الرئيسية / النقد السياسي والتاريخي / النهايات المريرة (ثلاث حلقات)

النهايات المريرة (ثلاث حلقات)



قصر الرحاب 14 تموز 1958

الحلقة الأولى : الظاهرة المكشوفة
“سأصعد إلى المشنقة وأرى تحت أقدامي أناس لا تستحق الحياة”
سعيد قزّاز وزير داخلية العهد الملكي في العراق بعد صدور حكم الإعدام بحقه عام 1959
مقدمة

كنت قد نشرت قبل سنوات مقالا عن هذا ” الموضوع ” المهم الذي يثير أسئلة لا نهايات لها عن ظاهرة تاريخية مؤشكلة حول نهايات مريرة وتراجيدية صعبة جدا لزعماء عراقيين حكموا العراق في القرن العشرين .. واليوم ، أعود ثانية لأثير هذا ” الموضوع ” بشكل موّسع اكبر ، وبمعالجة مقارنة أعمق واشمل .. إنني لا أهدف من إثارة هذا ” الموضوع ” ، إلا طرح أسئلة مهمة على التفكير للبحث عن أجوبة ذكية يستفيد منها كل العراقيين . وهل سيشهد القرن الواحد والعشرين تكرار نفس الظاهرة ، وربما بأساليب أكثر تعاسة ومرارة ، أو ربما ستختلف المشاهد اختلافا كبيرا ، كون العراق بدأ يسلك سلوكا من نوع آخر . إن ” المشكلة ” ليست في المجتمع ذاته ، بل تتحمل الأنظمة السياسية للدولة مسؤوليتها أيضا ، فالعلاقة العراقية بين الدولة والمجتمع دوما ما تكون في حالة صراع إبان القرن العشرين ، ودوما ما يكون حمام الدم هو الفاصل بين الطرفين سياسيا . ثمة أسئلة أخرى حول النهايات الصعبة التي لا تقتصر على زعماء دولة ، بل زعماء أحزاب واعيان مجتمع ومسؤولين وشيوخ قبائل ووزراء وضباط .. الخ إننا هنا نبحث عن ” درس ” معمّق من اجل تأسيس بداية جديدة لعلاقة تاريخية جديدة بين الدولة والمجتمع ، أساسها الحوار والفهم ، وهي ” رسالة ” أوجهها إلى كل المسؤولين العراقيين من اجل تجسير العلاقة في الدولة بينهم وبين النخب والفئات والجماهير . فهل سيتنازل هؤلاء من بروجهم كي يدركوا واقعهم ، وهل يتملكهم هاجس نهايات مريرة تنتظرهم ؟

التاريخ العراقي يمتلئ باجراس الانذار
منذ بدء التاريخ في العراق وحتى هذه اللحظة التاريخية المعاصرة ونهايات زعامات العراق دراماتيكية تصلح أي واحدة منها لإنتاج فلم سينمائي يكتظ لمشاهدته الناس في هذا العالم الرحيب ! بل وان تراجيدية كل واقعة معينة تمثل سيناريوهاتها قصة روائية تاريخية مهيّجة من نوع ما تروّع بها الناس بل وتقّزز مشاعرهم ! المفارقة المقارنة عن نهايات زعماء العراق التاريخية ، والتي أوّد من كل من سيتّولى شأن العراق وحكمه في الحاضر والمستقبل ، أن يتعّلم من التجربة وان يكون صبورا وحكيما وشجاعا بانتظار لحظاته النهائية .. إذ استعيد الآن صور اللحظات الأخيرة لكل من حكم العراق منذ مئات السنين ، وهي صور لا تسر الناظرين ولا تبهج العالمين ويا للأسف الشديد .
على كل من يحكم العراق ويتولى أمره أن يقرأ نهايات من سبقه من الزعماء ، فليس حكم العراق بالأمر الهيّن أبدا ، ومن يبقى طويلا في حكم العراق ، لابد أن يجني المأساة ، بالرغم ما يزرعه من خير أو شرّ .. متمنيا على زعماء قادمين أن يعوا الدرس تماما ، إذ لا يمكن لمن يجعله القدر سيدا للعراق ، أن يكون دوما وأبدا يصنع القرار لوحده ومن دون أن ينفتح على كل العراقيين بمختلف تياراتهم واتجاهاتهم ومنطلقاتهم ومذاهبهم ، وحذار أن يصطف مع أي منها .. وحذار أن يفّرق بينها ، فالناس في العراق شتات ، إذ لا يمكن التعايش معهم إلا بالبقاء قريبا من مطالبهم ، بعيدا عن اتجاهاتهم ، فلا التوافق مع احدهم ولا التصادم مع جميعهم .. ولا يمكن ضبطهم إلا بالقانون .. والناس مذاهب ، فلا يمكن تمييز هذا على آخر .. والناس أجناس ، فلا يمكن تقديم أي واحد على الآخرين .. والناس أهواء ، فلا يمكن أن تقسو عليهم وتبطش بهم ظلما وعدوانا ..والناس مستويات في العراق ، وعلى من يحكمهم أن يفّرق بين مستوياتهم .. وتراهم أمامك في حالة موحدّة وهم في الخفاء حالات مشتتّة ، وتراهم معك وهم ضدّك .. تجدهم يصفقون لك ، ولكنهم يبصقون عليك .. إنهم يؤلهونك وما أن تتهاوى حتى يسحقونك .. والعراقيون كمن يصنعون لهم آلهة من تمر ، فعندما يجوعون يأكلوه ! أتمنى من أي زعيم للعراق منذ هذه اللحظة التاريخية أن يقرأ نهايات من سبقه ، وان يبقى وطنيا مسالما ، وحضاريا ، ونظيفا ويلتزم الدستور ولا يتشبث بالسلطة ، فمن حسن حظه أن لا يبقى في السلطة حتى نهاياته .

نهايات متباينة تعّبر عن تناقضات متباينة
زعامات العراق على امتداد مائة سنة مضت لا تختلف أبدا عن نهايات زعامات سبقتها على امتداد مئات السنين .. وتلك ” النهايات ” ما هي إلا تعبير حقيقي عن حالة مجتمع له خصوصياته في الحياة ، وله طبيعته المعينة في علاقته مع الدولة ، والسلطة في مقدمتها . وحبذا لو تّربى العراقيون على أن ” السلطة ” كريهة ومهلكة ، وعلى من يتولاها أن يتّحلى بصفات تؤهله لها ولابد أن يعي كيف يتصّرف مع الحياة العراقية . إنها ” نهايات ” تتلون بتلون تلك ” الحياة المتصارعة اجتماعيا “بين مستويات متباينة ، بل وأنها ” نهايات ” معّبرة عن أي نوع من التدخلات الإقليمية في شؤون العراق ، لتثمر ردود فعل ساخنة لما تكون عليه طبيعة علاقة أي زعيم عراقي راحل بمن يحيط العراق من جيران ! ناهيكم عن كون أي نهاية من نهايات أي زعامة عراقية تتباين في مخرجاتها التي تصنعها التناقضات الاجتماعية والسياسية التي تحكم بنية المجتمع العراقي .. وهي بنية معقدّة وصعبة جدا منذ زمن غابر.
في الحقيقة التي ربما يجهلها غير العراقيين أن نهايات الزعماء في العراق حالات متشابهة ولكنها تختلف صورها وألوانها وأساليب وقائعها .. وهي من الوقائع التاريخية التي تعد جزءا أساسيا من اهتمام العراقيين منذ مئات السنين .. إن الذاكرة التاريخية العراقية تبقى مشحونة بالعاطفة دوما وهي تستعيد نهاية هذا أو قفلة ذاك .. ذلك لان الذاكرة العراقية لم تكن متفقة في أي يوم من الأيام حول أي واقعة تاريخية مضت ، فكيف تتفق أصلا حول نهاية أي زعيم من الزعماء ؟ كل زعيم عراقي من زعماء العراق المعاصرين في القرن العشرين اختلف الناس في العراق حوله ، وتصل درجة الخلاف في ما بينهم إلى درجة القطيعة ، بل أجد أن أي زعيم عراقي يرحل نحو السماء ، فهو لا يرحل لوحده حسب ، إذ لابد أن ترافقه جملة من الناس تذهب شخوصها مجرد ضحايا سواء من اجله في الدفاع عنه ، أو في الضد منه والهجوم عليه .إن أي زعيم عراقي راحل تشكّل نهايته حدثا بارزا لا يشغل العراقيين وحدهم ، بل أن بعضهم شغل الدنيا كلها ، وفي داخل العراق .. وقائع موت متنوعة لزعماء يهتاج لها الناس ، أو ينتظرها آخرون ، أو تثأر منها قسمات من الناس أو تحزن وتبكي عليها قسمات أخرى من الشعب أو يتشفّى بها البعض الآخر ! وهذه طبيعة اجتماعية صعبة اعتقد إنها متوارثة منذ مئات السنين نتيجة لما مر بالعراق من إحداث تاريخية صعبة لا يمكن تصوّرها .. ولا يمكن أن يدركها غير الوعاة والدارسين العراقيين .

الذاكرة العراقية : منوال التاريخ
من يفكّر قليلا في استعادة تلك الوقائع ليقرنها واحدة بالأخرى ويقف عندها مليا ، سيجد بأن الشناعة لا ترتكب مرة واحدة فقط ! ومن يفكّر بزعامة العراق وقيادته ينبغي أن يضع نصب عينيه نهايات من سبقه عبرة له ومثالا ليعرف كيف يتصرّف بشأن العراق ! ومن يحكم العراق عليه أن يشعر الشعب العراقي انه سيتقّبل نهايته كيفما كانت ! إن أي زعيم عراقي تقترب نهايته من المقصلة .. عليه أن يبقى شجاعا يتقّبلها كونه يدرك انه ليس أفضل شأنا ممن سبقه في حكم العراق ! وان نهاية أي زعيم عراقي سوف لن تكون نهاية للعراق أو نهاية للعالم كما يتصور الجهلاء .. ومهما جرى للعراق من كوارث ، فانه قادر على أن يستعيد أنفاسه سواء على يد ملك عظيم ، أو قائد زعيم ، أو طاغية غير رحيم ! من يقرأ تاريخ العراق بكل جوارحه سيرى أن أحداثا ووقائع خطيرة بدأت أو اختتمت بنهاية أي زعيم عراقي لا تراعى في ذلك لا أشهر حرم ولا أيام أعياد ، ولا ساعات صيام شهر فضيل ..

واخيرا ماذا نستنتج ؟
وعليه ، فان الإنسان قد يهتاج لهكذا فعل ، أو ذلك أمر ، ولكن اعتاد العراقيون أن لا يضعوا في ذاكرتهم أية اهتمامات كهذه على امتداد تاريخهم ، ولكن ليكن معلوما بأن العراقيين ليسوا كفارا في سيناريوهات كهذه أو تلك ، إذ لو رجعت مجتمعات الشرق الاوسط قاطبة إلى تاريخها الطويل ، لوجدت جملة من البشاعات أقسى وأمّر قد حدثت في أزمان مقدّسة ، أو أماكن مقدّسة ! فالعراقيون غير مسؤولين عن أحداث ووقائع يصنعها الآخرون لهم ، ولكن لابدّ لنا أن نعترف بهذه ” الظاهرة ” التاريخية التي اتصف بها العراقيون في القرن العشرين . وأتمنى على كل عراقي أن يفّكر أولا بهذه الظاهرة الخطيئة ، ويسأل نفسه : لماذا قتل أو اعدم ، أو عّذب الآلاف من العراقيين حكاما ومحكومين .. زعماء ومواطنين في القرن العشرين ؟ دعونا نعالج في الحلقتين القادمتين نماذج تاريخية حقيقية من مصارع العراقيين .
( نشرت في ايلاف 22 مايو 2009 )


الحلقة الثانية: مصارع العراقيين

” أعدم .. أعدم لا تكول ما عندي وقت .. أعدمهم الليلة ”
مطالبات جماهيرية للزعيم عبد الكريم قاسم في شوارع بغداد

الزعماء الملكيون والقادة القوميون والمناضلون الشيوعيون
أسس العراقيون مملكتهم في العام 1921 بظل البريطانيين وخططهم من دون سفك دماء ، ولكن بعد نشوب ثورة عارمة اجتاحت العراق .. ولقد نجحوا تماما اذ حققوا كيانا سياسيا جديدا بزعامة فيصل الأول الذي انتهى ميتا على فراش سريره في مدينة برن بسويسرا عام 1933 ، ولكن قيل في ما بعد انه مات مسموما بزرقة إبرة .. ، فبكاه الناس من العراقيين والعرب بكاء مرا ، وهاجت الدنيا لمصرعه وأقيمت التأبينات ونظمت القصائد وبكت النساء .. ولكن بعد مضي سنوات نسيت نهايته ! وفي العام 1936 ، سقط أحد ابرز رجالات العراق الفريق أركان حرب جعفر العسكري ، وكان واحدا من قادة جيوش الدولة العثمانية وزميلا لمصطفى كمال أتاتورك .. مات جعفر باشا مقتولا برصاص ضباط جيشه العراقيين أنفسهم ، وهو الذي يعدّ المؤسس الحقيقي له ، وذلك اثر انقلاب الفريق بكر صدقي .. وبعد مضي أيام ، قتل هذا الأخير برفقة قائد القوة الجوية محمد علي جواد في حدائق قاعدة مطار الموصل العسكرية ومن قبل احد مراتب الجيش العراقي ! وكان الحدث مؤلما أيضا بالنسبة للمجتمع العراقي ، ومضت شهور حتى نسي الناس ما حدث ..
قبل أن يختتم العقد الرابع بأقل من سنة كان مصرع الملك غازي الأول في العام 1939 بحادث سيّارة ، قيل انه مدّبر من هذا الطرف أو ذاك .. ولم يعرف الناس حتى اليوم سر موت غازي مهما كثرت التقولات ! وبكى الناس في كل مكان على غازي ولطمت النساء واهتاج العراقيون وأقيمت سرادقات العزاء العربية وكتبت المراثي ومضت الايام لينسى الناس ذكرى غازي ! وقبل ان ينتهي عام 1940 ، قتل الوزير رستم حيدر ( لبناني الأصل ) الذي شارك بسبع وزارات على العهد الملكي .. وفي العام 1941 ، تفشل حركة رشيد عالي الكيلاني الشهيرة والتي اتسّمت بطابعها القومي وكانت ولم تزل مثار اهتمام تاريخي لا ينضب بين من يؤيدها من القوميين ويجعلها مدرسة عربية وبتأثير من محمد امين الحسيني مفتي فلسطين ، وانطلقت من تداعياتها ثورة 23 يوليو بمصر ـ كما ذكر انور السادات في مذكراته ـ وبين من يصفها بأنها نتاج تأثير النازية بحكم ارتباطات بعض رموزها بادولف هتلر .. ولكن كان من نتائجها المحزنة ان شنق العقداء الاربعة الذين قاموا بها على اعواد المشانق وهم : صلاح الدين الصبّاغ ومحمود سلمان وفهمي سعيد وكامل شبيب وكان خامسهم المحامي يونس السبعاوي .. وانشغل العراقيون بهذا الحدث المأساوي واهتاجت ( الأمة العربية ) لمصرع الشهداء القوميين العراقيين ، وكيلت لزعماء العراق الحاكمين شتى التهم وكتبت ضدهم مئات المقالات واعتبر ذلك بالنسبة للقوميين في العراق ثورة حقيقية ستولد عنها ثورة قادمة ، بل وبدأ خصوم النظام يستخدمون ذلك ” الحدث ” في الإعداد للثورة القادمة.
وبنفس الوقت ، استخدم الشيوعيون العراقيون إعدام زعيمهم مؤسس الحزب الشيوعي العراقي فهد عام 1949 ، ورفاقه حجة تاريخية في الوقوف ضد حكام العراق وقت ذاك متمثلا ذلك بالضد من الأمير عبد الاله ( وكان وصيّا على العرش ) وضد رئيس وزراء العراق المخضرم نوري السعيد الذي عدّ الشيوعيين في مقدمة أعدائه ، وكان ذلك أحد ابرز أخطائه القاتلة .. وإذا كانت ذكرى شنق العقداء الأربعة وصاحبهم المدني قد ترسّخت في ضمائر القوميين لمرحلة تاريخية طويلة ، فأن ذكرى شنق مؤسسي الحزب الشيوعي العراقي قد ترسّخت في ضمائر الشيوعيين لمرحلة تاريخية أطول ، إذ لم تزل حية لدى أي شيوعي عراقي .. ومن الفوارق ، إن العرب لم يذكروا من الشهداء إلا العقداء الأربعة الذين أطلق عليهم بـ ” المربّع الذهبي ” ، من دون أي ذكر لنهايات الآخرين من العراقيين .

نهايات تراجيدية ومأساوية لا معنى لها
في فجر يوم 14 تموز / يوليو 1958 ، استيقظ العراقيون والعالم كله على اخطر حدث تاريخي غّير مسار العراق والمنطقة كلها نحو طريق آخر ، إذ قام انقلاب عسكري ثوري بالاتفاق مع أحزاب مدنية ، أطاح بالنظام الملكي وأعقبته مباشرة ثورة جماهيرية صاخبة سجلت فيه نهايات حكام العراق بأبشع الوسائل .. ذهب ضحية ذلك الحدث على مدى يومين كل أعضاء الأسرة المالكة ، نسوة ورجالا وعلى رأسها كل من الملك فيصل الثاني وخاله وولي عهده الأمير عبد الاله ، وقتل رئيس وزراء العراق الشهير نوري السعيد وغيره ، وكانت نهاية مؤلمة اشمئز منها العالم كله ، إذ سحلت جثة عبد الاله في شوارع بغداد وقطعت أوصالها شر تقطيع .. وهكذا جرى لنوري السعيد إذ سحلت جثته ومثّل بها وديست عظامها بالسيارات المارة ! ولم تجد لها قبرا ! وقتل صباح بن نوري السعيد وسحلت جثته مع سحل أناس آخرين ، منهم أبرياء قتلوا على الشبهة ! وانقسم الناس إزاء الحدث ، إذ أنني اعتقد أن هناك من بكى فيصل الثاني الملك الشاب الذي لم يكمل الثالثة والعشرين ربيعا .. بل ويقال ان هناك من بكى عبد الاله ونوري من العشائر والعوائل العراقية القديمة .. ولكن الناس في عمومهم غلب عليهم الفرح وابتهجوا ، وتشّفى آخرون ورقص الراقصون ، وغنّى المغنون ، وراحت إذاعة صوت العرب تتشفّى بتعليقات جارحة وكتبت مجلة ( آخر ساعة ) ابتهاجات العرب ، بل ووصل مستوى التشّفى حتى لدى زعماء عرب في خطابات جماهيرية وبما حدث لزعماء العراق القدماء ! لقد كانت نهاية تاريخية مفجعة ما كان لها أن تكون بحق زعماء مهما كانت أخطاؤهم جسيمة ، إلا أن قدرهم كزعماء عراقيين اكبر من أن يجلسوا في قفص اتهام كي يحاكموا على ما اقترفوه بحق العراق ! ولكن تأملوا بنهايات الزعماء العراقيين .. ومن سوء حظ العراقيين أنهم ينقسمون إزاء هكذا نهايات ويفتحوا الباب أمام غيرهم ليتدخل في شؤونهم!

الاعدام : شنقا حتى الموت ورميا بالرصاص
في العام 1959 ، صدرت أحكام عدة بالإعدام بحق العديد من رجالات العهد الملكي ، ولكن عبد الكريم قاسم لم يوّقع إلا على إعدام بعض المسؤولين المدنيين بتأثير من الحزب الشيوعي العراقي ، فصعد المشنقة سعيد قزاز ، وهو رجل عراقي قوي الشخصية والإرادة ، كردي صلب من مدينة السليمانية ، وكان يشغل منصب وزير داخلية النظام الملكي عند سقوطه ، إذ اتهم باتهامات إطلاق النار على المتظاهرين وبممارسات قام بها جراء منصبه في مناطق عدة من العراق .. صعد المشنقة وهو يردد : (سأصعد إلى المشنقة وأرى تحت أقدامي أناس لا تستحق الحياة !) وشنق معه بعض المسؤولين المدنيين في سجن بغداد المركزي من دون أن يذكرهم احد ، واعدم أيضا رميا بالرصاص العديد من الضباط العسكريين العراقيين الذين حوكموا بتهمة الخيانة العظمى لقائد الثورة الزعيم عبد الكريم قاسم ، وذلك في ساحة أم الطبول .. وفي الوقت الذي حزن البعض على المشنوقين والمعدومين ومن أبرزهم : الزعيم ناظم الطبقجلي ورفعت الحاج سري ومحمود شهاب وفاضل الشكرة وعشرات غيرهم .. وكانت نهاياتهم قد جرت اثر محاكمات عسكرية في محكمة الشعب على أعقاب فشل أحداث الموصل ومحاولة عبد الوهاب الشواف الانقلابية في الموصل والتي ذهب ضحيتها المئات ، وفي مقدمتهم الشواف نفسه الذي قتل وسحل في الشوارع وفشل حركته القومية بعد مصرع الزعيم الشيوعي كامل قزانجي بأيدي القوميين ، فكان أن استبيحت الموصل على مدى أيام وجرى فيها القتل والسحل والنهب على مدى أيام منذ 8 آذار / مارس 1959 .. كان البعض الآخر يفرح ويتشفّى على نهاياتهم ، ولقد أعقبت تلك الحركة موجة اغتيالات واسعة في مدينة الموصل ، سبّبت هجرة الآلاف المؤلفة من أهلها إلى بغداد .. وأرجو أن لا ينسى كل العراقيين اليوم من كان يحّرض على القتل .. من كان يهتف بشعارات مرعبة تستخدم فيها الحبال .. من كان يحّرض على الشنق .. صدى المذيع الشهير احمد سعيد يلعلع في إذاعة صوت العرب يلعن المشنوقين من الخونة الملكيين ، ثم انقلب عبد الناصر على عبد الكريم قاسم ، وبدأ يهاجمه ويهاجم الشيوعيين ، ويجعل الضباط القوميين العراقيين من الشهداء الأبرار والصديقين.
والعراقيون كانوا وما زالوا منشغلين بانقساماتهم السياسية ، بل وبأحداث القتل والسحل لهذا أو ذاك من العراقيين في هذه المدينة أو تلك ، في العاصمة بغداد التي كانت ولما تزل منقسمة على نفسها بين أحياء قومية وأحياء شيوعية ! السؤال: هل حدث أي نضوج سياسي إزاء هذه ” الظاهرة ” المقيتة لإدانتها تماما ، وإدانة كل من كان بلا وعي وهو يطلق شعار ( اعدم .. لا تكول ما عندي وكت .. أعدمهم الليلة ) و ( ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة ) ليس بتقديم اعتذاره للتاريخ ، ولكن ليعترف أن ما حدث كان من الأخطاء الكبيرة .. ولا أنسى وأنا يافع في صباي كنت اختلس بعض الزمن لأقرأ في كتاب عنوانه ( نضال وحبال ) قام بتأليفه احد الأساتذة الجامعيين العراقيين واسمه شاكر مصطفى سليم .. وفيه أوصاف مؤلمة لا يمكن تصديقها لما كان قد حدث في العراق من مجازر بحق الإنسان ! يقول الشاعر الشهير محمد مهدي الجواهري من قصيدة شهيرة له آنذاك:

شعب تفنن في انتزاع حقوقه
بحباله مـن رأس كل مغامـــر
وإذا الحبال تمكنت مـن ثائــر
طرحته وانتقلت «لصيد» آخر

وماذا بعد ؟
واليوم أحاول أن اخلص إلى نتيجة مؤرخ منصف بالقول أن التناقضات العراقية سواء الطبقية أو بين مستويات المجتمع قد ولّدت احقادا لا مثيل لها .. واذا كانت تلك الاحقاد والضغائن والثارات تبدو مختفية حينا ، لكنها سرعان ما تتفجر براكين غضب بوجه كل المسؤولين في كل من الدولة والمجتمع .. ناهيكم عمّا تولّده من الانقسامات السياسية التي مبعثها تشظيات اجتماعية جد متنافرة، وأيضا التحريض الإعلامي والسياسي من أطراف عربية .. كله كان ولم يزل حتى يومنا هذا ، يؤجج مشاعر العراقيين وعواطفهم إلى الدرجة التي يصبحون يتناسون فيها أية ضرورات وطنية هي اكبر كثيرا من شعارات لا تتحقق .. كلها كانت وراء تلك الاحترابات والمشانق والقتل .. ولا ننسى أن الزعيم قاسم نفسه قد تعّرض للقتل في قلب بغداد بشارع الرشيد ومن قبل شباب بعثيين كان احدهم يسمى بـ صدام حسين التكريتي ! وقد حوكم بعضهم ، ليصدر عفو الزعيم عنهم في يوم الابتهاج .

( نشرت في ايلاف ، 31 مايو 2009 )




تلفزيون بغداد يعرض مشهد مصرع الزعيم قاسم

الحلقة الثالثة : التصفيات البشعة

وطن تشيّده الجماجم والدم تتهدم الدنيا ولا يتهّدم
شاعر عراقي 

في صباح 8 شباط / فبراير 1963 ، قتل جلال الاوقاتي قائد القوة الجوية غيلة ، وكان اغتياله إشارة بدء حركة انقلابية ضد حكم قاسم ، ثم قصفت وزارة الدفاع بالطائرات في قلب بغداد ، ودارت معركة ساخنة أنهت نظام الزعيم عبد الكريم قاسم اثر انقلاب دموي قام به البعثيون ، وفي اليوم الثاني سّلم الرجل نفسه لخصومه البعثيين بعد أن دافع دفاعا مستميتا ، ولكنه استسلم لجلاديه من دون أن ينهي حياته من اجل حفظ كرامته ، واقتيد إلى دار الإذاعة ليواجه أعدائه من الانقلابيين ، وليعدم هناك بسرعة رفقة ثلاثة من اخلص معاونيه في واحد من استوديوهات الإذاعة .. لقد اعدم في الوقت الذي كانت تجري مذابح في أحياء من بغداد بين الشيوعيين والبعثيين ، ولم يتوّرع القادة الجدد أن يعرضوا على شاشة التلفزيون العراقي مشاهد من مصرع الزعيم قاسم ، وجندي يمسك خصلة شعره ويرفع رأسه ويبصق بوجهه على مرأى ملايين العراقيين وفي شهر رمضان ، إذ لم يكن هناك أي اعتبار أو حرمة لا لكونه زعيم بلاد هزم في معركته ، بل احتراما لرتبته العسكرية ..
في يوم السبت 9/2/63 استسلم قاسم والمهداوي وطه الشيخ احمد وكنعان حداد ونقلوا لمباني الإذاعة ، حيث ضُرب المهداوي ضربا مبرحا منذ لحظة نزوله وسال الدم كالنافورة من رأسه وعندما طلب الرحمة قيل له اطلبها من الطبقجلي ورفاقه الذين أعدمتهم في ساحة أم الطبول، وحاول أن يلقي بكامل المسؤولية على قاسم ، وهو القائل إبان محاكماته الشهيرة: «أنا بسمة من بسمات قاسم، أنا نسمة من نسمات قاسم»، وقد صدر حكم سريع بإعدام الجميع وقد نُفذ الحكم على كراسي الموسيقيين .. ونقلت مشاهد الإعدام على التلفزيون بالأبيض والأسود !
كان المجتمع قد زاد انقسامه أيضا بين أناس بكت الزعيم بكاء مرا ، ولم يزل العراقيون يحملون أجمل ذكرى عنه ، ولكن ثمة عراقيين آخرين ، رقصوا مع أغاني التلفزيون المبتهجة بـ ( موت الزعيم الهمشري ) ـ كذا ـ ، وكنت صبيا لا افقه معنى تلك الكلمة التي تثير التقزز ! كنت اسمع إذاعة صوت العرب ، وهي تتشفّى بنهاية زعيم العراق الذي اسماه عبد الناصر في خطبه بقاسم العراق !! .. مع حدوث مجازر على مدى أيام من قبل البعثيين ضد كل من الشيوعيين والقاسميين ، وحفلات تعذيب مرعبة بحق قياديين ومسؤولين حزبيين ، أمثال : سلام عادل وعبد الجبار وهبي وعدد كبير من الشيوعيين الذين قتلوا ، إذ يذكر صالح مهدي عماّش للرئيس عبد الناصر إن البعثيين حصدوا أربعة آلاف شيوعي .. وهناك من حشر في قطار أسموه بـ ” قطار الموت ” إلى سجن نقرة السلمان الصحراوي وكانت رحلة عذاب ونهايات مريرة لم نشهد مثلها في أي بلد مجاور ! .
ومثلما سمعنا السيدة أم كلثوم تغني مباركة 14 تموز / يوليو 1958 ( بغداد يا قلعة الأسود ) .. غنّت مباركة 8 شباط / فبراير 1963 ( ثوار ثوار لآخر مدى ) !! السؤال : إن الكل يفرح ويغّرد في الشوارع والساحات مع أناس تبكي خفية بين جدران بيوتاتها .. ولا احد يسأل سؤالا واحدا : لماذا يقتل زعماء العراق ويهانوا بطريقة لا يقبلها أي عقل .. ؟؟ وأسأل سؤالا آخرا : لماذا يفرح العرب لمصرع زعماء عراقيين ولماذا يحزنوا على زعماء آخرين ؟ لماذا حزنوا على موت فيصل الأول ، ولماذا فرحوا بمصرع فيصل الثاني ؟ لماذا فرحوا بإعدام عبد الكريم قاسم ولماذا حزنوا على شنق صدام حسين ؟ ما سر هذا التناقض الذي يميّز بين هذا أو ذاك وكل من هذا وذاك له نهاية واحدة هي الموت بأبشع الوسائل ! وبين هذا وذاك لماذا لم تقم الدنيا وتقعد بتقطيع أجساد زعماء عراقيين ، أو رفض اهانتهم عند نهاياتهم المريرة ؟
لماذا لا احد يذكر كيف مات عبد السلام عارف أو احمد حسن البكر ؟

القيادات العارفية : نهايات بشعة
في 18 تشرين الثاني / نوفمبر 1963 ، لم تسفك دماء البعثيين على يد المشير الركن عبد السلام عارف الذي انقلب عليهم بعد أن شاركهم انقلابهم ضد قاسم .. وكانوا وراء تنصيبه رئيسا للجمهورية العراقية ولأول مرة بلا أية انتخابات تشريعية ، ولكنه عفا عنهم بانقلابه .. ويقال أن الرجل لم يعدم أحدا إعداما سياسيا طوال حكمه .. ولكن نهايته كانت مفجعة أيضا ، إذ احترق بطائرة الهيلوكبتر اثر حادث لم يزل غامضا في كل تفاصيله الدقيقة والمريبة ، وتشير أصابع الاتهام لأكثر من طرف كانت له مصلحة في وضع نهاية له .. ولقد شاهدت بنفسي شباب العراق من طلبة وطالبات جامعة بغداد وقد اصطفوا يودعونه وهم يبكون نهايته المتفحمة ، اذ كانت نهاية تراجيدية، وكالعادة كان هناك من حزن لرحيله ، وهناك من صفق لمصرعه وراح يعدّ العدة للاستيلاء على السلطة من هذا الطرف أو ذاك .. ولقد تواصل عهده بعهد أخيه الذي اختير من بعده رئيسا ، ولأول مرة يرث الأخ حكم أخيه في العراق الجمهوري ! وبالرغم من حدوث أكثر من محاولة انقلاب إلا أن العارفيين الاثنين لم يعدما من تآمر علي حكمهما ! وإذا كانت نهاية حكم عبد الرحمن عارف سليمة ، إذ لم يقتل أو يعدم ، بل نفي إلى تركيا على يد الانقلابيين البعثيين في 17 تموز / يوليو 1968 ( توفي في الأردن 24 أغسطس 2007) ، إلا أن أركان الحكم العارفي قد نالتهم التصفيات البشعة ، إذ عّذب الدكتور عبد الرحمن البزاز رئيس الوزراء السابق عذابا شنيعا ، وسلخ جلد شامل السامرائي وزير الوحدة السابق ، واحرق بطيئا عبد العزيز العقيلي على مدفئة وكان وزير دفاع سابق ، ، وقطعّت أعضاء رشيد مصلح التكريتي الحاكم العسكري السابق ، وعذب عذابا شديدا ، وعّذب طاهر يحي التكريتي رئيس الوزراء السابق ..عذابا لا يرحم ، وفعل بالعشرات من غيرهم من دون أن يذكرهم أحد .



إعدام اليهود

قافلة الموت الزؤام
وفي عهد الرئيس البكر قتل واعدم العشرات ، بل المئات بشتى أنواع القتل الشنيع سواء بالإعدامات الجماعية ، أو مجازر قصر النهاية ، أو عذابات مديرية الأمن العامة .. وقتل العديد من المشاركين في السلطة الجديدة بدءا بناصر الحاني وعبد الكريم الشيخلي وحردان التكريتي وعبد الرزاق النايف ومدحت الحاج سري وشيوخ عشائر واعيان مجتمع ومئات لا يحصى عددهم .. انتقالا إلى من كان يتهم بمؤامرات قلب نظام الحكم أو الذين اتهموا جواسيس وعملاء وخونة وصولا إلى ناظم كزار مدير الأمن العام الذي كان يتصف بشروره وقتله أعدادا لا تحصى من العراقيين وما سمي بمؤامرته التي قتل فيها حماد شهاب وزير الدفاع .. ويأتي مصرع ناظم كزار ( الذي قتل ببشاعة بنفخ جسمه وهو حي ) وكان له تاريخ سيئ جدا .. وكانت هناك تصفيات بدس السم من اجل القتل البطيء ، وكان ممن ناله ذلك شاذل طاقة وزير الخارجية وعشرات غيره .. وكانت نهاية الرئيس احمد حسن البكر غامضة هي الأخرى بعد مقتل ولديه أيضا ، وصولا إلى اعتلاء النائب صدام حسين سدة الرئاسة عام 1979 ، وافتتح عهده بمصرع الذين اتهمهم بالتآمر على الحزب والثورة من ابرز القياديين العراقيين ، وأشهرهم : عبد الخالق السامرائي ، وعدنان حسين، ومحمد عايش ، وغانم عبد الجليل ، وعبد الحسين مشهدي وغيرهم .. وسجل عهده نهايات لعدد من ابرز المسؤولين، مثل : مرتضى سعيد عبد الباقي ، ورياض حسين ، وفاضل البراك وصولا إلى عدنان خير الله ( الذي قتل بحادث طائرة غامض ) وزوجي أبنتيه حسين كامل وأخيه وغيرهم كثير .
ولقد أعدم العشرات من الضباط العراقيين بتهمة التخاذل والجبن في الحرب العراقية الإيرانية .. كما اعدم عدد كبير من التجار بتهمة تهريب العملة .. وقتل العديد من أركان المعارضة السياسية ، وكان في مقدمتهم السيد محمد باقر الصدر وأخته نور الهدى وعدد كبير من أعضاء حزب الدعوة .. ناهيكم عن مصرع العديد من الشخصيات العراقية خارج العراق ، أمثال الشيخ طالب السهيل .. واعدم الدكتور راجي التكريتي بعد إرجاعه إلى العراق بطريقة بشعة ! وهناك العشرات من الشخصيات المهمة سياسيا وعسكريا واجتماعيا لاقوا حتفهم بأساليب مختلفة شنقا ورميا بالرصاص واغتيالا .. وتعذيبا وتسميما .. الخ أما التصفيات والإعدامات الجماعية التي واجهها العراقيون إبان الحروب في الشمال أو الجنوب ، أو في السجون والمعتقلات .. فهي كثيرة لا تحصى أبدا . وكان العراقيون وما زالوا يعانون من آثارها وتداعياتها الصعبة .

المعنى التاريخي
لقد انتهى صدام حسين نفسه بعد أن سقط نظامه من قبل جيوش الاحتلال الأمريكية في 9 نيسان / ابريل 2003 .. وقبض عليه بعد أشهر ، وحوكم على امتداد سنة كاملة ، ونفذ فيه حكم الإعدام شنقا حتى الموت .. لتّشكل نهايته ضجة كبرى إذ انه شنق فجر يوم عيد الأضحى.. ومثلما انقسم العراقيون عند نهايات من سبقه من الزعماء ، فلقد انقسموا اليوم إزاء نهايته ..
وإذا كان الإخوة العرب قد فرحوا ورقصوا لدى سماعهم بإعدام عبد الكريم قاسم في 15 رمضان ( 9 فبراير 1963 ) من إذاعة صوت العرب ، فإنهم بكوا صدام حسين في أول أيام عيد الأضحى .. إنهم يسجلون استعراضا إعلاميا من دون أن يدرك كل من العراقيين والعرب مغزى هكذا نهايات ! ولماذا ينتهي زعماء العراق واغلب قيادييه ومسؤوليه نهايات مقرفة تقع دوما بين الشماتة وبين التقدير ؟؟ وهل يتعظ من تاريخ تلك النهايات الصعبة كل من سيحكم العراق لاحقا ؟ هل يفهمون المعنى التاريخي لنهايات تاريخية كتلك التي سجلها عبد الكريم قاسم وهو يتلقى الرصاص رافضا أن يعصب عيونه أو تلك التي سجلها صدام حسين وهو يهوي معلقا بحبل المشنقة رافضا وضع أي كيس يغطي به رأسه ؟؟

ست سنوات من الفوضى والنهايات الدموية
إن العراقيين ما زالوا يعيشون هذه ” الظاهرة ” حتى هذه اللحظة ، وإذا كانت حياة الفوضى قد استشرت في كل مكان ، وأصبح الموت لعبة أطفال .. إننا على امتداد أكثر من ست سنوات ومنذ العام 2003 ، أصبح المجتمع العراقي كله رهين حالة الرعب والموت لكثرة من قتل ، أو غّيب ، أو اضطهد ، أو فجّر ، أو اغتيل .. زعماء العراق اليوم لا يمكنهم أبدا الخروج من منطقة خضراء تحميهم من قتل مؤكد ! لقد انتقل العراقيون من حالة دكتاتورية مخيفة إلى حالة فوضى مرعبة ! لقد خسر العراق طوال هذه السنوات الأخيرة العدد الكبير من أبنائه ظلما وعدوانا . فهل سيهدأ البلد يوما بعد كل هذا الصراع .. وقد تفاقمت الأحقاد ، وتنامت الكراهية في المجتمع مع ضعف تركيبته الآن. لقد رحل وبأساليب مثيرة ودراماتيكية خلال السنوات التي أعقبت السقوط عام 2003 ، كل من السيد عبد المجيد الخوئي والسيد محمد باقر الحكيم وعضوي مجلس الحكم عقيلة الهاشمي وعزالدين سليم .. ونالت التصفيات المئات من الساسة والأساتذة الجامعيين والعلماء والضباط والطيارين ورجالات الأعمال .. وصولا إلى أعداد لا تحصى من المواطنين العراقيين .
إن التاريخ مدرسة رائعة لمن يدرك معاني الأحداث والوقائع ويتعلم منها .. إن تاريخ العراق لابد أن يدركه كل العراقيين ، ويغّيروا ما بأنفسهم ويؤمنوا بالحياة المدنية ، ويتخلصوا من انقساماتهم ، فالوطن لابد أن يتقّدم على كل الانتماءات .. على العراقيين أن يتوحدّوا بدل انقساماتهم التي تصنع زعماء لا يعرفون الرحمة فالزعماء لا تقوى على البطش إلا عندما تجد بيئة مساعدة على البطش والتنكيل .. كنت أشارك احد أصدقائي العراقيين قبل سقوط العراق وقبل انهيار نظام حكم صدام حسين أن تبدأ صفحة جديدة يتوّحد فيها العراقيون من اجل تحقيق أهدافهم الأساسية بتحرر العراق وبنائه من جديد على أسس وركائز قوية بعيدا عن الكراهية والأحقاد والتشظي .

واخيرا : من اجل نهايات عراقية بلا تصفيات !
وأحب القول بأن المشهد لا يفترق بين حفل زعيم عراقي قتل بالرصاص ، وخصومه تنظر اليه لتشفي غليلها وبين حفل زعيم عراقي اعدم شنقا بعد أكثر من أربعين سنة وخصومه تنظر إليه لتشفي غليلها .. فما الذي كان ؟ وما الذي سيكون ؟ وأتمنى أن لا يكون هذا المقال مؤججا للمشاعر ، بل لإثارة درس واضح المعالم ، لما يمكن للعراقيين التعّلم منه . إننا نسمع اليوم بثارات العراقيين ، والتهديد بما سيفعلونه ، وما يتوّعد كل طرف الطرف الآخر ، وكل المعارضين إزاء المسؤولين ، وكل حزب إزاء خصمه .. وكل متعّصب إزاء الآخرين .. وكل الحمقى إزاء الجميع .. وأخشى أن تبقى هذه ” الظاهرة ” المقيتة سارية ، وهي تنتج النهايات المفجعة ، وان تتحّول إلى محنة لكل العراقيين . إن الوعي بهذه الظاهرة لدى كل العراقيين أولا ، وتغيير سياسات العراق الاجتماعية جذريا ثانيا ، وتربية الأجيال العراقية القادمة تربية مسالمة ومختلفة ثالثا ، كلها أساليب كفيلة للتقليل من جحيم النهايات المريرة عند العراقيين .. أنها واحدة من نهايات كانت وستبقى لزعماء العراق ، وقد تنوعت الأسباب والموت واحد ، ولكن.. هل سيولد عراق جميل بلا تصفيات ؟ ومتى سيزول هذا ” المصطلح ” العراقي المشؤوم .. مصطلح التصفيات ؟

انتهت
( نشرت في ايلاف 5 يونيو / حزيران 2009 )
يعاد نشر الحلقات الثلاث من دراسة النهايات المريرة على موقع الدكتور سيار الجميل :
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

على المشرحة.. لا مواربة سياسيّة في الحوار العلمي (الحلقتان الثالثة والرابعة)

ثالثا : الاحرار العرب : مستنيرون لا خونة ! 1/ اخطاء تاريخية وتحريف للتاريخ ويستكمل …