الرئيسية / الشأن العراقي / ليسَ في العراقِ مناطقَ مسلوخة !

ليسَ في العراقِ مناطقَ مسلوخة !

من المضحك اليوم ان تجد البعض من العراقيين يتصارعون على ارض لا يريدون ان تكون عراقية، بل يعتبرونها اراضي مسلوخة، أو انها قد سلخت منهم! متى سلخت وارشيف التاريخ يشهد بتبعيتها وملاّكها وساكنيها منذ القدم!؟ ويعلمنا – ايضا – لمن كانت تبعيتها؟ الى اي دولة؟ والى اية خرائط؟ والى اية مراكز ومدن؟! من اكبر جنايات التاريخ بحق هذه الارض او تلك المدينة او ذاك الشط او هذه القصبات ان تقول بالاكثرية والاقلية ونحن ندرك كم استمر نزوح العراقيين من هنا الى هناك على امتداد عمر الدولة العراقية المعاصرة. ما دمنا نؤمن بالعراق لا بغيره، فكل شبر عراقي هو ملك لكل العراقيين. لماذا تصبح عملية استيطان مدينة ما جريمة من الجرائم، وتغدو عملية نزوح واسعة النطاق الى العاصمة حالة طبيعية؟ لماذا لا نسأل عن اسباب تلك الحركة وذاك النزوح وهذا الاستيطان في كل المجتمع العراقي؟ هروب الاف الموصليين الى بغداد عام 1959؟ نزوح أهل الصرايف الى ما حول بغداد من كل جنوب العراق؟ من اين اتى الكويان والكاولية والقرج وأهل تنّه وغيرهم ليحلوا بالموصل في شمال العراق؟
كان العراقيون ينزحون من مكان الى آخر بارادتهم.. ويسكنون قرب المدن بارادتهم. باعتبار انهم يتحركون على ارض وطن واحدة موحدة بلا مساءلة، ولا ملاحقة. لم يعرف العراقيون ان بلادهم هي مجموعة جزر متفرقة او مقاطعات او دوقيات. ولم يتخيلوا يوما ان يأتي احدهم ليصف بعص قسمات بلادهم بـ “مناطق مسلوخة”! وما كانوا يدرون ان مدنهم كلها او بعضها ليست عراقية! لقد فتح العراقيون ابوابهم لكل النازحين والمهاجرين واللائذين به من دول الجوار، ومن دون اية حساسيات، بل كان الاندماج واسعا وكبيرا على مختلف العهود السياسية.
دعونا نسأل: هل نحن نؤمن بالعراق أولا، ونؤمن بروح العصر ثانيا، حيث لا فوارق بين الاطياف الاجتماعية والثقافية في اي تجربة حضارية (فيديرالية)؟ ام نحن ضد العصر حيث نزرع الفوارق العرقية، ونخلق الصراعات من اجل حدود لا وجود لها أبدا في ارشيف التاريخ لكي نجزئ العراق تحت يافطة الفيديرالية؟ هل من الحق ان نخلق لنا مجموعة من الجغرافيات الداخلية الشبيهة بدوقيات العصور الوسطى بحيث يتصرف امراؤها على هواهم، ويصدقون ادعاءاتهم، فليس في التاريخ “وثائق ” يمكن الاعتماد عليها أبدا في مختلف دعاويهم العدائية! هل نحن اسوياء نسعى لخلقها اليوم من العدم، ونبقى نحمل ورقة توت عراقية امام الآخرين؟ ان من اسهل الامور ان تزيّف هذا الواقع الفاسد والمتشظي بكل انقساماته، ولكنك لا تستطيع ابدا تزوير ارشيف التاريخ، خصوصا، ونحن نعلم ما الذي كان قبل خمسين سنة من اليوم وما الذي صار بفعل نزوح السكان العراقيين كالجراد الى امكنة محددة بالذات دون اماكن اخرى، ولنا في بغداد العاصمة اكبر مثال على ما اقول، بحيث جذبت ابناء السهول والشواطئ والجبال والبراري والقفار والاهوار الى اطرافها اولا، ومن ثم الى احشائها ثانيا! ان ما جرى في بغداد، جرى مثله او اتعس منه في كل من الموصل والبصرة وكركوك بشكل خاص.
ان كان لنا عراق حضاري في يوم ما، فقد كان من صنع كل المنتجين والمبدعين والاوفياء الذين التصقوا بحياة العصر وآمنوا بوحدة شعب العراق، واستلهموا كل معاني ارشيف تاريخ العراق، وتحركوا على كل تراب العراق من دون ان يميزوا هذا الشبر منه عن ذاك، الا من اراد الخروج عن ارادة وطن. ولقد اصبح معروفا للجميع بأن عراق التوحش والغاب لم يكن من ورائه الا المستبدون والمتعصبون والغلاة المتحزبون ليصنعوا فجائع التاريخ على ايدي ميليشياتهم الخضراء او الصفراء او الحمراء. أسأل: اذا لم نكن نؤمن اليوم بالعراق وطنا وهوية وترابا، فما موقفنا من كلّ الذين ضحوا بدمائهم وانفسهم ووجودهم من اجله على امتداد خمسين سنة مضت وانقضت؟ اذا كان هناك من لم يؤمن بهذا، فكيف يمكنه التعايش معي على امتداد المستقبل؟
اذا أتى اليوم من يقول إن في العراق مناطق مسلوخة، والقائل أخ احترمه واعتز به كثيرا، فماذا سيجيب الشعب العراقي على هذا التصريح الجارح؟ وهل تنفع تصريحات جارحة كهذه في زمن نحن احوج ما نكون الى العقل والحلم والصبر والمشاركة والمرونة لا الى اثارة التشنج والكراهية واشعال العواطف المتمردة. خصوصا ونحن نعلم بيد من مقاليدنا جميعا؟! واخيرا أسأل: من يسلخ من؟ ومن يريد سلخ العراق؟
اذا كنتم تسمونها مناطق مسلوخة او مقتطعة. فممّن سلخت؟ ونحن ندرك تاريخ العراق العثماني على امتداد اربعة قرون، ونعرف ولايات العراق وتبعية مناطق كل ولاية من السناجق والاقضية والنواحي. نحن ندرك دور اي مدينة عراقية في التاريخ الحديث واعداد سكانها والتحولات الديموغرافية التي اصابتها. نحن ندرك أن دعاوى كهذه لم تكن موجودة في الماضي على ايديكم انفسكم. فما السبب في احيائها اليوم؟ نحن ندرك ان اهم تعداد ديموغرافي للعراق جرى في العام 1957، فلماذا لا يتم الاعتماد عليه لمعرفة الاشياء والحقائق؟ نحن ندرك ان ليس هناك منطقة عراقية واحدة من شماله حتى جنوبه لم تختلط الناس عليها على امتداد عشرات السنين. نحن ندرك ان مناطق معينة في مدن عراقية معينة امتلأت بالنازحين من كل الجهات بعد ان كانت فضاءات برية واسعة، فكيف نأتي اليوم لنطالب بمثل هذه المدن كونها مناطق مسلوخة؟
ان العراق يخوض اليوم صراعا من اجل ان يكون كما كان عليه على امتداد التاريخ، او لا يكون من خلال من لم يؤمن به اصلا! ان العراق الذي استعصى على التقسيم كل هذه السنين، ومنذ العام 1991 مقارنة بغيره من الدول التي انقسمت وتفككت، سيبقى مصيره معلقا حتى يدرك كل العراقيين ان ارادتهم جميعا هي التي تصنع منهم شعبا لا شعوبا، ووطنا لا اوطانا، ولا يمكن ان يستقيم امره الا مع مشروع عراقي وطني موّحد، وهو يعيش في قلب مجال حيوي، ويجاور دول اقليمية لا يستهان بها. ان العراق لا يمكنه ان يعيش مجزأ بأي صيغة يريدونها، فالاجزاء ستكون حتما طعمة للافتراس. وان التاريخ يعلمنا كم هو حجم المفترسين ازاء العراق. ان العراق لا يمكن ان تسيّره بعض الاحزاب التي لا تؤمن اصلا بالعراق والعراقيين. فالشعب في اي مكان سيبقى يرتبط بالارض والجغرافيا لا بالاحزاب وقادتها. والمجتمع سيبقى يحمل موروثه التاريخي والثقافي وسيكون ذلك اقوى بكثير من اية اجندة سياسية هزيلة. ان العراق كان وسيبقى يعاني من الصراعات الداخلية حتى يدرك الشعب العراقي ان لا خيار له الا مشروع عراقي موحد يجمع ارادتهم في اتجاه المستقبل. ولا خلاص له الا بتغيير مجمل المسار السياسي الذي يتخذه اليوم. فهل سيحدث ذلك؟ نعم، ولكن بعد زمن بعيد!
www.sayyaraljamil.com

النهار البيروتية ، 16 ايلول / سبتمبر 2008 .

شاهد أيضاً

نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين

ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …