئ آخر . اما منهج دراسة التنوعات الاجتماعية ، فلا يمكن تفكيك البنية الاجتماعية العراقية اليوم من دون الاستعانة بدراسة التنوعات لمعرفة حالة الانسجام والتناغم من ناحية ، ومعرفة حالات التناقض والتباين من نواح أخرى . واعتقد اعتقادا جازما بأن حالات التناقض والتباين هي المسيطرة والاكثر هيمنة على اعلب فصائل المجتمع العراقي .. وعنها ولدت الاحقاد والكراهية والبغضاء والبلاوي السوداء .
تحليل مصادر المعلومات
مصادر معلوماتنا متنوعة ولكنها صعبة المنال نجحت على مدى ثلاثين سنة من الحصول عليها من توالي الايام والسنين .. انها تتصل بتاريخ المجتمع قبل واقعه ، وهي تتنوع ما بين الرواية والحدث والنص .. وهي مضامين مخطوطات قديمة وارشيف تقارير سرية الى رحلات وسالنامات ومعلومات رسمية ووثائق واضابير ومذكرات ورسائل تتوزع في هذا العالم ، ناهيكم عن ما يحتفظ به العراق من ذخائر ثقافية وسياسية وسرية ورسمية ناهيكم عن احصاءات سكانية فضلا عن موروث ثقافي هائل لا يمكن السيطرة عليه بسهولة يمتد من فولكلوريات وقصص وتراث اجتماعي وامثال شعبية وحكايات واساطير ومنتجات ادبية وفنية وتعابير ومصطلحات عراقية بحتة .. الخ كلها لا تملك عشر معشارها مجتمعات اخرى .
من الامور الاخرى التي اود الكشف عنها ان سجلات المحاكم الشرعية العراقية ودوائر الطابو والتسوية والضرائب والنفوس .. وغيرها تلقي بكم هائل من المعلومات الرسمية التي لا تشوبها شائبة ، ولكنني وجدت ان معلومات المرجعيات الدينية مبتسرة منذ القدم ، فاغلب السجلات التي سمح لي الزمن ان اطلع عليها لا تعتني بالمعلومات الاجتماعية عن جماعاتها وفئاتها الاجتماعية بقدر ما تعتني بالامور الدينية والفقهية في المرجعيات الاسلامية واللاهوتية الكنسية في المرجعيات المسيحية .. وليس فيها الا معلومات شحيحة عن عقود زواج او مهور او اسماء موتى او نسخ من وصايا .. ولا يمكن ان يتاح الامر بسهولة حتى للعلماء في الاطلاع على المقبوضات المالية وحجم الانفاقات في كل المرافق الدينية العراقية وهي لا تعد ولا تحصى . ثمة امر آخر ، اذ ان كل ما انتجه المبدعون من الادباء والروائيين العراقيين المحدثين يقدّم مادة ثرية في معرفة التوغّل في مفاصل المجتمع وتعّلم جملة هائلة من السلوكيات شريطة معرفة ربطها بالواقع ناهيكم عن كيفية فهم تلك الادبيات التي تعج بها حياة العراقيين المحدثين . ولقد وجدت ان رسائل واطروحات الدراسات العليا عن مجتمع العراق هي اقوى مادة وتحليلات في تلك التي انجزت في جامعات غير عراقية مقارنة بمثيلاتها في جامعة بغداد .
ان ما يمكنني الاشارة اليه هو ان ما قدمه رجال الثقافة العراقيين من غير الاكاديميين في القرن العشرين من تجميع معلومات عن المجتمع هي اكثر بكثير من تحليل رجال الاكاديمية العراقية لتلك المعلومات .. ان اسماء مثل : انستاس مارى الكرملي وغروترود بيل والليدي آن بلنت وعباس العزاوي ومعروف الرصافي وبطرس نصري وادي شير ومحمود فهمي درويش ومصطفى جواد ويعقوب سركيس وصديق الدملوجي وامين المميز وداود الجلبي ومحمد امين زكي ويوسف رجيب ورؤوف الغلامي وجعفر الخليلي وعبد الرزاق الحسني وسعيد الديوه جي وجرجيس فتح الله وعبد الرحمن التكريتي وبابو اسحق ومير بصري ويوسف حبي وعبد الحميد العلوجي وسهيل قاشا وغيرهم ( ممن فاتني ذكرهم ) ، قد قدموا معلومات عن الاقليات والاديان والامثال الشعبية والطوائف والاصناف والعشائر اكثر بكثير مما قدمه اكاديميون عراقيون في القرن العشرين . المهم ملاحظته هنا ان علماء الاجتماع من العراقيين وجملة كبيرة من رجال الفكر العراقيين لم تستطع السيطرة على هكذا خزين اجتماعي ثر من اجل تحليل المجتمع العراقي ، وباسثناء محاولة او اثنتين من قبل بعض الاكاديميين العراقيين ، فان المجتمع العراقي بطوله وعرضه لم يدرس حتى يومنا هذا دراسة حقيقية ، او ان تفكك تناقضاته بشجاعة متناهية و ان تعالج جملة هائلة من عوامل الخلل فيه خصوصا وان تناقضاته هي التي افرزت حياته السياسية في القرن العشرين واصبح كل من المجتمع والدولة رهينة بيد موروث صعب جدا لا يمكن تخيله ابدا . صحيح ان مجتمعنا العراقي اليوم لا يتجاوز الثلاثين مليونا من البشر ، ولكن بنيته الاجتماعية معقدة جدا على اشد ما يكون التعقيد ليس بسبب التنوع والتعدد والالوان العراقية الزاهية ، بل بسبب الارث الثقيل لكل من عمق التاريخ والمركزية الجغرافية التي تمتع بها العراق منذ القدم .
ثمة دراسات عراقية وغير عراقية يمكننا ان نشير اليها ، ولكنها لم تعتن بالمجتمع بقدر ما اعتنت بالدولة اولا وبتحليل العلاقات الاجتماعية ومنتجاتها وهنا يبرز امامنا عمل المؤرخ الراحل حنا بطاطو الذي صرف عليه سنوات طويلة واخرجه بالرغم من كل اتعابه فيه الا انه عني بالطبقات الاجتماعية ومنتجاتها السياسية من دون فهم الاليات التي كانت تعمل في سياقات متنوعة ليس في السياسة حسب ، بل حتى في اصغر الوحدات الاجتماعية المعقدة . ان عمله يكاد يكون اثرى عمل لتاريخ اي مجتمع في منطقة الشرق الاوسط ، ولكنني ارجع لاقول بأن العراق اكبر بكثير ايضا من كل اتعاب مؤرخ واحد استطاع بقدرة قادر نجهلها حتى اليوم الوصول الى ارشيف العراق السري بسهولة لا يستطيع احد منا نحن المختصين العراقيين ان كان سيصل اليها ابان القرن العشرين . ان منهج بطاطو الذي استلهمه عن ماكس فيبر في تأثير القرابة الاجتماعية قد خدمنا في حقيقة الامر خصوصا وانه اعتمد المعلومة والرقم والجدولة الحسابية على عواهنها مما اوقعه في اخطاء جسيمة ، في حين انه لم يتوغل في الذي يكمن وراء المعلومة والرقم والحدث والشخصية بحد ذاتها . ثمة دراسات اخرى لابد ان اشير الى اعمال مفيدة ربما لم تعتن كفاية بالبنية الاجتماعية العراقية ، ولكنها حفلت بتفسيرات من نوع آخر تساعد في فهم المعلومات والاحداث والوقائع ولكنها لا تساعدنا البتة في فهم الظواهر والانساق واساليب التفكير ووراثة التقاليد ومؤثرات البيئة والتربية البيتية .. اشير في هذا المجال ايضا الى اعمال رصينة نشرها كل من : لونكريك وجاك بيرك والبرت حوراني وهاريس جورج لورانس وكوتلوف وغسان العطية ومارتن فان برونسين وجون ادموند والبرتين جويده وفالح عبد الجبار وكمال مظهر وبيتر وماريان سلاكليت ودينا خوري وايلي خدوري وهالة فتاح وجبار قادر غفور وخلدون ناجي معروف وعبد الجليل الطاهر وحسين علي محفوظ وسامي سعيد الاحمد وابرام شبيرا ومعن خليل عمر ورشيد الخيون وفوزية العطية وهاشم الجنابي وغيرهم .
ملاحظات على بعض الدراسات الاخيرة
لقد نشر خلال السنتين المنصرمتين ركام هائل من المنشورات والكتب عن العراق وخصوصا باللغة الانكليزية ، ولا يمكن للمرء ان يسيطر على قراءة ذلك مهما اوتي من زمن وجهد .. ولكن لابد لي ان اقف عند ابرز المراجع التي يمكنني تحليلها هنا والتي نشرها اساتذة وكتاب غير عراقيين وغير عرب .. ربما نشيد بجهودهم البالغة في ما قدموه للعالم عن العراق .. ولكن ليس بالصورة الحقيقية التي يدركها العلماء العراقيون مهما اوتيت للاخرين من فرص وامكانات .. وخصوصا من الناحية الاجتماعية . ان اعمالا رصينة كالتي نشرها مؤخرا كل من : روبرت اولسن وجيرارد غايلياند وساره شيلدز واريك ديفس واسرائيل كرشوني وتوبي دوغ وكنعان مكية ووليام كليفلاند وستيفن كلين وجوزيف ساسون ونانسي بيرك ويتزاك نقاش وافرا بينغويو .. وغيرهم لابد ان تكون عند اهتمام العراقيين ، ليس لكتابة عروض عنها ، بل لاخضاعها للنقد والدراسة .. ثمة مواقف مسبقة من حالات بعينها ، وثمة تجاهل لعناصر من المجتمع ، ولا استطيع بهذه العجالة ان اوضح اعتراضاتي على كثير من المعلومات التي سيقت خطأ في كتب هؤلاء وغيرهم .. اذ لا يمكن لأي محلل سياسي او مختص اكاديمي ان يغامر في تقديم معلومات عن المجتمع العراقي منقولة قيل عن قال من دون معايشة العراقيين ومعرفة مجتمعهم بكل تعقيداته وجزئياته وتفصيلاته .
القسم الثاني
الخارطة الاجتماعية ومعاييرها
لم ترسم حتى اليوم اي خرائط اجتماعية وهي ليست خرائط سكانية او خرائط في الجغرافية البشرية ، وهنا تأتي اهمية دراسة البنية الاجتماعية للعراق والتعرف على طبيعة الفسيفساء الاجتماعي الذي يتحدث به الجميع من دون معرفة كنه تفصيلاته ومعلوماته على وجه الدقة .. ومن خلال التجربة المتواضعة لي فانني اجزم بأن اي عراقي مهما كان صنفه او عرقه او بيئته او دينه أو طائفته .. لم يعرف العراق بعد من شماله الى جنوبه ومن شرقه الى غربه .. فكيف سيعرفه الغرباء معرفة حتى وان كانت سطحية !؟؟ وبقدر ما كان الامر مسكوتا عنه على مدى اكثر من خمسين سنة نظرا لأن العراقيين كانوا قد حبلوا بالسياسة وجبلوا بها واكلوها اكثر من الخبز ، واهتمامهم بالحركات السياسية والنزعات الايديولوجية والبيانات الثورية والشعارات القومية اكثر من اهتمامهم بالمجتمع فان هذا لم يكن سببا كافيا ، اذ ان المجتمع نفسه لم يعلن عن مخفياته التي لا تعد ولا تحصى .. !!
نعم ، كان المسكوت عليه اكبر حجما من المعلن عنه وما يعرفه هذا عن ذاك هو قليل جدا لا يستوف ابدا ومتطلبات معرفة المجتمع معرفة حقيقية .. فعندما يغني ابن الهور اي اغنية من اغنياته لا يمكن ان يفهم معانيها ومغازيها ليس ابن الموصل ، بل حتى ابن الفرات الاوسط ! والاثنين من ارومة واحدة .. ثمة امر آخر ، ان حكم البعثيين للعراق قد ساعد كثيرا على كتم الاشياء من دون التعريف بها اما استخفافا بها او عدوانا عليها ام تجاهلا اياها .. ولما سقط حكم صدام حسين ، بدأ العراقيون انفسهم يتعرفون لأول مرة على جملة هائلة من آليات بعضهم البعض الاخر . ان العديد من العراقيين قد فوجئ وهو من ابناء الخمسين عاما باشياء كثيرة لم يتصورها انها تكمن في العراق ولدى العراقيين انفسهم . ان اعظم ما كسبه العراقيين ( وغيرهم من بعدهم ) من تغيير نظام صدام سقوط الالهة وكل الرموز التي جعلت من نفسها وصية على المجتمع . لقد تحرر الانسان من الخوف ، ولقد انحلت عقدة اللسان التي استحكمت في القرن العشرين .. ولكن الانفجار قد سبب هزات اجتماعية مرعبة واعمال بدائية متوحشة اخذ العراقيون ينتابهم عامل الخوف مرة اخرى ليس من الدولة هذه المرة ، بل من المجتمع نفسه ! لقد انطلق العراقيون ليعبروا عن انفسهم تعبيرا حقيقيا او مشوها ، فهم حتى هنا انقسموا الى قسمين متناقضين اثنين ، قسم مؤيد للنظام الجديد ، وقسم لم يزل يوالي النظام القديم . فهذا يعّبر سلما وذاك يعبر عنفا ! وكم كنت اتمنى على رجال الدين العراقيين الكبار والصغار ان يبقوا مبتعدين عن السياسة ، كيلا تهتز مكانتهم وسمعتهم بين الناس بين شاتم من طرف وبين مادح من طرف آخر ، ناهيكم ان تركة العراق الثقيلة لا يمكن ان يحلها رجال دين ، بل انها بحاجة ماسة الى اناس اكفاء لهم خبراتهم وتخصصاتهم ومعرفتهم بحقائق العراق الكبرى والصغرى .
معنى التناقضات العراقية : الجدلية والصراعات
لابد من التعمق في معنى التناقضات التي تحكم بنية المجتمع العراقي من الناحيتين اللغوية والفلسفية ، ولكن من الاهمية بمكان ان نقّرب الصورة كثيرا من حالة مكشوفة للعيان يمكنها ان تكون مثلا ساطعا لكل مشكلات البلاد السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية .. وهي حالة يدركها الجميع القاصي والداني .. انها حالة صدام حسين الذي عرفه كل العالم بكل بشاعته وغرابته التي اعتبرها افرازا طبيعيا لكل تناقضات العراق في القرن العشرين !
كيف ؟
ربما كانت حالة واحدة ولكنها حماّلة جملة كبرى من الاوجه ومثقلة بركام هائل من التناقضات المفضوحة : لقد وجدناه عندما يتحدث بلهجته الجلفية التي لا يستسيغها ابناء العراق كلهم ، ولكنه مناقض لنفسه فيها وهو رجل دولة يقف على رأسها .. وجدناه ينتفض ويثور من اتفه الاسباب ويشعل الحروب ولكنه يتحدث عن تجارب التاريخ .. نراه يتصرف كالاشقياء العتاة وهو يسّمي نفسه بالسيد الرئيس القائد ( مع حزمة من الاوصاف التي لا تستقيم والمنطق او العقل ) .. نراه يقف بابهى قيافته الحديثة وقبعته الامريكية على رأسه والسيكار الطويل في حلقه وهو بين جموع المصفقين العراقيين الذين يرثى لحالهم وملابسهم الرثة الممزقة .. نجده يستخدم ارقى السيارات الفارهة مع ابنائه وصحبه واقرانه وابناء الشعب يستخدمون العجلات المهترئة القديمة ، بل ولم تزل الحمير تنقل مشتقات النفط العراقي في قلب بغداد .. نجده يحتفل احتفالات امبراطورية بيوم ميلاه والناس يسحقون من الفقر والجوع وهم يرونه جالسا في عربته المذهبة المخملية .. نجده ينتحل الاكاذيب ويلفق الاقاويل ويخدع الناس من دون اي حياء ولا خجل ولا اي اعتراف بالذنب .. نجده وقد اصبح وعائلته اشبه بالالهة بكل ما عرفه الانسان من جبروت ولكن يلقى القبض عليه في حفرة حقيرة نتنة وباسوأ مظهر عرفه حاكم في التاريخ .. الخ من جملة الامثلة والاستشهادات التي توضح لنا حالة جلية من التناقضات الصعبة ..
مجتمع تأكله التناقضات
لقد عاش العراقيون منذ القدم في ود وصفاء ، اذ تخبرنا كتب التاريخ ان التعايش والتواد والتواصل بين العراقيين كان مثلا يحتذى خصوصا كلما ابتعدنا في الماضي تبدو الصورة صافية ورائعة ، وكلما اقتربنا من التاريخ الحديث ، وجدنا زيادة ملحوظة في حدوث مشكلات ومعضلات ربما لا تصل الى درجة الصراعات وقتل العراقيين للعراقيين ، اللهم الا في حالة أخذ الثأر او تصفية الحسابات في حين نجد ان التعايش بلغ اقصى روعته وذروته في كل ارض العراق اذ وقعت على سندات ملكية عقارات يشترك في واحد منها مسلمين ومسيحيين في بيت واحد . لقد بدأت تناقضات العراقيين المعاصرين منذ تضاعيف القرن التاسع عشر ، والتي كان لابد ان تراعى مع بدايات تشكيل الدولة والمجتمع الحديثين عام 1921 عدة اعتبارات لاستئصال ركامات الماضي الصعب ومعالجاتها ، والانطلاق في مناخ زمني جديد ، ولكن برغم كل المحاولات الا ان حجم التناقضات وثقلها قد جعل المجتمع يتقهقر في العقدين الاخيرين كثيرا مع حجم ما اقترف من اخطاء كبرى . ان التناقضات نكاد نجدها في كل قسمات المجتمعات العربية ومجتمعات المنطقة ، ولكن المجتمع العراقي قد فاق الاخرين بتأثير تلك التناقضات واعبائها والتي انتجت تعبيرها السياسي والاجتماعي في اشكال متباينة .. ترجمتها الاحزاب السياسية والنزوعات القاسية وآليات القتل والتعذيب والفاشية والوشايات وتأليه الحكام وكتابة التقارير والثأر السياسي والنفاق السياسي والكبت الاجتماعي والتشفّي وسحل البشر وقطع الرؤوس واباحة المال العام والسباب والشتائم واذلال الضعفاء والخوف من السفهاء مع سلوكيات المكابرة والنفخات الفارغة والشوارب الكثة واستعراض الانوية والبطولة المزيفة والانتقاص من الاذكياء والمبدعين وبخس الاعمال الجيدة ونبذ الروح الجماعية .. .. الخ
اذا كانت الحالة التي وقفنا عليها استثنائية او ربما من يقول انها حالة شاذة ، فانني اقول بأنها حالة معّبرة بادق صورها عن مجتمع تأكله التناقضات ، فكيف يمكننا تصنيف ذلك ؟
تصنيف تناقضات الواقع الاجتماعي العراقي
اولا : ان التناقض الاجتماعي في العراق يأخذ أقصى مداه جغرافيا بين مجتمع جبال وهضاب واودية وعرة الى مجتمع سهوب وحشائش الى مجتمع سهول وزراعة الى مجتمع انهار وضفاف انهار الى مجتمع بوادي وصحاري الى مجتمع بساتين الى مجتمع اهوار الى مجتمع انواع جغرافية اخرى . ربما كان التأثير الجغرافي قليلا في صنع التناقضات ، ولكن على امتدادات السنين سيخلق انواعا من الامزجة الملتوية والسلوكيات المتنافرة .. فضلا عن ان جغرافية العراق المتماسكة بتأثير نهري دجلة والفرات قد خدمت المجتمع من شماله الى جنوبه باعتماده عليهما .
ثانيا : ان التناقض الاجتماعي في العراق يأخذ اقصى تنوعاته اقتصاديا بين مجتمع رعوي واخر عشائري وآخر قبلي ( والفرق كبير بين العشائري والقبلي ) ومجتمع زراعي وآخر صناعي وآخر تجاري ( بتنوعاته الكبيرة والصغرى ) وآخر مهني حرفي وآخر مدني وظيفي الذي يجاريه عسكري مهيمن .. مرورا بمجتمع طفيلي خلق حديثا وهو يجمع جماعات طفيلية متخلفة ولكنها تملك الملايين بلا حدود وقد تبلورت هذه الطبقة من خلال اسباب غير مشروعة وصولا الى مجتمع عمالي ( حتى للاطفال والنسوة ) وانتهاء بمجتمع تنابلة كالذي ينضوي فيه ملالي ورجال دين صغار في المدن لا تشغلهم الا المناسبات ويقابله مجتمع غجري ( الذي يسميه العراقيون بمجتمع الكاولية او القرج او المطاربة ) .. الخ عند حوافي المدن . هنا تصل درجة التناقض الى ذروتها بدءا من الشمال وخصوصا حول مدينة الموصل واطرافها وصولا الى مدينة البصرة واطرافها .
ثالثا : ان التناقض الاجتماعي يأخذ اقصى مداه نسويا عند المرأة العراقية التي ربما تعاني اليوم ليس من مجتمع ذكوري حسب ، بل من هيمنة التخلف باسم الدين تارة وباسم التقاليد تارة اخرى .. والمجتمع الانثوي العراقي نفسه يعج بتناقضات هائلة بعد ان كان يتطور ببطء منذ الخمسينيات ، ولكن ماذا نجد اليوم ؟ ففي الوقت الذي تجد المرأة العراقية قد وصلت درجة راقية من الابداع والثقافة الحديثة تنتشر الدلالات في مجتمع كسيح بكل الشوارع العامة وقد زحفن حتى الاردن وسوريا .. وبالوقت الذي تجد المرأة العراقية ذكية وعملية وربة بيت ماهرة وموظفة وطبيبة ومعلمة نشيطة ومزارعة تتحمل كل المشاق .. تجدها مضاعة حقوقها الشرعية والمدنية وانها اليوم منتكسة في كل مكاسبها لما آل اليه وضع العراق بسيطرة الاحزاب الدينية على الحكم ! بحيث يمكن قياس المأساة من قهر حتى النسوة المسيحيات من قبل الجماعات الدينية المسيطرة .
رابعا : ان التناقض الاجتماعي يأخذ مستوياته غير المتكافئة في العراق طبقيا ، اذ ان تناقضاته فاضحة جدا لواقع غير عادل ابدا ، ومن الصعوبة جدا تحقيق اي عدالة اجتماعية فيه ما دام هناك مجتمع محافظ ومجتمع مهترئ .. مجتمع تجار ومجتمع مهن .. مجتمع احياء حديثة ومجتمع ازقة .. مجتمع جماعات فنية ونخب وثقافة ومجتمع جماعات دينية وسدنة وحسينيات .. مجتمع افندية ومجتمع دشاديش .. مجتمع ادب عربي ومجتمع ادب شعبي .. ومجتمع الادب الشعبي مصنف بين شعر اهل مدن وشعر اهل ريف وشعر اهل بادية .. هناك ايضا : مجتمع نوادي ومطاعم وعلب ليل ومجتمع صوامع وتكايا ومناسبات دينية.. ( كان من المفروض ان يغدو المجتمع العراقي كله مجتمع افندية باحذيتهم الجلدية اللماعة ولكنه آل الى ان يغدو مجتمع دشاديش قذرة ونعل بلاستيكية ) !! ولعل اظرف التناقضات وجدتها في عراقيين كثر ، منهم من يؤدي طقوسه الدينية باوقاتها وقد غدت عادات اجتماعية ليس الا ، في حين اسمع عراقيين اخرين منهم يستخدمون اقذع انواع الشتائم والسباب بحق احدهم الاخر ، بل وبحق رب العباد وبشكل علني !!
خامسا : لقد انجب مجتمع العراق العديد من الشخصيات غريبة الاطوار التي تجتمع عندها جملة هائلة من التناقضات ، وهم كثر ليس في حياة المجتمع بل في حياة الدولة . ومنهم : رؤساء جمهورية ورؤساء حكومات ووزراء وقواد وضباط واساتذة جامعيين واعلاميين ورجال اعمال .. الخ ولابد من وقفة مطولة عند هذه الظاهرة الاجتماعية التي لم ازل اتابعها حقيقة منذ فجر عصر السلالات وكلاسيكيات الثقافة العراقية مرورا بالعصور الوسطى وما افرزته مجتمعات مدن العراق ابان العصر العباسي وانتقالا الى العهود التالية وصولا الى العهد العثماني وما كان في العراق من ثقافات غريبة حملها اناس غير طبيعيين ابدا .. وانتهاء بالقرن العشرين وما انجبه العراق من عدد كبير منهم لا نحظى بمثلهم ابدا في بيئات اخرى في الشرق الاوسط .
سادسا : بقدر ما نجحت الدولة العراقية في القرن العشرين ببناء مؤسسات قوية لها ، الا انني اعتقد بأنها قد اخفقت في بناء مجتمع متماسك .. وبقدر ما نجحت الدولة في تعظيم نفسها ، فشلت في خدمة المجتمع وجعله مجتمعا متواضعا متسامحا .. وكم كان رائعا لو بقيت الدولة في خدمة المجتمع لا ان يحدث العكس ، عندما بدأت الدولة بامتهان المجتمع واخذت تستخدم تناقضاته من اجل ابقاء انظمة الحكم تتلاعب بمصير العراق كله .. وبقدر ما كان الجيش العراقي الذي يشيد به الجميع يمتاز بالقوة والرهبة ، والادعاء بأنه من الشعب واليه ، الا انه فشل في يكون مدافعا حقيقيا عن المجتمع ونجح في تأليه الدولة ومن ثم السلطة .. لقد كان المجتمع يكره في قراره جيش العراق كراهية عمياء ، ولا اظن ان عراقيا واحدا كان يلهث وراء خدمة العلم ، لأن جيش العراق جمع كل التناقضات المتوحشة وخصوصا في العهود الجمهورية واستخدمت فيه كل الوسائل غير الانسانية في اذلال الاقليات وامتهان كرامة الاصلاء وتفشي الرشوة والمحسوبيات واستخدام كل البشاعات . وكان جيش العراق وراء كل الهزات والانتفاضات والقمع والاحكام العرفية والانقلابات الدموية !! بل وسجل فصولا مأساوية من قمع المجتمع في عهود مختلفة .. ولا استطيع ان اشهد اجيالا قادمة ستحتفل بكل ما صنعه جيش العراق في القرن العشرين في الحروب التي خاضها .. ناهيكم عن النهاية التي انتهى اليها في كل من عام 1991 وعام 2003 .
سابعا : لعل اخطر من ساهم في العبث بمجتمع العراق واذكاء تناقضاته هو ذلك البعض من زعمائه الذين تولوا قيادته بعد حكم الزعيم عبد الكريم قاسم الذي كان يعشق شعبه ، ولكن لم يدرك او يفهم تناقضاته ، فغلبت عاطفته على المنطق .. اما عبد السلام عارف ، فلقد اثار جملة هائلة من التناقضات عندما لعب باسم الدين على المجتمع ، فاغاظ المسيحيين ، ونبش في المسألة الطائفية التي تعتبر صاعقة حارقة على من يستخدمها .. ناهيكم عن كل الجنايات التي ارتكبت في عهده باسم القرارات الاشتراكية وما نتج عن ذلك من تأثيرات مخّلة بطبيعة المجتمع العراقي التي تختلف اختلافا جذريا عن مكونات المجتمع المصري وطبيعته .. ولما تولى البعثيون حكم العراق ، فجّروا المزيد من التناقضات ، وعرف عن كل من احمد حسن البكر وصدام حسين انهما يكرهان بتأثير قرويتهما حياة المدن واساليب مجتمع العراق العليا .. ولقد بقيت عقدة صدام حسين ملازمة له حتى الرمق الاخير عندما كان يسمع العالم بأن مجتمع العراق لم يعرف الاحذية وان العراقيين لبسوها على عهده .. ان مجرد القاء مثل هذه الاوصاف ، فهي كافية لتفجير تناقضات من كل حدب وصوب .. ناهيكم عما فعلته الحكومات من اختلال في الهيئة الاجتماعية العليا بمصادرة الاراضي الزراعية باسم الاصلاح الزراعي الذي اضرت سياسته بالانتاج الزراعي العراقي منذ ذلك الوقت حتى اليوم .
ثامنا : هذا ينقلنا الى ظاهرة اشاعها الكتاب والساسة التقدميون وخصوصا من الشيوعيين العراقيين الذين قالوا بوجود الاقطاع في العراق ، وعلى اساسه صدرت جملة من القرارات المجحفة بحق الملاكين . وهنا لابد لي ان اتوقف قليلا ذلك انني لا اجد اقطاعا في العراق مقارنة بما كان في مصر ! ان هناك في العراق شيوخ قبائل وشيوخ عشائر ينتشرون في الريف العراقي وكل شيخ ينضوي تحت اسمه المئات من الفلاحين الذين يستمدون منه قوتهم وحياتهم .. ان الاقطاع لا اجده في العراق ابدا باستثناء ما كان هناك من اقطاع في العمارة . صحيح ان هناك من شيوخ القبائل من يمتلك الاف الدونمات من الاراضي ، ولكنه لم يكن يمتلك الفلاحين ، فالفلاحون العراقيون يحسبون ضمن منظومته العشائرية ضمن قانون دعاوى العشائر . ان ما صدر من قرارات قد اخل بالمعادلة الاجتماعية وفجّر جملة هائلة من التناقضات .
القسم الثالث
عوامل رسوخ التناقضات
ولا يمكننا ان نقف على تناقضات تصل الى حد الصراعات في تاريخ العراق الاجتماعي ، وهنا لابد من القول :
اولا : ان مجتمع العراق قد صادفته عدة متغيرات وعاش صفحات متنوعة عبر زمن طويل .. فلا يمكن ان نقيس مجتمع العراقيين في العصور الكلاسيكية كالمجتمع الذي تمتع به العراقيون ابان العصور الوسطى مقارنة بما اتصف به المجتمع العراقي في العصر الحديث اي منذ بدايات القرن السادس عشر حتى بدايات القرن العشرين .. ومنه ولد في رحمه مجتمع العراق ابان القرن العشرين ونعتبر جزءا منه .. وهو الذي يتوالد عنه مجتمع القرن الواحد والعشرين ويرث تركة مجتمعنا بكل ما له وما عليه .. تبقى مسألة غاية في التعقيد تتحرى مجموعة اجابات تضم حقائق واجتهادات لا حصر لها عند علماء التاريخ الاجتماعي ، وهي التي يمثلها تساءل يقول : ما الذي يحمله مجتمع العراق اليوم من بقايا وجذور الماضي ؟ ولكن اي ماض ؟ انني أؤمن ايمانا راسخا كما وضحّت ذلك تاريخيا في كتابي ( بقايا وجذور : التكوين العربي الحديث ) المنشور عام 1997 ، او كما حللت ذلك فلسفيا في كتابي ( المجايلة التاريخية : فلسفة التكوين التاريخي ) المنشور عام 1999 . انني أؤمن بأن المجتمع العراقي قد ورث موروثات هائلة من الماضي الصعب والمتعب وخصوصا ما حدث ابان القرون الاربعة التي سبقت القرن العشرين .. وان مجتمع العراق ( الذي اسموه بالحديث ) قد ورث كل بلايا ماضيه ، ولما اصطدم صدمات صاعقة بمكونات ومنتجات ومعطيات العصر ولدت عنده تناقضات هائلة اسوة ببقية المجتمعات العربية والاسلامية في المنطقة ، ولكن اكاد اجزم بأن تناقضات العراق اكبر بكثير من تناقضات الاخرين .
ثانيا : ان التحديات الخارجية التي ألمت بالعراقيين قد ولدت جملة تعايشات متنوعة ولكن هذا لا يمنع من ان نجد ركاما من التناقضات التي حكمت المجتمع العراقي في تراكيبه الثلاثة ، المدن والريف والبادية .. فلقد شهدت المدن صراعات داخلية محلية لم ترق الى ان تبقى مزمنة ودائمة وخصوصا بين طرف واخر او بين محلة واخرى .. والاسباب عادة ما تكون اقتصادية ومعيشية بالدرجة الاولى .. اما الارياف ، فلقد شهدت هي الاخرى تناقضات وتعايشات في آن واحد وكثيرا ما نجد تحول خلافات عشائرية الى صراعات دموية .. وكانت البوادي ولم تزل تشهد صراعات نتيجة تناقضات اجتماعية بين طرفين واسبابها اجتماعية واقتصادية بالدرجة الاولى . ولم تقتصر الصراعات التي تولدها تناقضات شتى على ملة معينة او طائفة محددة او قرية معلومة .. بل انما تشمل المجتمع باسره .. ولابد ان نتذّكر بأن العلاقات الاجتماعية العراقية بقيت متباينة في نزوعاتها وتتوارث جملة هائلة من الموروثات والعادات والتقاليد البالية التي كانت تسبب بحد ذاتها صراعات مزمنة تترسب عنها تناقضات صارخة .. ان التركات والثارات والخاوات والنهية والزيجات والارض والماء والارواء .. الخ كلها تقف وراء ركام هائل من الاختلافات .. وتخبرنا بعض الروايات ان خلافات طوال بين عشائر او اسر وعوائل دامت لعشرات السنين . وثمة صراعات خفية تذكيها تناقضات اجتماعية دينية او مذهبية في مدن معينة دون اخرى ..
ثالثا : تعتبر الطائفية خازوقا مدقوقا في قلب العراق منذ قرون مضت – كما يذكر احد اصدقائي العراقيين – ، وهي بلاء ارعن ابتلي به العراق .. وحاول العراقيون المدنيون اخفاء تناقضاتهم الطائفية ردحا من الزمن ، ولكن هذا البلاء عاد من جديد ليشكل اسفينا شائكا وصعبا لا يمكن انتزاعه بسهولة في اي تنظيم سياسي او اي مؤسسات للدولة ، فما بال الدولة ان كانت تتبنى النزعة الطائفية وتكرسها دستوريا ! ان اي اعلان لاذكاء اي مشكلة اجتماعية او سياسية في العراق من قبل طرف طائفي ضد الطرف الاخر .. معنى ذلك تكريس للتناقضات واحياء مشروع خلافات كانت مختفيا ودعوة صريحة للصراع الاجتماعي وهو اقسى بكثير من الصراع السياسي . ولابد من القول ان اي تدخل ديني من قبل اي مرجع ديني في اي قضية سياسية في العراق ، معناه تأجيج مواقف الاطراف المخالفة .. وعليه ، فالعراق كما قلنا واعدنا وكررنا منذ الساعات الاولى لسقوط الطاغية لا يمكن ان يحكمه اي حزب ديني ولا اي جماعة دينية ولا اي دستور ديني . ان خلاص العراق دولة ومجتمعا لا يتم الا من خلال مؤسسات معلمنة ( = مؤهلنة – كما اسميتها – ) يمارس السلطة فيها عراقيون مدنيون وان تختفي الهوية الطائفية سياسيا . فكل طائفة لها اجندتها الدينية المخالفة للاخرى ، فطالما عبر ذلك في الطقوس والعادات والتقاليد الاجتماعية والمشاركة فيها ، فليس له خطورته مقارنة اذا ما استمدت السياسة العراقية مواقفها من اجندة دينية ( أي بمعنى : طائفية ) . واستطيع القول كما كان يردد عقلاء من رجالات العراق بأن كل المشكلات العرقية والقومية والاقلياتية لها حلول الا المشكلة الطائفية التي لا حل لها الا باخفائها في العمل السياسي والوطني تماما ومن اي مشروع حقيقي للعراق .
رابعا : عندما يتشدق البعض انهم سلالات حضارات قديمة وان عمرهم الحضاري يتجاوز سبعة الاف سنة .. فهذا خطاب فيه دليل صحة عندما نجد النخب العراقية الذكية التي تتمتع بخصال اصحاب الحضارات الاولى ، بل وما ورثه العراقيون في لهجاتهم وفولكلورياتهم واساليب حياتهم .. ولكن الامر لا ينطبق على عموم مجتمع مهترئ بعاداته وتقاليده البالية التي تجسد التخلف بكل ابعاده .. ان اعتلال مجتمع العراق وهو يحمل كما هائلا من عوامل التخلف والذهنية المركبة والشخصية المتناقضة قد ادى الى اختباء كل الاذكياء وهروب كل العقول وشقاء كل المفكرين وسيطرة كل البلداء وهيجان كل الاشرار وعصف كل المتطرفين والمتعصبين وهيمنة كل الطفيليين .. ربما تخدمنا آراء جملة من القادة والزعماء ورجالات الفكر والخبراء والرحالة والمستشرقين الذين اختبروا العراق ومهروا في الكشف عن حقائق المجتمع العراقي .. لا يمكننا ان ننسى ما كتبه او قاله عن اهل العراق كل من : المؤرخ هوميروس والامام علي ( رض ) والامام الحسين ( رض ) والامام الشافعي ( رض ) والخطيب البغدادي وابن جبير وابن بطوطة والمحبي والعمري وصولا الى المس بيل والملك فيصل الاول ونوري السعيد وعلي الوردي ..
خامسا : من الاهمية بمكان ان انقل عن كتابي ” انتلجينسيا العراق : دراسة في النخب العراقية المثقفة ” النص التالي : ” تنوعت مواقف المثقفين العراقيين إزاء السلطة، نتيجة لتبدل السلطات وتنوعها هي الأخرى على مدى قرن كامل، هكذا، اختلفت توجهاتهم باختلاف طبيعة الأساليب الثقافية أو الثقافوية التي اضطلعوا بالتعامل معها، ومن ثم تم التفاعل فيها، وقد تلاشت معظم توجهاتهم الواعية وطموحاتهم في الإصلاح والتغيير كونهم اصطدموا بالتناقضات الاجتماعية جنباً إلى جنب مع الواقع السياسي المرير، لقد كان المجتمع أقسى عليهم كثيراً في أنماط تفكيره ومجمل علائقه الأسروية والبيئية، وتقاليده وعاداته، وأنساقه المتخلفة في المحليات والأطراف، إلخ، وطالما اتهموا بانتمائهم إلى الطبقة البرجوازية وأنهم ابتعدوا عن مصالح المجموع. لقد كان مجتمعهم قاسياً عليهم بسلطاته القسرية المتعددة التي أحكمت قيودها على أي مثقف كان يحمل فكراً مستنيراً ويعلن بجرأة عن مواقفه الحرة والصريحة إزاء سلبيات المجتمع وأمراضه، كان المجتمع لما يزل أقوى من المثقف المستنير، فيشقى بوعيه وأفكاره وتجاربه، ويجد أن مجال التثاقف هو الأقوى والمسيطر بفعل السلطات الاجتماعية متعددة الأطراف التي تخدم التخلف.
سادسا : هناك – أيضاً – سلطة العقائد والتقاليد والطقوس الاجتماعية المتوارثة، وسلطة قوانين (= أعراف) العشيرة، وشكليات العلاقات المهزوزة، وموروثات المؤسسات الوقفية والتفكير المرتبط بتلك الموروثات، ثم الطرائقية الصوفية (= التكايا والزوايا) كانت ولما تزل أشكالاً من قهر السلطة السوسيوتاريخية الارثية، وقمعها لنخبة الاستنارة والمثاقفة، فكان أن ظهر تعارض مطلق ناشز بين الذات الاجتماعي المعقد الذي كان يريد إرضاء افق التفكير السائد بكل أنساقه الافقية، وبين الوعي الحقيقي بالتغيير، والنضال من أجل إجراء التحولات على الصعيد الفكري الحديث، صدامات متعددة بين المهن القديمة (= طبقة الصناع التقليديين/ الحرفيين والتجار الصغار) وبين المهن الجديدة (= فئات مثقفة من الصحفيين والمحامين والأطباء..)، تعارضات ساخنة بين الأجهزة الدينية في الجوامع وتدريس العلوم الدينية المتوارثة (= المدارس الدينية) وبين المؤسسة التربوية والتعليمية الرسمية ( = المدارس الحديثة)، باختصار : حدوث تناقضات واسعة النطاق بين الاعتبارات الافقية القديمة المسيطرة وبين المؤسسية العمودية الحديثة ووسائلها ” .
سابعا : الاحادية : كانت نزعة الاحادية بالنسبة للمجتمع مقتلا له ومصرعا لحياته .. العراقي احادي بطبعه لا يرضي على احد ولكنه يريد من هذه الاحد تقديسه !! لقد كان هناك الملايين يوالون الزعيم الاوحد ، وهناك الملايين ينضمون ويسجلون في الحزب الواحد .. وهناك تأليه السيد الرئيس القائد انه التماهي بين النزعة الفردية ومصرع الروح الجماعية .. ما اجتمع عراقيون الا واختلفوا .. كل واحد يريد لنفسه وكل واحد يريد لذاته .. اختلافات العراقيين اكبر من اتفاقاتهم .. كان على الدولة ان تعمل على زرع روح الجماعة في المجتمع وترّبي وازع الثقة والاحترام ، ولكن هذا لم يحدث ابدا .

البنية الاجتماعية
ان بنية المجتمع العراقي لا تقتصر على ثنائية استاذنا علي الوردي في البداوة والحضارة ، فلقد نشرت منذ زمن ليس بالقصير افكاري حول المجتمع العراقي بتشجيع من الاستاذ المؤرخ البرت حوراني الذي اهتم بها اهتماما كبيرا ، ولما طرحتها مؤخرا على الاستاذ علي الوردي نفسه وافقني على الثلاثية التي اظهرتها والتي كانت سببا من اسباب تفجير تناقضات المجتمع العراقي بديلا عن ثنائيته التي كان قد اذاعها قبل خمسين سنة ، فلقد قال الرجل بأنها تمتد بين الحضارة والبداوة وان تصادمهما قد سبب وبالا على كل ما في المجتمع العراقي من ادران وكثيرا ما طغت البداوة حسب رأيه على الحضارة .. وهنا يمكنني القول بِأن المدينيين ليس شرطا ان يكونوا متحضرين ، فالناس المدينيون ( Urban people ) شيئ والناس ( Civilized People) شيئ آخر ! اما ثلاثيتي التي تنص على تصادم كل من المدينة والريف والبادية هي التي انتجت كل هذا التلاقح من المشكلات التي قد تصل في ظروف قاسية الى المعضلات الصعبة . فلا يمكن اعتبار البداوة في صدام دائم مع التمدن ، لأنني اعتبر مجتمعات البدو لا تحمل بقايا معقدة جدا بقدر ما تحمله بقايا الريف العراقي الذي تعّرض لاقسى الحملات التاريخية واشنع المعاملات الاجتماعية ليس من ابناء المدن حسب ، بل من السلطات في الدولة .. وكان ” الفلح ” ( = الفلاحون ) ادنى بدرجات من غيرهم في العراق .. وابناء الريف يحملون دوما احقادهم على ابناء المدن لاسباب اجتماعية بدرجة اساسية ليست سياسية ولا اقتصادية ، بل ربما غدت تاريخية بفعل التناقض العسير بين الدواخل في المركز و( الاطراف ) في المحيط .
على امتداد قرون طوال كانت ابواب المدن تغلق على الساعة السادسة مساء وتفتح في السادسة صباحا فقط ويبقى المحيطون بها يعيشون من وراء الاسوار .. كان المحيط يعيش عيشة صعبة في الذي اسمي بـ ( الصرايف ) وهذا الحال اجده في بغداد والموصل والبصرة وكركوك واربيل والنجف والكوفة .. ان المدينة والريف والبادية : ثلاثية اجتماعية متنافرة سبّبت كل الجحيم السياسي في العراق ، بحيث تركت بصماتها حتى على الاحزاب السياسية والقوى الثورية باعتبارها من منتجات ذلك الصراع الاجتماعي الذي يتصدّره ابناء المدن بكل طبقاتهم الاجتماعية العليا والوسطى والدنيا .. ثم ابناء الريف الذين لا يمكنهم ان يعيشوا من غير التعامل مع المدن واسواقها .. ثم ابناء البادية الذين كانت لهم صلاتهم بما وراء خارج حدود العراق حتى اليوم اكثر من علاقتهم بدواخل العراق .. ولكنني اجد ان العلاقة بين البادية والمدينة هي اقل صراعا من علاقة الريف بابناء المدن .. ان ابناء المدن هم خليط من اجناس وثقافات مختلفة ولكن صهروا في بودقة العراق الثقافية وهي عربية بالضرورة بحكم الاصول الاولى التي سكنت مدن العراق حتى لما قبل الاسلام .. ولكن هذا لا يعني ان المدن العراقية الرئيسية كانت لكل منها ثقافتها المتنوعة الخاصة بها ، وسأركز على هذا الجانب بعد قليل .
ولكن لا يفوتني ان اذكر بأن ورثة من اسر وعوائل تركية عثمانية توطّنت العراق بحكم مناصب رجالاتها سواء الادارية والانكشارية ومنهم خزندارية ودفتردارية وعلمدارية وكتخدارية .. الخ فضلا عن الاسر القوقازية واغلبها جركسية وداغستانية توطّنت بغداد وخصوصا في منطقة الوزيرية ببغداد . ثمة ملاحظة اخرى نجدها واضحة تمام الوضوح ان اسرا من اصول كردية استعربت في مدن عراقية عديدة بحكم اعمالها التجارية والدينية .. ولابد ان اذكر شيئا له غرابته بعض الشيئ ذلك ان اشرس القوميين العرب الذين حملوا لواء العروبة وانضموا الى حركات قومية وفاشية في العراق هم من اصول غير عربية بدءا بساطع الحصري ( من اصل تركي ) الذي حمل لواء القومية العربية بسامي شوكت ( من اصل قوقازي ) الذي دعا الى صناعة الموت القومي ، ورشيد عالي الكيلاني ( من اصل كيلاني ) الذي تزعم حركة 1941 القومية ، وطه ياسين رمضان ( من اصل كردي كوياني ) وسيده صدام حسين ( الذي احقق الان في اصله وفصله فالمعلومات الخفية تقول عنه انه من اصل منغولي والمولود في قرية الشويش قرب كركوك وليس في العوجة التي يعرفها صبيا شقيا ) !! ( التقيت بأناس يعرفونه وهم من البو عجيل القاطنين على الضفة الاخرى من دجلة مقابل العوجة ) ونفوا علمهم بذلك ، ولكن شواهد اخرى تؤكد ذلك .
وعليه اجد ان اسرا وعوائل وارومات شتى من تركية وكردية وفارسية وقزوينية وجركسية وتركمانية وقوقازية وافغانية وداغستانية وهندية وكيلانية ومنغولية قد تعّربت واصبحت عربية بفعل توطنها الطويل في بيئات عراقية .. كما كان الحال بالنسبة الى اليهود والصابئة المندائيين والجرامقة والاراميين القدماء الذين انصهروا ايضا في بودقة العراق الثقافية في المدن منذ القدم ، ولم يعد يسمعوا لغاتهم القديمة الا في معابدهم العتيقة .. اما في الريف ، فان نسبة التحرر من الاصل هو بالضرورة اقل كما نلحظ ذلك عند الاراميين من اثوريين وكلدان او كما نجد ذلك عند التركمان والاكراد وبقية الارومات الاخرى . ان التركمان قد تنوعوا في العراق وهم من بقايا الدول التركمانية التي حكمت العراق او اجزاء من العراق سنّية كانت ام شيعية ومنهم بقايا سلجوقية وبايندرية وقرمانية وقزلباشية وصفوية ونادرية وقاجارية .. وقد استوطنت في مناطق متنوعة من شمال العراق ، منهم في تل عفر وبعض قراها غربي الموصل .. او في شرق دجلة عند كركوك والتون كوبري وكويسنجق وطوز خورماتو وغيرها .. وتكاد كل من الموصل وبغداد قد استقطبتا متوطنين تركمان لهم تنوعهم وغدوا مع توالي الايام ابناء مدن بعد ان تحولوا من الريف الى حياة المدن .
في حين بقيت البادية معزولة تماما في اعماق الصحراء والبوادي عن تأثير هذه التنوعات بالحفاظ على الروح البدوية والقبلية والرعوية كما هو الحال في البدو العرب في البوادي والبدو الاكراد في اعماق الجبال والبدو التركمان في مناطق المرتفعات . ثمة جيوب عراقية في اماكن عديدة وخصوصا في اقليم موزيبوتيميا الاعلى تشكلها اجناس اجتماعية منعزلة ولها تناقضاتها حتى في تشكيلاتها نفسها ، فاليزيدية تمتد قراهم في جبل سنجار وفي جبل بعشيقة وبحزاني ، والقزلباش التركمان المتعصبين الذين استوطنوا شمال شرق العراق ، وهناك افغان وفرس عجم وبختيارية استوطنوا مناطق عدة من شرق ووسط العراق ، وقد وجدنا ان في احصاء نفوس العام 1923 تقديرات لا اعرف مدى مصداقيتها تقول بأن عدد الفرس في العراق كان عددهم يبلغ 70000 نسمة ( من اصل مليونين وربع المليون عراقي ) .. أما الشبك فتمتد قراهم في شرق مدينة الموصل ولهم لغتهم المتشابكة من العربية والفارسية والكردية والتركمانية .. وهناك الجرجرية وبقايا كرمانية وكويانية كردية متنوعة اتت من الاناضول في ظروف مختلفة واستوطنت العراق خفية . ان هكذا تقسيمات سكانية عند تأسيس الدولة العراقية في بدايات العشرينيات لابد وانها تثير التأمل منذ تلك اللحظة التاريخية وحتى يومنا هذا ، سيما وان ثمة انقسامات اخرى ومن نوع آخر ربما تكون اكثر فتكا اذا ما استغلت ضد وحدة العراق . وان العزف على أي من هذه الانقسامات سيضر بمصالح العراق والعراقيين .. وهذا مما ثبت جليا من قبل تاريخنا الصعب في القرن العشرين .
القسم الرابع

التصنيفات الاجتماعية
العرب العراقيون
ان العرب قدماء جدا في العراق سواء في شماله ام في وسطه واقصى جنوبه .. ولقد اكد هذه ” الحقيقة ” عدد من العلماء والمؤرخين .. ولكن ما يهمنا هو عن اي عرب نتحدث اليوم في العراق ؟ اعتقد انه سؤال منهم جدا ، فالعراق بلاد اختلطت فيه الاجناس بشكل كبير ولكن يبقى العرب هم الاكثرية التي تشكل غالبية سكانه .. خصوصا اذا ما علمنا بأن اقواما من ملل واعراقا شتى قد تعرّبت ( او : استعربت ) فالمحيط الثقافي العربي في بلاد وادي الرافدين اقوى من اي محيط ثقافي آخر يمكنه ان يستأصل اي ثقافات اخرى ويجعلها عربية ، وعليه فان اقواما عراقية متنوعة قد تمفصلت في قلب الثقافة العربية وخصوصا في المدن والارياف .. باستثناء البادية التي بقيت عربية صرفة . كنت في العام 1985 قد صنّفت عرب العراق الى اصناف عدة في اكثر من بحث منشور عن الحياة الاجتماعية العراقية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ، اذكر من تلك الاصناف :
1/ عرب المدن : متنوعون في غالبيتهم وانتماءاتهم اسرية عائلية ، وهم يحملون ثقافة مدينية حضرية متعددة الالوان حسب طابع كل مدينة ، وفي كل مدينة حسب طبيعة كل طرف .
2/ عرب الريف : منهم عرب السهوب وعرب البساتين وعرب ضفاف الانهار وعرب الاهوار وعرب اطراف المدن . وهم عشائر كبرى وصغرى .
3/ عرب البادية : وهم من قبائل بدوية عدة عرفت الاستقرار ولكنها لم تنس الارتحال .
العراقيون العرب من اصول عربية قديمة ولكنهم اليوم قد اختلطوا ليس مع بعضهم البعض فحسب ، بل مع غيرهم من ابناء المجتمع .. وتجمعهم تعايشات من نوع معين وتفرقهم تناقضات من نوع آخر .. هناك عشائر عربية عراقية معينة سمعتها سيئة لدى بعض المؤرخين والرحالة القدماء نظرا لما قامت به من اعمال القتل والغزو وقطع الطرق .. وثمة عشائر عربية عراقية اخرى سمعتها رائعة ( واعذروني من ذكر اسماء هذه او تلك ) .
الاكراد العراقيون
ان الاكراد ينقسمون الى قسمين اثنين من الناحية الاجتماعية اقوام سورانية واقوام بهدينانية تصل درجة الفروقات بين الاثنين بحيث لا يفهم الاول ما يقوله الثاني ليس من الناحية اللغوية بقدر ما يكمن في اللهجة ومخارج الحروف فضلا عن شعور السوران بالتعالي على اخوانهم البهدينان بحكم اختلاف الثقافة الاجتماعية بين الطرفين ، ويقول السوران عن انفسهم بأن منهم قد ظهر رجالات دولة ووزراء واداريين ومثقفين وشعراء واطباء ورجال قانون .. وان البهدينان هم مجموعة عشائر تسودهم الروح القبلية والنزعات التصوفية والاشغال التجارية البسيطة ، علما بأن كلا من طريقتي القادرية ( عند السوران ) والنقشبندية ( عند البهدينان ) هي التي كانت تحدد اسلوب حياة الطرفين في الماضي . ولكن على العموم ، فان مثقفي السوران العراقيين هم اكثر تحررا من القيود الدينية والاجتماعية مقارنة بالبهدينان ! واذا كانت امتدادات السوران نحو اكراد ايران ، فان امتدادات البهدينان نحو انحاء الاناضول .. والتشكيلات الكردية هي من ابناء حضر وريف وبادية ايضا ، فالبدو الاكراد منعزلون ورعاة في اعماق الجبال ..
اما ابناء الريف من الكرد فهم كالبدو يجتمعون في قبائل وتحكمهم النزعة القبلية التي كانت الى أمد قريب تحكم المجتمع في اقليم كردستان .. في حين ان اغلب التجار والملاكين يقطنون المدن الكردية ومنهم برز العديد من الضباط والمسؤولين والموظفين الاداريين والحكوميين في مؤسسات الدولة .. وتبدو العلاقات وشيجة بين الاكراد والعرب في العراق منذ قرون طوال بحكم العلاقات الوشيجة الاقتصادية وقد وصلت درجة العلاقة بين الاكراد وبعض القبائل العربية وطيدة بقوتها بحكم الرعي وتحويل قطعان الاغنام بين الجانبين ، ففي الصيف ينتقل البدو العرب نحو المناطق الكردية وفي الشتاء ينتقل الاكراد الى المناطق العربية . وكانت الموصل هي العاصمة الاقتصادية التي تحكم العلاقة بين كل الاطراف . ولابد ان ندرك بأن لواء الموصل سابقا الذي يضم اقضية : الموصل وتلعفر وسنجار وعين سفني وعقرة والبعاج والشرقاط .. هو الاقليم الاول الذي يضم اكثر من 2500 قرية مأهولة بالسكان المتنوعين منذ القدم ، في حين ان لواء بغداد الذي يضم العاصمة وعدد من الاقضية لا يضم سوى 120 قرية فقط . وعلينا ان نتخيل حجم الانتشار السكاني في لواء البصرة مقارنة ببغداد .. وعليه اقول بأن شمال العراق كله هو مصدر حياة العراق في حين يعتبر الجنوب مصدر طاقة العراق .. اما القلب ، فهو مصدر لسيرورة العراق ومركزيته الجغرافية ووثاق رباط العراق .
اليهود والصابئة العراقيون
يعد اليهود العراقيون من قدامى اهل العراق ، وبقاياهم هي التي نزحت والتحقت باسرائيل بعد تأسيسها عام 1947 – 1948 وكانوا يقطنون في اماكن عدة وبالاخص بغداد والموصل والبصرة وحتى بعض قرى كردستان ، وتدل المعلومات التاريخية انهم كانوا متشبثين بعراقيتهم حتى العظم وكانوا جزءا حيويا من المجتمع العراقي سواء على مستوى التجارة كتجار كبار او باعة او مهرة في الصناعة واداء بعض المهن البسيطة او يكونوا من اصحاب الفن وقراءة المقام والعزف على الالات الموسيقية . اما الصابئة المندائيون فالمعروف عنهم انهم ينتشرون قرب نهر دجلة الذي لا يعرفون الحياة من دون الاغتسال في مياهه العذبة ، وهم قدماء جدا في جنوب العراق وانتشروا في مناطق معينة وتركز بعضهم في بغداد ، ولهم حيويتهم في المجتمع العراقي وهم اذكياء حاذقين في العديد من المهن التي يزاولونها منذ تاريخ بعيد .
المسيحيون العراقيون :
اما المسيحيون العراقيون فهم من قدماء العراق التي تعود اصولهم الى الجرامقة وان النساطرة العراقيين هم من اقدم الذين اعتنقوا المسيحية قبل ما يقارب الفي سنة وان الديارات المسيحية قد انتشرت كثيرا في العراق وخصوصا حول الموصل وازدهرت مع مضي القرون حتى في بغداد واطرافها .. وبرز منهم علماء ومترجمون واطباء وكان لهم دور حضاري بارع في حياة المجتمع العراقي وخصوصا من ابناء المدن السريان واليعاقبة القدماء الذين يستقرون في الموصل ومن ثم استوطنوا بغداد والبصرة . ان التشكيلة الاجتماعية للمسيحية العراقية لها تعقيداتها هي الاخرى والتي سببتها افتراق الكنائس بعضها عن البعض الاخر ، ولكن لابد ان نعلم بأن هناك تسميات متعددة لاقوام من المسيحيين العراقيين وكل اسم له دلالته حتى وان كان الاصل واحدا او ثنائيا ..
ينبغي علي هنا ان اّنبه الى مسألة خاطئة تماما ذلك ان هناك مصطلحا جرى استخدامه بعد سقوط نظام البعث في العراق عام 2003 ، وهو ( الكلدو آشور ) ويرفضه الاشوريون ( أو : ألاثوريون ) خصوصا لأن هناك افتراقا بين الاثنين فالاشورية قومية دينية والكلدانية مذهب ديني ولا يمكن الجمع بينهما على حساب الاصل ( = السريان ) وكنت اول من نبّه الى هذا المصطلح الاخير في احدى دراساتي عن المسيحيين العراقيين ، وبدأ التعامل معه ( أي : مع السريان ) مع تجاهل المجتمع لليعاقبة الشرقيين . ان الاراميين القدماء الذين يعودون اصلا الى الكنيسة النسطورية قد انقسموا تباعا ليس في العراق وحده ، بل في كل من تركيا وسوريا ولبنان وفلسطين .. فالكنيسة الشرقية انقسمت الى اقسام ما بين اثورية وكلدانية وسريانية يعقوبية .. ثم انقسمت كل كنيسة من هذه الى ارثودكسية وكاثوليكية وخصوصا عند الكلدان والسريان .. ونلمح تأثير هذه الانقسامات الكنسية في الموصل كمركز عريق جدا من مراكز المسيحية واطرافها وخصوصا في الجانب الايسر من دجلة .. ثم تأسست الكنيسة الارمنية في القرن التاسع عشر فاضيفت كنيسة من نوع آخر .
اما الصابئة فلا اريد ان اضيف شيئا على معلوماتكم فهم مندمجين بالعراق ومياه دجلة مع تسلسل رموزهم وطقوسهم .. انهم عراقيون قدماء وقد وصلوا بغداد في عهود قديمة واستوطنوها .. اما المعدان ، فهم من اقدم العراقيين في جنوب العراق حتى يقال انهم اصحاب جذور سومرية وهم من الاقوام الاسطورية التي عاشت حياتها منعزلة من دون ان تذوب او تقهر .. اما اليزيدية ( ولا اقول الازيدية ) فالمصطلح الجديد لا اتفق معه ابدا والذي بدأنا نسمعه بعد سقوط صدام حسين عام 2003 ، وكل المبررات التي اذيعت عن فحوى المصطلح الجديد لا اؤمن بها ابدا .. فتسميتهم التاريخية هي ( اليزيدية ) ولا يمكن تحريف ما اصطلح عليه المؤرخون وعلية القوم من امرائهم .. وهم اقوام مسالمة ومنعزلة لها حياتها واسلوبها في الحياة وقد اضطهدت طويلا لاسباب تتعلق بمعتقداتها ودفعت من حياتها ثمنا غاليا وبقيت بوجودها تتحدى كل الاقدار حتى على ايام الطاغية .
ربما يقول قائل : لماذا كل هذا الاهتمام بالاقليات على حساب الاكثرية في العراق ؟ اقول : ان سبب التركيز والاهتمام له اسباب وجيهة – حسب اعتقادي – منها : ان هذه الاقليات هي من اعرق سكان الشرق القديم فلابد ان تكون لهم مواطنتهم الحقيقية . كما ان ادوارهم الاجتماعية كانت تاريخية فاعلة في حياة العراق ، فلم يكونوا عالة على غيرهم ، بل ان حياتهم كرسوها في الزراعة واداء المهن الشريفة وبرز منهم عباقرة في اللغة والعلم والادب .. ناهيكم عن ادوار المثقفين المسيحيين والصابئة العراقيين في القرن العشرين في الصحافة والطب والمحاماة والهندسة .. الخ ناهيكم عن ادوارهم جميعا السياسية والادارية وانخراطهم في الاحزاب الوطنية والثورية .
الشخصية العراقية وتنوعاتها
لقد درس الدكتور عبد الجليل الطاهر هذا ” الموضوع ” ، ولكن من خلال نماذج معينة ومعروفة من دون ان يكشف عن مخفيات كل النسيج الاجتماعي العراقي . ان جهوده مباركة وجديرة بالذكر ، ولكن كم تمنيت عليه ان يمتد ليرى جذور مشكلات هذه ” الشخصية الفريدة من نوعها ” في صفحات التاريخ . ثمة شواهد تاريخية بعيدة وقريبة تنبؤنا عن حجم واسع من تشوهات إجتماعية عاش عليها المجتمع العراقي ردحا طويلا من الزمن بحكم توالد تناقضاته عن تناقضات قديمة ، وثمة خلل وعطب اصاب الشخصية العراقية في تضاعيف العصر الحديث بحكم شراسة السلطات التي حكمت المجتمع العراقي ومصادرتها للحريات ليست السياسية حسب ، بل وحتى العامة وإنعدام كامل لاحترام حق الاختلاف في الرأي والموقف والتفكير .. ناهيكم عن حجم الفساد الاداري في مؤسسات الدولة في الخمسين سنة الاخيرة .. لقد عبّرت مسرحية ( النخلة والجيران ) في واحدة من وقفات بطلها الساخرة من ( هذا مال حكومة .. ) وكأن المال العام يعد حقا مشروعا لصاحبه ، وكأن الحاذق في سرقته المال العام هو الاذكى بين العراقيين .. وكأن الحكومة هي العدو اللدود للمجتمع ، فكل ما يحدث من اختلاسات وسرقات للمال العام هو مباح في عرف العراقيين .. ان الضراوة والاحقاد ضد المال العام يصل في بعض الاحيان الى التخريب المتعمد ، بل ولا يقتصر الامر على المال العام ، بل يتم التعدي على المال الخاص بطرق عدة ليس بالسرقة وحدها ، بل بالاضرار عن عمد وسبق اصرار . ان الاحقاد الاجتماعية العراقية هي التي خلقت لنا تاريخا اسودا مضمخا بالدماء .. وان تلك الاحقاد لم تكن مقتصرة على صراع بين الطبقات الاجتماعية او الصراع بين القبائل البدوية او صراع بين شيوخ عشائر وابناء عشائر .. انه يمتد ليكون صراعا ساخنا بين اديان ومذاهب وطوائف .. احقاد بين اعراق واصول واقليات متنوعة .. صراع بين فئات اجتماعية في المدن .. احقاد بين ابناء ريف وابناء مدن .. صراع بين اصلاء وبين وافدين الى العراق .. الخ
ان الرد الطبيعي من قبل المرفوضين اجتماعيا من قبل ابناء المدن الاصلاء هو العنف بشتى صوره والوانه .. ان من يصفهم ابناء بغداد القدماء بـ ” الشروك ” ( او : الشراكوة ) يكون ردّهم مؤجلا على ابناء المدن ، وان ردّوا فالرد يكون بمنتهى القسوة والعنف . ان المرفوضين اجتماعيا على امتداد زمني طويل في المدن الكبيرة سواء كانوا شراكوة ام كويان ام قرج ام لملوم من البدو المدجنين او من عربان الانهار قد دخلوا حياة المدن العراقين بقوة مكتسحين ليس اسوارها حسب ، بل اغلب مرافقها الحيوية بفعل التشريعات الجمهورية والنفوذ الحزبي .. ان اكتساحهم المدن بما نسميه هجرة الريف الى المدينة قد جاء مع نهاية الخمسينيات وخصوصا بعد اعلان الجمهورية العراقية عندما تدفقت الالاف المؤلفة من البشر باوامر من الزعيم عبد الكريم قاسم ليبني لهم الثورة والشعلة والحرية بعد ان كانوا في صرايف حقيرة حول بغداد .. وهذا ما جرى في الموصل والبصرة واغلب المدن الكبيرة في العراق .. لم تكن نوايا قاسم الا حقيقية بمساواة ابناء العراق مع بعضهم البعض وعطفه على الفقراء وكأننا في مجتمع طبقي من الدرجة الاولى .. من دون ان يعلم بكل تناقضات الدواخل والاطراف .. ومن دون ان يدرك حجم النتائج الصعبة التي هزّت اعماق المجتمع العراقي من خلال تلك الهجرة البائسة وترك الفلاحين ارضهم نحو العاصمة والمدن المضيئة بالالوان الكهربائية .. كانوا ينزحون نحو المدن لاسباب عدة منذ القدم ، ولكن كهرباء المدن ( الذي كان العربان يسمونه بالكرهب ) هو جاذب لهم ..
لقد كان العلاج سهلا للغاية بالتقليل من العناية ببغداد والاعتناء بكل العراق .. لقد كان مجلس الاعمار العراقي صائبا جدا في تطويره آليات المشروعات الكبرى في العراق من اجل خلق طاقة وخدمات وتطويرات في عموم مناطق العراق من دون مكان على حساب آخر .. ولكن تجربة مجلس الاعمار قد اغتيلت فخسر العراق ان يكون اول بلد متقدم في الشرق الاوسط كله .. وجاءت الثروة النفطية لتعبث بمقدرات العراق الاجتماعية وتقلب كل موازين الحياة من طبيعتها الى جنونها .. كان من المفروض ان تستخدم العائدات النفطية العراقية لصالح بناء بنية تحتية وخدمات وبناء وعي واساليب تعليم وكفاءات لتنقل العراقيين من اوضاعهم القديمة الى اوضاع مجتمع متطور برغم كل تنوعاته ، ولكن ذلك لم يحدث ابدا ويا للاسف الشديد .
ان كل ساسة العراق وقادته وزعمائه على العهد الجمهوري لم يدركوا حجم التناقضات الاجتماعية التي افرزت واقعا سياسيا بليدا وعقيما وقاسيا بسيطرة الاطراف على المركز وهيمنة المحيط على الدواخل .. وخصوصا عندما اتى البعثيون الى السلطة بعد قرابة عشر سنوات بالضبط على 14 تموز / يوليو 1958 ، فكانوا يحملون احقادا اجتماعية مهولة على من هو ارفع قيمة اجتماعية منهم وعلى من يمتلك قوة اقتصادية او رأسمالية او حتى قيما اجتماعية رمزية كالمشيخة او البكوية او الباشوية او الاغوية .. لقد بدأت التاناقضات تأخذ لها ابعادا خطيرة بالسيطرة والقهر باسم الاشتراكية او تطبيقات الاشتراكية العربية وباسم الحرب على البرجوازية والاقطاع .. لقد سيطروا على الاراضي وانقضوا على مالكيها واعدموا عددا من الشيوخ وامتهنوا اصحاب رؤوس الاموال ولاحقوا الشركات الصناعية والتجارية .. كله تنفيس عن احقاد اجتماعية تحت مسميات اقتصادية او سياسية او باسم الشعارات التقدمية والاقتصادية والوطنية والقومية .
ان كل ما وصم به الذين قتلوا او سحلوا او احرقوا او اعدموا او اختطفوا او عذّبوا او سجنوا او قطعوا او وشمت جباههم او هتكت اعراضهم او قطعت السنتهم وآذانهم وحتى الذين اضطهدوا ومورست ضدهم كل الموبقات والاذى انما لا لاسباب سياسية حقيقية ، بل لاحقاد اجتماعية بالدرجة الاولى .. ان كل تلك البشاعات التي اقترفت في المجتمع العراقي على امتداد خمسين سنة ليس مردّها اسباب آنية بقدر ما هي منتجات مجتمع مضطرب اصابه خلل متفاقم منذ زمن طويل ، وما تلك المجازر وذاك الاضطهاد وهذا الارهاب وهذه القسوة الا عبارة عن تعبير عنيف ونادر الحصول تذكيه دوما وتوقده باستمرار سايكولوجية اجتماعية صعبة ومعقدة تلبسّت بها الشخصية العراقية في مناطق جغرافية متنوعة سواء في الريف ام المدن .
اننا لا يمكننا ابدا ان نقف عند شخصية اجتماعية عراقية واحدة ( كما هو حال الشخصية المصرية او اللبنانية او غيرها مثلا ) يمكننا ان نحللها على ضوء منهج واحد ، بل ان تعقيدات الشخصية العراقية تتطلب منا فحص عدة نماذج منها على ضوء مناهج متعددة ومقارنتها بمجتمعات اخرى .. ربما نجد كل نموذج يلتقي بشخصية اجتماعية لدى هذا الجوار او ذاك بعد ان افتقدت الخصوصية العراقية كثيرا من حيويتها وطاقتها في خضم صراعاتها الداخلية .
معضلة التخلف
والسؤال الكبير الذي علينا مواجهته هو : هل يمكن للوعي والثقافة ان يساعدان في الخلاص من التخلف الاجتماعي ، اذ لا يمكن ان تنفع عمليات محو الامية ؟ الكل ينادي بالثقافة والوعي التربوي والعلمي لإنجاب مجتمع خال من هول التناقضات وينتج اناسا أصحاء ذهنيا واجتماعيا ؟ الجواب عندي : كلا ! لقد وجدت منذ ثلاثين سنة اناسا ( من العراق وغير العراق ) يؤمنون بالديالكتيك والتقدم وحقوق الانسان ولكنه يحمل في لا وعيه طقوسه وعاداته وتقاليده البالية ! بل وان هناك مثقفين تقدميين عراقيين يؤمنون بالطائفية والتعصب من دون ان يلغي من ذهنيته كل الترسبات التي نشأ عليها ! ان الشخصية الاجتماعية ستكون مهزوزة وضعيفة وجبانة امام التكوين الاجتماعي المعقد .. فما الذي يحصل ؟ ان تظهر بوجه امام هؤلاء وتظهر بوجه من نوع آخر امام اولئك !! او ان تعلن للملأ ميولك فتقع في المحظور خصوصا وان العلمنة لم تترسخ في مجتمع نتيجة هروبها من مؤسسات دولة ..
ان المجتمع العراقي لم يحظ ابدا بمؤسسات دولة مدنية تفصل كوابح التقدم عن سيرورتها ، وما دام الذي يسيّرون هذه المؤسسات لهم ميولهم واتجاهاتهم المتناقضة ، فان الخلل قد سرى في كل الاجهزة ! انني اؤمن بأن لا حل لاجتثاث التناقضات والاوضار الساحقة الا بترسيخ علمنة التربية والتعليم واحترام الماضي لا تقديسه وان يغدو الاعلام متوازنا بين تقديس التقاليد وبين انفضاحها جهرا من دون اي رتوش ! وان تتفكك سلطات اجتماعية عدة في العراق ، منها : القبيلة والمؤسسة الدينية والاحزاب الدينية والتقاليد والاعراف المضحكة وان تغدو الدولة بمؤسساتها وقوانينها حامية للتغيير ومن يقوم بالتغيير وكبح جماح المفاهيم المغلوطة المكونة لهوية الشخصية العراقية ؟ ان علاجات اجتماعية طويلة الامد يحتاجها العراقيون للخروج من ماسوشية ملايين العراقيين واستئصال سادية ملايين العراقيين الاخرين فضلا عن التخلص من امراض مسكوت عنها وخفية لملايين آخرين .. ناهيكم عن تحرر ملايين آخرين من أنطوائيتهم .. بل ويستطيع ان مشخّص لبنية المجتمع العراقي ان يلمح التفاعلات السايكلوجية للعراقيين في الاعلان عن عواطفهم التي تسبق عقلانيتهم .. انه يجد مدى هيجانهم او كراهيتهم او محبتهم او ولائهم او خذلانهم او شعورهم بالانسحاق او تحملهم للضيم او مواجهتهم للاحداث او رغبتهم في التراجع او شراستهم في القتال او سعيهم لمساعدة الاخرين .. كلها حقائق نفسية تجسد سمات الشخصية العراقية بعنفوانها او اضطرابها او سكوتها واختفائها .
ما الذي نحتاجه هنا بالذات ؟
ان العراقيين هنا بأمس الحاجة الى الشجاعة ليعلنوا قبل اي مجتمع آخر في المنطقة عن الاعتراف بتناقضاتهم التي تعد مصدرا اساسيا من مصادر تخلفهم وتعصباتهم وتشوهاتهم ! اذا كانوا يؤمنون حقا بالديمقراطية والحريات عليهم بممارسة ذلك على انفسهم اجتماعيا قبل ان يمثّلوا دور المهرجين في السيرك فيلعبوا ادوارهم تحت يافطة ( اللعبة السياسية ) ! ان المجتمع العراقي لا يمكنه التخلص من تناقضاته الا من خلال وسائل مدنية وعصرية وتقدمية وعلمية تبني الشخصية العراقية الجديدة التي تتسامى فوق كل التعصبات وكل الميول والاتجاهات وترفض كل التقاليد العقيمة مهما كانت قداسة الاغطية التي تؤثر على التفكير والسلوك الاجتماعي والسياسي . ان استئصال كل أوجه الخراب بزوال نظام سياسي من الطغيان لا تنفعه اساليب متخلفة وبالية لا يمكنها ان تمحي التشوهات السايكلوجية ولا تزيل المعضلات الاجتماعية ولا تقوم اي عملية سياسية ابدا ! انني اعتقد اعتقادا راسخا ان الصراع الدائر اليوم في العراق هو صراع اجتماعي نظرا لاصطدام التناقضات وإنكشاف المخبوء ونزف كل تقيحات التخلف للعلن… مع هيجان الطائفية وتفشي الاوبئة العرقية والعنصرية التي تتخذ لها شعاراتها السياسية والتي تفجر البشاعات واحدتها تلو الاخرى !
الحاجة الماسة للمواطنة العراقية
المواطنة العراقية لابد ان تنحدر من الانتماء الاجتماعي قبل ان تكون مفهوما سياسيا فالعراق ليس على غرار بقية الشعوب الاخرى .. المواطنة العراقية صعبة جدا وتلك حقيقة من حقائق العراق الكبرى .. فالعراقيون ربما لهم ولاءات وانتماءات وميول واتجاهات تتقدم عندهم على مبدأ المواطنة العراقية .. وليس الامر محصورا في نتائج ما اقترفه صدام حسين من جنايات باسم الوطنية ، بل كان قد اكتشف الامر منذ تأسيس الدولة العراقية على عهد فيصل الاول 1921 – 1933 عندما اعلن عن ذلك بشجاعة متناهية في مذكرته التاريخية التي كتبها قبل ان يموت ! كم كان العراق بحاجة الى علاجات حقيقية من اجل بناء النسيج الاجتماعي العراقي بكل قومياته ومكوناته وجزيئاته .. فلقد وصل الامر بعراقيين ان ينكروا مواطنتهم العراقية علنا وهم يبحثون لهم عن بديل غير العراق ، وهنا اقول بأن من اخطاء الحكومات والنظم السياسية العراقية المتعاقبة انها استخدمت المناورات او القوة او القمع او العشائرية بديلا عن اي حلول وطنية وسياسية عراقية ..
من اجل بلورة وعي نقدي تنويري عراقي
ان محاولات بلورة وعي نقدي تنويري في المجتمع العراقي ستكون من الصعوبة بمكان نظرا لحدة التناقضات بين مستوى الرقي والتطور الى مستوى الانحطاط والفجاجة ، فالمحرك الاساسي للذهنية العراقية اليوم ليس البديهيات والمنطق والعقلانية والارقام والحقائق واحترام الاخرين ، وإنما هو التعصب والتطرف والجهالة والتحزب والعناد .. وإفتراس المشاعر والأُمية وترديد الشعارات من دون اي معرفة بمضامينها : فنجد شعارات واقوالا ولكن نقف على رفض مفاهيمها الحقيقية : يتكلمون بالمواطنة والعيش المشترك وإحترام حق الاختلاف والديمقراطية وحقوق الاقليات والفيدرالية والاتحادية والقواسم المشتركة والشراكة والتوافقات … ولكنهم يضربونها جميعا عرض الحائط لأن اهدافهم ثانوية .
دوافع الانخراط في النشاط السياسي
انها دوافع اجتماعية تذكيها تناقضات الحياة العراقية ، فالوصولية والمحسوبيسة والمنسوبية والمداهنات والتسلق وطلب الولاية والمناصب .. الخ كلها تعبير عن كبت داخلي للاستحواذ على القوة والمال والجاه . ان نقص الجاه – كما يقولون في العراق – مرض سلوكي يجعل من صاحبه يبحث له عن منصب ليغطي عجزه ! وكل سلوك عراقي يقف خلفه دافع لا شعوري طموح من أجل تحقيق مأرب ما . ان قضية الدوافع لانخراط أبناء المجتمع العراقي في ممارسة النشاط السياسي تبدو من أخطر التشوهات السايكلوجية التي شوهّت الشخصية العراقية، وغدا يحتل المواقع اولئك الذين لا كفاءة لهم ولا سلوك لديهم ! فكثيرا ما نجد قياديين لا يؤمنون بالمباديء السياسية التي تخص المجتمع ومصير الوطن كحق المواطنة لكل ابناء المجتمع وتحقيق الديمقراطية كقيمة وممارسة داخل بنيوياتهم وأحزابهم ولكن في ظل غياب واضح لمشاعر الانتماء الوطني للعراق وتفضيل المصالح الشخصية والحزبية والعرقية والطائفية على المصلحة العليا .
حلول وعلاجات
ثمة امور تذكي التناقضات العراقية ، وحبذا لو كانت مستأصلة اليوم قبل غد ليعرف العراقيون طريقهم نحو المستقبل ، ومنها :
1/ التخلص شيئا فشيئا من المجتمع الابوي التسلطي.
2/ التخلص من منظومة التقاليد البالية .. ومن المؤسف ان هناك من يعيش في الغرب وهو ما فتأ يمارس شعائره وتقاليده البالية .
3/ الحاجة الماسة للقيادة الريادية التي تسحر الجماهير وتسمعهم خطاباتها ، وتتحدث باسمهم ان الزعامة والكاريزما في العراق ضرورة اساسية من دون ان تنقلب الامور ويجر ذلك الى صنع دكتاتورية متوحشة .
4/ معالجة الفشل والفساد في النشاط الجماعي والمؤسساتي .
5/ محاربة الفردية والتعصّب وتشجيع الروح الجماعية.
6/ احترام المؤسسات والمحافظة على المال العام.
7/ الحد من المبالغة في محاولة توكيد الذات ، واحترام المرأة ومنحها حقوقها وللطفل . واستئصال النزعة الطائفية من الدولة والمؤسسات والاحزاب وكل السياسة العراقية .
8/ تشجيع قيم الخير والاستمتاع بالعمل الجماعي والعناية بالسلوكيات النظيفة .
9/ معالجة الشك في نوايا الاخرين ، وزرع الثقة والمحبة والقضاء على الكراهية والثارات والامراض الموروثة.
10/ غياب إحترام حق الاختلاف ، ومنح الفرص لكل المخالفين في الرأي .
واخيرا ، هذا ما احببت ان اختزله لكم وشكرا لحسن اصغائكم .. سعدت امسيتكم ، وانني مستعد لسماع اسئلتكم ومداخلاتكم ..

Check Also

انقسام العالم الإسلامي والتصدعات الاجتماعية في الشرق الاوسط… 2007 جواز مرور صعب

مختصر مترجم للمحاضرة التي القاها الاستاذ الدكتور سّيار الجميل في منتدى دراسات المستقبل المنعقد في …