اليوم نحن في العراق وخارجه ، نشهد انسحاقا مريرا للمثقفين العراقيين بعد أن خرجنا من تاريخ صعب كان فيه المجتمع مكبلا بقيود حزبية بوليسية وسلطات رقابية .. علينا اليوم أن نحلم بثقافة عراقية حرة من كل القيود .. ولقد عرفت الثقافة العراقية منذ القدم ، أنها تعيش تناقضات لا حصر لها ومنذ أكثر من ألف سنة .. ولكن يبقى المثقفون الأحرار في العراق هم الأعلون بكل إبداعاتهم التي تعبّر عن مدى انسحاقهم وشظف عيشهم ، اوجاعهم والآمهم التي لا يحس بها غيرهم .. اغتراباتهم وأحزانهم .. افتراقاتهم ووحشتهم .. مكبوتاتهم ومكابداتهم .. أمراضهم ورحيلهم ، وكله معّبر عنه باروع النصوص واللوحات والمواقف . لقد كانوا يحلمون أن يجمعهم وطن ، وتسكرهم ضفاف دجلة والفرات ويلف تراب العراق أجسادهم .. ولكنهم اليوم يعانون أكثر من أي زمن مضى من التجاهل والتهميش .. وهم يتعرضون للتآكل والانسحاق على أيدي المتسلطين الجهلة من دون أي اهتمام رسمي أو أي إشارة ضوء أخضر ترسم خطوطا على الطريق .
المثقفون الحقيقيون لن يصبحوا مجرد دمى
ينبغي أن نعترف بأن أي بعد ثقافي أو أي خصب إبداعي ، إنما يتأثر بالمناخات السياسية والفضاء الذي تخلقه الاوضاع حتى وان لم يرتبط أصلا بأي عملية سياسية معينة تقبض على أعناقه وتحيله إلى مجرد دمية ، وهي في حالة فوضى سيسخر منها التاريخ . ويخبرنا تاريخنا أن جملة مثقفين ومبدعين أرادوا الاقتراب من خنادق السياسة وميادين السلطة ، فاحترقوا أو شوهت صورتهم ، أو أنهم أصبحوا دمى بأيدي الزعماء وصناع القرار .. أولئك الذين عرفناهم ـ مثلا ـ في القرن العشرين باسم المثقفين السلطويين من المهرجين والإعلاميين والشعراء المتغاوين والكتاب الصحفيين .. وعرفنا أن من لم يقبل على نفسه مثل تلك المهنة المهينة ، فّر بجلده إلى خارج الحدود ليمارس دوره المثقف باستقلالية واضحة .
ليكن معلوما أن كل عهد سياسي يفرز جملة من المثقفين السلطويين الذين يدورون في فلك أي عملية سياسية مقننة ، أو يصفقون لأي نظام سياسي معين بعد أن يفتقدوا حريتهم وإرادتهم ليكون المثقف بجملته بيدقا يتلاعب به المسؤولون ويتقاذفه رجال النظام ، أو يغدو ألعوبة بيد من يتولى السلطة الثقافية في البلد ، وان اغلب من مارس تلك ” السلطة ” منذ خمسين سنة كان من الماكرين ، ومن الملوثين في سمعتهم الشخصية وانعدام أخلاقهم في المجتمع .. وان مشكلة الحرية والتعبير الحر لا يمكنها أن تكون بعيدة كل البعد عن الانوية والفئوية والحزبية والطائفية والسلطوية برمتها سواء كانت سياسية أم اجتماعية .. إنها لم تخلق إلا من اجل التعبير الحر والحيوي عن واقع اجتماعي بالأساس ، وتغدو منقطعة عن ذاك الواقع إن كان يركن في مياه مستنقعات آسنة .. إنها أداة تعبير عن خلاص أي واقع من آلامه وخنادقه وقيوده وتخلفه وبلادة أقطابه .. إلى حيث الخصائص القيمية العراقية والتفكير المدني والنزعة الإنسانية والذهنية الحضارية .
لا ثقافة في العراق ان لم تكن عربية !
إبداعات وأعمال رائعة ومعبّرة ومكتوبة ومحررة ومتلقاة باللغة العربية ، وليس بأي لغة أخرى .. وان ما كتب بالعربية يشكل ركاما هائلا ، لا يمكن أن يضاهى أبدا أي لغة أخرى .. فالعربية إذن ليست سّبة ، كما يصفها بعض أولئك الذين تسلقوا اليوم سلم الثقافة العراقية ، ويريدون عن قصد وسبق إصرار تشويه كل القيم العراقية المتوارثة ، وخصوصا ، ذاك الذي له علاقة بالعربية وأهلها .. ويعلمنا التاريخ الثقافي العراقي منذ القدم أن ثمة علماء وأدباء ورجال فن عراقيين : عربا وكردا وتركمانا وفويليين وسريانا وكلدانا وآثوريين وصّبة مندائيين وشبكا ويزيديين وغيرهم من غير العرب قد خدموا الثقافة العراقية واللغة العربية بالذات أكثر من علماء وأدباء عرب !
يبدو أن سياسات بعض المثقفين العراقيين الجدد اليوم تتعجّل في مشروعاتها التي تتقّصد التنكيل ليس بالثقافة العراقية نفسها ، بل بجملة عريضة من المثقفين والمبدعين العراقيين .. فلا يكفي أن الدولة كانت وما زالت تعمل على تهميشهم وإقصائهم .. والمحافظة على إبقائهم مهاجرين مغتربين وبعيدين جدا عن العراق .. فان هناك من صنع له صفّ أنياب وقواطع ومخالب لتدمير الثقافة العراقية والسيطرة عليها تحت يافطات ومسميات عديدة .. والتنكيل بها وبأصحابها من المبدعين الحقيقيين .. لقد تأكّد لي ولبعض الإخوة من المثقفين الأحرار أن إفشال أحد ابرز المشروعات الثقافية خارج العراق والذي قام بتأسيسه بعض المثقفين العراقيين كي يعّبر عن تطلعاتهم وآمالهم .. قد حورب حربا لا أخلاقية واتهم بجملة من التهم الرخيصة بلا هوادة ، من قبل أناس تريد تشييد مملكة لها باسم الثقافة العراقية ، والعمل على تشويه كل ما له علاقة بأصول هذه الثقافة العريقة ، والنيل من كونها عربية !
إن ما يحدث اليوم ضد المثقفين العراقيين في الداخل وما يصلهم من شواظ النار وهم في الخارج بتأثير مشروعات حاقدة على كل العراق والعراقيين يعد جرما خطيرا .. إن ما يحدث باسم المثقفين العراقيين لا يمّثل كل تموجاتهم في هذا العالم الواسع ، ولا كل ألوانهم السياسية أو أطيافهم الاجتماعية .. فلماذا يحدث ذلك باسم الثقافة العراقية ؟ متى تتحرر ثقافتنا العراقية من قبضة المتسلطين عليها سياسيا ؟ متى يتخلص كل المثقفين العراقيين من قيودهم ومخاوفهم التي كبلوا أنفسهم بها ؟ متى تبدأ ثورة المثقفين العراقيين إن لم تكن سياسية ، فلتكن ثقافية معبّرة عن روح العراق وطنا وشعبا وإرادة ؟؟ ثقافة معبّرة عن كل شبر من تراب العراق .. إذ لا تمايز بين مكان وآخر حتى تصبح واحدة من المدن مستحوذة على ثقافة العراقيين ، وكأن المدن الأخرى بلا أي إحساس وطني .. إن الانشطارات السياسية والفكرية لدى المثقفين العراقيين مبعثها تحشيد فاضح ضد مقومات ثقافتهم التي يتعاملون بها .. إن العربية قيمة حضارية ، وهي أس توحّدهم ، فالشعراء العراقيون مثلا ، مهما كان جنسهم أو لونهم أو عرقهم .. ومهما كان دينهم ومذهبهم وأصولهم ، فهم يكتبون ويقرأ ون بالعربية ، وزادهم هذا البحر الواسع الذي لا ينتهي من مواريث العربية على امتداد العصور . ولقد كان العراق ميدانها الحقيقي ، ومركز إشعاعها على كل مكان !
تدمير الانسان المثقف
ما دام هذا الإنسان له القدرة على أن يقول ( لا ) ويعترض ، فهو خطير إذن ، وينبغي سحقه وتدميره بأي ثمن ! وفي أحسن الحالات إبعاده عن وطنه الأم وعن مواطنته ، ليغدو مغتربا أو يستجدي العطف للإقامة في بلدان أخرى .. أو يبقى رهين محبسه ليغدو تحت سطوة قوى وميليشيات سياسية واجتماعية ودينية تبلورت على الساحة الجديدة في فضاء اليوم . انه يعيش صراعا تاريخيا وواقعيا مريرا بين ما يتطلع إليه من الحرية والانطلاق نحو عالم الإبداع بأروع تجلياته ، وبين الإرهاب والتسلط والتشرذم والفكر المتخلف في أوحش صوره .. إن البعض اختار الصمت وآثره لعدة أسباب ، وباع البعض الآخر قلمه لهذه الجهة أو تلك .. وتجد البعض وقد انحسرت مواقفه وتيبست مشاعره ليصفق طائفيا أو شوفينيا أو سلطويا .. أما بعض أولئك الذين كانوا يروّجون للتقدمية كمثقفين راديكاليين ، فتجدهم أما يصفقون للملالي الفارغين أو يصفقون للمتسلطين ، أو يداهنون من يريد شرذمة العراق .. ولم يبق إلا فئة صغيرة كانت وستبقى تقول ( لا ) لكل الخاطئين !
إن المثقف العراقي الحقيقي اليوم ، قد أصابه ، شاء أم أبى ، جزءا من هوس ذلك الصراع الذي سيأخذ وقتا ليس بقصير من اجل أن تنتصر إرادة التقدم على التخلف ، وقوة الحقيقة على الأوهام .. وعليه ، فقد قفز بعض المثقفين العراقيين من تفكيرهم التقدمي إلى حيث فضاء السياسة المليء بالأوهام والجماعات الانقسامية والشوفينية والمتخلفة .. عليه ، فإنني انصحهم أن يكونوا أحرارا لهم صوت المثقف لا الاستماع إلى وعاظ السلاطين او مكائد المتزلفين .. ولا تغرّنهم موائد طعام المهرجانات ، ولا تشترى أصواتهم أو صمتهم بأثمان بائسة ! عليهم أن يدركوا أن تاريخ العراق الثقافي القريب كان خلاقّا بحيث أنتج أقوى المثقفين وأروع المبدعين في كل الميادين .. أولئك الذين لم تفرزهم عمليات سياسية مختنقة .. أو تشترى ضمائرهم وأقلامهم بأسعار بائسة ، ولم يكن لهم أي روابط بساسة متخلفين ولا بأية مشروعات للتقسيم ، ولم يكن حلمهم إلا بإعادة تكوين مجتمع عراقي حر مدني منتج في قلب هذا العالم ..
الاثمان الصعبة
ان المثقف العراقي اليوم بأمس الحاجة إلى أن يقتنع بأن لا تقدم في الظاهرة الثقافية وحرية الكلمة والتعبير في العراق ، إلا عندما يشعر بأن البلد آمن ومستقر ونظيف .. وان بقي العراق تنهشه القوى السياسية والسلطوية والإرهابية والانقسامية والأحزاب الشوفينية المتخلفة وتعبث به جماعات إرهابية وحرامية .. وتديره أناس تحمل شهادات مزوّرة ، فلا عملية سياسية ستحدث ، ولا تقدم مدني حضاري سيتبلور .. على المثقف العراقي أن يقتنع بأن التحديات تخلق الاستجابات ، وانه إن كان معارضا لكل التراجعات والماضويات والتخلف وحكم الطوائف والتمييز العرقي ، وترويج الانقسامات والاقتطاعات .. على أساس جهوي أو قبلي أو مناطقي أو إيديولوجي أو انقسامي اقتطاعي .. وكلها تحديات قوية ، فانه سيخلق الاستجابات لها بأروع المنتجات من دون أن يكون مجرد أداة في عملية سياسية بلا دستور مدني يصلح للعراق ، وبلا قانون للأحزاب ، وبلا قانون للانتخابات ، وبلا أية ضمانات لا توصلنا إلى الطريق المستقيم ..
على المثقف العراقي أن يسأل نفسه : هل يستوي دوره اليوم ودور الآباء والأجداد من المثقفين الأحرار والمبدعين الرائعين والمناضلين الحقيقيين في القرن العشرين ؟ هل بإمكان أي مثقف عراقي اليوم ، إن تحققت له الحرية ، كما يتخيّل ، أن يكتب كالذي كتبه الشجعان ، أو ينظم أشعارا كالتي قالها الحكماء ، أو يحرر مقالات كالتي كان نشرها العمالقة ؟؟؟ عليه أن يسأل نفسه : هل يدفع ثمن حريته من زمن الدكتاتورية أن يعيش زمنا مجهول الهوية ، وفضاء مليئا بالموبقات والانقسامات ، ونحر الأعناق ، وفتك الميليشيات ، وقتل الأساتذة والصحافيين مع تغييب روح التمّدن والتحضّر ؟؟ عليه أن يسأل نفسه بكلّ تجّرد عن تلكن النسوة من المثقفات العراقيات والمبدعات الكبيرات اللواتي رسمن خطوطا رائعة في تاريخ الثقافة والفن العراقيين ..
قولوا ( لا ) لكل الأخطاء !
وأخيرا ، على المثقف العراقي أن يناضل ليس من اجل حريته ومصلحته وحده ، بل من اجل أن يكون العراق آمنا مستقرا ومنتجا غير مستهلك ، وان يكون مجتمعه مدنيا تنمحي منه الأحقاد والعصبيات والتقاليد الرثة والعادات السيئة .. عليه أن يوظّف حريته لخلق ثقافة جديدة تخرج عن مألوفات البلادة والقبلية والترييف .. فالحرية لا يمكن أن تعيش في فضاء من الاختناقات السياسية والاجتماعية والمعيشية . فهل سيتحقق ذلك عند جيل مسحوق وريث أخصب المثقفين ؟ هل سيبدأ وعي جديد بالمستقبل ؟ نعم ، سيبدأ وسيتحقق إن تفانى كل المثقفين العراقيين من اجل أن يقولوا ( لا ) لكل خطأ ! وان يقولوا (لا) لكل الموتورين الذين يعملون على تهديم كل الحصون والقيم ! وان يقول (لا) لكل الانقساميين والانفصاليين الذين يريدون تمزيق العراق ! وان يقول (لا) لكل المتخلفين والمعتوهين والمتكلسين والمخابيل الذين ما زالوا يعيشون الأوهام ويقدسونها ! وعند ذاك سنصفق ونقول : لقد انتصرنا لحريتنا بقدر ما انتصرنا لجوهرنا .. وجوهرنا هو في عراقنا وثقافتنا ولغتنا ومأثورنا الحضاري الخصب . فمن يصفق منكم سيداتي سادتي لما أعشقه وأحلم به ، ولما أريده وأدعو إليه ؟
تنشر على موقع الدكتور سيار الجميل بتاريخ 5 يوليو / تموز 2009
www.sayyaraljamil.com
Check Also
نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين
ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …