الرئيسية / حوارات / عراقٌ يكوي القلب

عراقٌ يكوي القلب

أما وأننا نتطرق إلي هذه القضية الملتبسة بشأن (الديكتاتور العادل) أو (المستبد الرشيد)، من أجل العراق، فلابد أن نهتم في نقاشنا بما يكتبه العراقيون في الأمر.. وقد أسعدني الدكتور سيار الجميل.. وهو مفكر عراقي كبير يقيم بين كندا والولايات المتحدة.. ومحاضر مرموق في جامعاتها وينشر مقالاته المنوعة في «روزاليوسف» الجريدة والمجلة.. بأن كتب تعليقا علي مقالي الأول حول الموضوع علي صفحتي بالفيس بوك.. هنا نصه.. وسوف أناقش بعض ما جاء فيه.

يقول الدكتور سيار:

عزيزي (…) عبدالله كمال

قرأت مقالك اليوم، وهو مقال مهم كعادتك كل يوم.. قرأت بإمعان، كنت معك في أن الديكتاتور لا يمكن البتة أن يكون عادلا، وإلا لما غدا ديكتاتورا.. وكان قد أشيع المصطلح منذ مائة سنة تحت مسمي (المستبد العادل) بحثا عن حلول كانت مجتمعات الشرق بحاجة إليها، وكانت ولم تزل بحاجة إلي معالجات وحلول في عصر تلاقح فيه الفكر الحر وتطورت فيه المؤسسات الدستورية إزاء حكم الأقلية والنخب الشيوعية في ما أسمي بالعالم الاشتراكي الذي انتفت منه الحريات والحياة المنفتحة والرأي الآخر زمنا طويلا.

إن محمد علي باشا مؤسس مصر الحديثة لا أستطيع أن أعتبره مثالا تاريخيا، لأن عصره لم يشهد أي تطور بعد في البناء السياسي الديمقراطي الذي تطور لاحقا.. أما مسألة صدام حسين، فهي استثناء والعراق كله استثناء، إذ بقدر ما كنا نتوجس خيفة من تعقيدات العراق سابقا، فإن ما حدث بعد السقوط عام 2003 في العراق غير حتي معادلات العقلاء العراقيين وأفكارهم.

ما يحدث في العراق هو فرز من تراكمات تاريخ صعب عمره أكثر من خمسين سنة.. تفاعلت خلالها الأحقاد والضغائن والكبت السياسي مع نضوج ظاهرة الإسلام السياسي لكل التكوين الطائفي في العراق، الذي أشعلته السياسة الأمريكية باسم المكونات العراقية بديلا عن الشعب العراقي.. فتفاقمت المأساة بعد أن كانت متورمة.

إن العراق ليس بحاجة إلي ديكتاتور جديد، بقدر ما يحتاج إلي زعماء أذكياء ويتمتعون بالأهلية لحكم بلاد صعبة.. بحاجة إلي أحزاب مدنية لا دينية تمزق المجتمع ويتشظي علي أيديها.. بحاجة إلي تكنوقراط وقانون.. وستراه يحيا من جديد.. ولكن هذه مجرد أمنيات وأحلام إزاء أجندة مخطط لها من أجل كبح جماح العراق لزمن طويل.

شكرا صديقي العزيز لإثارتك هذا الموضوع الحيوي وتحياتي إلي كل الأصدقاء في «روزاليوسف». سيار الجميل.

انتهى التعليق المطول. ويمكن وصفه بأنه مقال رصين أكثر من كونه تعليقًا. ولي فيه وعليه مجموعة من إسهامات النقاش.

لقد اعتبر الدكتور سيار أن محمد علي باشا لا يمكن أن يعتبر مثالا تاريخيا للمستبد العادل في ضوء أن عصره لم يكن شهد أي تطور بعد في (البناء السياسي الديمقراطي).. وسوف أتفق معه، متجاهلا التطورات التي كانت تجري في نفس السياق في بعض دول أوروبا.. ولكن ماذا عن مهاتير محمد.. حاكم ماليزيا وصانع نهضتها.. وقاهر معارضيه.. وقد حل في عصر عرف فيه العالم قولا وعملا جميع مواصفات البناء السياسي الديمقراطي. إن نموذج مهاتير مهم من حيث إنه حاكم لبلد مسلم.. تتنوع فيه الأعراق (المالاي والصينيون والهنود).. كما كانت قد ضربته أفكار الإسلام السياسي حتي إن ولاية صباح أعلنت تطبيق الشريعة الإسلامية.

إن توصيف الدكتور سيار لما جري في العراق.. باعتباره نتاج أحقاد وضغائن وكبت.. وأشعلته السياسة الأمريكية بعد تفاعل طيلة خمسين عاما.. لهو توصيف مؤلم ويكوي القلب.. وفيما يبدو فإنه يعجز العقل العراقي نفسه.. وكما قال سيار (فقد غير معادلات حتى العقلاء العراقيين وأفكارهم).. ولكنه توصيف لا يجعلنا نتجاهل تعقيدًا موازيا وأشرس في الهند.. ورغم ذلك فإنها تعيش شبه مستقرة.. ومن ثم فإن ما ينبغي أن نتساءل عنه هو: هل يمكن القفز في العراق فوق كل هذا.. هل يمكن عبوره بالوصول إلي صيغة.. تؤدي في ما بعد إلي إصلاحه وتعديل ما عطب في جسد مجتمع معطب بنيويا؟

لست أدري، لكن بديل الديكتاتور العادل الذي لا يريده الدكتور سيار للعراق هو (زعماء أذكياء يتمتعون بالأهلية لحكم بلاد صعبة.. أحزاب مدنية لا دينية.. تكنوقراط وقانون).. حسنا هذه صيغة.. قد تكون ناجعة.. والمشكلة ليست في أن تلك هي الصيغة الناجعة.. وإنما في أن البيئة التي تتجسد في العراق لا يمكن أن تفرز هذه التركيبة الآن.. ولا تقود إليها أبدا.. فقد تبعثر الأذكياء.. وافتقد البعض الرغبة في التصدي للمهمة.. والأحزاب الدينية لا يمكن اقتلاعها إذ تسلحت وتعيش حالة استقطاب مهولة.. والتكنوقراط لا يمكن حشدهم في مناخ ليس فيه تعليم أصلا.. إنني أخشي أن يكون اقتراح الدكتور سيار صالحا لمرحلة ما بعد أن يأتي (مستبد عادل).. حاكم قوي.. يتنازل عن بعض مواصفات الديمقراطية ويطبق الحد الأدنى من العدل.. بشرط فرض الحد الأقصى من السيطرة والنظام والتماسك.. وليس شرطا أن يكون هذا المستبد العادل شخصا بعينه.. وقد يكون مؤسسة علي رأسها هذا الشخص.
نشرت في عمود ( ولكن ) بجريدة روز اليوسف ، العدد 1526 – الثلاثاء – 29 يونيو 2010 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

انتظروا حوار الدكتور سيار الجميل للأستاذ عبد الله كمال في مقاله .

عبدالله كمال
نائب بمجلس الشورى المصري
رئيس تحرير روز اليوسف المصرية

شاهد أيضاً

ملف: إمكانية حكم دكتاتور عادل للعراق.. حوار عراقي مصري بين الدكتور سيّار الجميل والأستاذ عبد الله كمال على روز اليوسف المصرية

مقدمة كتب الصديق الأستاذ عبد الله كمال عضو مجلس الشورى المصري ورئيس تحرير كل من …