(1)
فريسة الأغنياء
نجوى عاشق
علي الجميل
ربي رحماك ما كسبت ثواباً
لا ولا كنت مستحقا عقابا
رباه ماذا جنيت ؟
ربي رحماك وأنت أرحم الراحمين
أعشق في العقد الثالث ؟
أحبٌ يستولي على فؤادي بعد أن لعب الشيب بالمفرق ؟
لا . لا . إني واهم
أحقاً إني واهم ؟ فلم يختلج فؤادي لذكرها ؟ وعلام لا تفارق مخيلتي صورتها ؟
أحقاً إني واهم ؟ وقد لازمني السهاد في وسط هذا السكون الرهيب
أحقاً إني واهم ؟ وأنا أصرف قوتي الخيالية إلى ذكرها وتصويرها وأشعر بفرح وانبساط طيفها الذي يمر بذاكرتي
ما هذه الدموع ؟ أليست ناطقة بأني أحببت ؟
ويلاه
إني قتيل عينيها. وأسيرها منذ النظرة الأولى فلقد صوّبت نحوي سهام لحاظها ، ورمتني عن قوس حاجبيها ، فنفذ السهم في أعماق قلبي ، وارسلت من عينيها شعاعاً قرأت منه سر الحياة فعلمت أن (السعادة) في الحب فأحببت.
وإذا به سر عميق لا يعرفه سوى المحبين
وكانت تلك الليلة ويا ليتني لم أرها
فهي مبدؤ شقائي لا سعادتي
أين أنا من عصارة هذا السحر ؟
أين أنا من هذه السوانح التي هام بها قلبي وأسرت نفسي
ويلاه ما هذا
أعد الليالي ليلة بعد ليلة لكي اتمتع بمحياها ؟
لا كانت تلك الصدفة وياليتني كنت فظاً غليظ القلب
إني أشعر بشيء غريب يستولي على مشاعري ويستحوذ على رشدي ويمتلك صوابي
ها أنا بين اليقظة والنوم أرى شبحاً من الجمال والبهاء واقفاً أمامي
هذا هو خيالها
هذه أية الحسن والجمال
هذه هي النجم الساطع في سماء المدينة ينير كل أفق يشرق فيه ويعبق كل أرض يخطر بارجائها
هذه هي التي عبثت بلبي عبث النسيم بأوراق الأشجار
هذه هي التي سلبت لبي من أول نظرة
هذه هي التي سرق الكحل لونه من لحاظها
*** *** ***
الليلة الأولى
ها أنا ذا بقصورة جالس وحدي وعيناي شاخصتان إلى فاتنة لبي تدلك لحاظها على أنها ساكنة هادئة لا يغرها تملق المتملقين ، ولا ابتسامة المعجبين ، وتنبئك ابتساماتها بأنها لم تخلع ثوب العفاف بعد ولا تزال ترتدي ذلك الثوب الجميل المتلالئ الذي لبسته منذ برزت إلى الوجود. ثوب الكرامة والشرف. ثوب الطهارة والأدب.
لا تزال بعيدة عن الهوة العميقة التي حفرها المجتمع الإنساني لها ولأمثالها من البائسات. ولم تنتقل من يد إلى يد. ومن مضجع إلى مضجع.
جلست حيث أنا ولم أتحرك كل الساعات الطوال.
شخصت ببصري نحوها ولم يفارقها لحظة واحدة. فاستغربت وابتسمت. ولكن الابتسامة المألوفة .. اذ ظننت أنني كسائر الفتيان الذين لا يهمهم من دنياهم إلا قضاء لبانة سيان عنده نزل القطر أم لم ينزل. ومن حقها أن تظن ذلك فكم شاب كتب إليها لتكتب إليه وأهداها صورته لتهدي إليه صورتها.
وكم من شاب وقف لها في الطريق التي مرت بها وضايقها في الإياب والذهاب, وكم وكم من شاب فقدوا في سبيل إرضائها ؟؟ خلق الرجولة والشهامة فأخذوا يتجملون لها بأخلاق النساء، ويتزلفون إليها بمثل صفات النساء وأطوارهن. وأصبح الشاب منهم لا عمل ولا هم له إلا أن يتجمل في ملبسه ويتكسر في مشيته ويرقق من صوته ويلون ابتساماته ويقضي الساعات الطوال أمام مرآته متعهداً شعره.
لم تضحكين ؟
أتضحكين لاهية ؟ – والمحب ينتحب – أم ساخرة من هذه الحياة ؟
أم مستهزئة بالحب وسلطانه ؟
أم تقصدين العبث بهذا القلب المضطرب الخافق الجريء ؟
أم تستخفين بهذه النفس التي تقدس الجمال ؟
أم بهذا الجسم السقيم الناحل الذي هو أصدق دليل على حبي لك ؟
أضحكي واسخري واستخفي فانت حرة قد ملأ جمالك الساحر فضاء جوانحي وتشرب بعروقي ودمي.
ولكن مهلاً لا تكوني قاسية ولا يملكن جمالك عليك سبل الرحمة والشفقة على ولهان مثلي فانه لم يذق من الحياة إلا مرارها وأحزانها حتى أسعده حبك.
أذكري في الليل الساجي تعيساً أذهله الحب وشقياً لن يكون نصيبه منك غير الجفاء.
ولا تنسي السحر الذي نفثته عيناك على قلبي الضعيف فخر مصعوقاً لهذا الجلال والبهاء.
هاقد برد الليل ولكن الزفير الذي بين خفايا ضلوعي لا يزال يتأجج كأنه اتون من نار كلما خمد زادته نظراتك لهيباً.
رحماك يا من أحببتها.
أتركي لي مكاناً بين جلدي وعظمي لكي يسع الآلام المبرحة ويتحمل الأحزان الفادحة. وسأكون ولا ريب فريسة اليأس القاتل مادام قد قدر على أن أكون بعيداً من قلبك. إني لا أسألك ما فعلت بقلبي فقد أمنت بأنه لن يعود إلا سعيراً ، ولكن لا تكوني قاسية وتعبثين به فسوف يصبح تراباً.
وهل تبكين يوم أموت ؟
كلا لا تبكي ولن تبكي
لأن البكاء قد خلق لغيرك وأما أنت فابتسمي واضحكي واسخري واستهزئي فشفتاك قد خلقا للابتسامة وعيناك الكوكبان الزاهران لينيرا لنا سبل الحياة لا البكاء.
قولي بالله عليك ألم تري عينك ما لم يره فؤادك إذ العين ترى مالا يراه الفؤاد . سلي السحر الحلال فانه ينبئك بما ينتابني من الكرب والآلام وإن لم تشعري بذلك.
*** *** ***
ألا تشعرين بزفراتي المتصاعدة وكبدي المتقطع وفؤادي الخفوق ؟
كلا لأنك لو علمت بذلك لأمنت بأنه الحب لو تعلمين عظيم ولأنك لو شعرت بتلك الزفرات وذلك الخفقان لأمنت بسلطان الحب.
أضحكي ومن حقك أن تضحكي وتستهزئي بالحب وسلطانه لأن قلبك لا يزال خلوا.
فلو عرفت أن عاطفة الحب هي الرابطة الوحيدة بين أجزاء هذا الكون لما ضحكت مني.
ولو عرفت لعاطفة الحب حقها واسلمتها زمامك لاستهنت بالدهر وما فيه من خير وشر.
ولو علمت أن الحب سر من الأسرار الطبيعية لا يهتدي إلى سبيله إلا الذي ذاق مرارته لما استخففت بسلطانه.
ولو دريت أن الحب نور لا يخبو ينبثق من خلال ضيائه قبس ينير القلوب لما تجاهلت حبي.
رفقاً بمحبي النحيل.
فلقد جحظت عيناي من نظراتك
أتريدين الانتقام ممن لم يجن ذنباً إلا محبتك
كلا ما الذنب ذنبك فانك لم تنتقمي مني بيديك بل بما أصبتني بسهام لحاظك.
ومتى عاقبت الشريعة ملاكاً (قتلت عيناه ولم تقتل يده) ؟؟
من هو هذا الذي يزعم بأن (من القلب إلى القلب دليل) ومن هذا الذي يقول (إن القلوب تجاري القلوبا) ؟؟ فلقد كذبوا والله فيما يزعمون.
ولو كان حقا كما يزعمون لما جهلت حبي ولو كان حقاً كما يدعون لما رأيت حبي لك ذنباً؟؟
نحن الآن في الهزيع الأخير من الليل ولم يبق من الفجر إلا قليلا في مثل هذه اللحظة تنامين أنت ملأ جفونك وعلى وجهك ابتسامة دونه ابتسامة الأطفال باسطة ذراعيك كأنهما زنبقتان تدلنا من ساقيهما يبدو من بينهما وجهك المتوج بظفائرك الذهبية كالوردة المغشاة بالطل عند الشفق قبيل بزوغ الشمس.
أما أنا
فقلب مصدوع وعين دامية وأيد مرتجفة ودموع جارية وصدر مكلوم ونفس معذبة تنظم حواشي هذا الليل بانات تذيب الصخر الجلمود وتخفق لها قوائم العروش.
كل هذه الآلام النفسانية عندي أحلى من الشهد يوم أتذكر أني سأشاهد ليلة غد قامك الفتان وعيونك اللواعج الكسيرة والخدود الأسيلة والخصور النحيلة وثغرك البسام وصدرك العاجي ويدك الفضية وأناملك البيضاء وأهدابك المسودة وجفونك الناعمة فما أسعدني ساعة الذكرى وما أحرج موقفي عندما أتخيلك واقفة أمامي في عالم الخيال بثوبك الناصع مرسلة الشعر وعلى فمك ابتسامة جميلة وعلى قلبك زهرة يانعة تضحكين ساخرة مني.
إني أكاد ألمس خيالك يغدو ويروح كغدوك ورواحك على المرسح وصوتك العذب كأنه يجدد في روح الشجاعة وينمي في قوة الحب ويبعث في قوة الأمل فأقوم إلى اللقاء إجلالاً لجمالك ولكن عندما تصوبين سهام لحاظك نحوي وينفذ شعاع عيونك بقلبي أقع صريعاً لا أعي يء لكي أذكر أني أضحك طرباً (كالطير يرقص مذبوحاً من الألم).
الليلة الثانية
غريب والله أن أعد الساعات والدقائق بل والثواني وأسارع لا الوي على شيء إلى المرسح ولم؟؟ سلي قلبي فانه ينبئك عن السبب أو أنظري إلى عيني تعلمين السر فمتى تشعرين باضطراب قلبي وخفقان فؤادي ومتى ترقين لدموعي الحارة.
كنت أشعر بسرور لا يوصف عندما كنت أتخيل بأنك سوف ترقين لحالي يوم أجثو أمام هيكلك باسطا أكف التضرع للتعارف وبذلك أخفف عن نفسي وطأة الفكر نوعاً ما وأنام مستريح البال وأترك السهر وقلقه وأشعر بذلة النوم وراحة المضجع.
ولكنك أبيت إلا أن تفجعيني بأعز ما لدي وتطعنيني طعنة نجلاء تلك هي حرمانك أياي من ابتساماتك اللطيفة هذه الليلة بعد أن كنت قانعاً منك بتلك الابتسامة ابتسامة الطفولة ونظراتك الحادة وهكذا قضيت على الحلم الجميل.
أتدرين على من تنظرين ؟؟
وهل تعرفين هذا الفتى الذي تحاولين أسره بلحاظك وتسقيه من خمر عينيك ؟؟
ابتسمي له وصوبي نحوه سهامك وأطلقي عليه لحاظك ولكن كل أتعابك سوف تذهب سدى فما كل فتى يهوى الابتسامة ولا كل قلب لسهام العيون ؟؟
كفى … كفى فلقد أدركت سبب ابتساماتك له.
إنه فتى مثر
إنه وجيه عندك وعند غيرك من عباد المال.
فأين أنا منه يا صفاء الله فان بين جنبي هما منهكاً زكمدا يذهب باللب ويطير بشظايا القلب ونارا من الحزن متأججة ومضطرمة دخانها زفراتي.
أما هو فالرجل السعيد بحظه صاحب الخزائن التي تموج بالذهب جاه عريض وكلمة نافذة وشفاعة مقبولة.
أما أنا فأشكو شقاء مقبلاً مدبر وأرى في السماء غمامة دهناء توشك أن تنفجر بالصاعقة الكبرى عشت فردا من أفراد هذا المجتمع الهائل صارعت الحياة وصارعتني وشاهدت بعيني بؤس البؤساء وشقاء الأشقياء.
أما هو فسعادة مدبرة في سعادة مقبلة لا يعرف من (الهم) إلا بقدر ما يعرفه الناشئ الفقير مثلي من (السعادة) ولو نظرت إلى الحياة بعين (البؤساء) لعلمت إنك (بائسة) وإنك أشقى فتاة على وجه البسيطة وإن هذا الفتى الذي وضع قلبه تحت قدميك إنما هو (الناشئ الفقير) الذي نشأ بائساً هو الذي يجدر أن تهبه (بائسة) مثلك ابتساماتها إن ضنت عليه بقلبها.
أما ذلك الفتى المثري فقلما يشعر بالآم الناس ومصائبهم أو يعطف على سرائهم وضرائهم وأنه أكثر الناس فقرا إلى المال وأشدهم طمعاً في إحرازه وأعظمهم مخاطرة بكرامته وفضائل نفسه – إن كانت عنده فضيلة – من أجله . فتشي عن ماضيه فانك لا تجدين سوى صحائف عار وخزي.
لا تغرنك وجاهته فانها وجاهة كاذبة مزيفة زائلة بزوال المال وزخرفة الباطل، فنحن في دهر لا عهد له يوثق به أو ذمام يعتمد عليه فكم وكم من مثله ذهبوا وذهبت ثرواتهم وأصبحوا أثراً بعد عين.
أنظري إليه فانه ينظر إليك بنظرات كلها شهوات حيوانية يريد أن يتقيك من على مقصدك ويذبحك على مذبح شهواته كأنه وحش جائع.
أنصتي إلى كلامه فسوف لا تسمعين منه إلا كل كلام خسيس تشمئز منه الإنسانية وتحمر منه وجهها خجلاً. ولو أدركت غرضه الأسمى من وراء هذا التطبيق والرياء والضحكة المصطنعة لانتفضت انتفاضة الفريسة أمام الضاري ولا لقيت عليه نظرة هائلة لو ألقيتها على رجل غيره أصعق في مكانه.
ويحك إنه من الشبان الذين لا يكتفون بإفساد نفوس الفتيات ولا بإفساد ضمائرهن وعقولهن وصحتهن فقط بل يسعون إلى التخلص .. التي سلبوها اعز ما لديها بكل ما لديهم من حول ومن طول فلا تلبث أن تنتهي حياتها تلفظ نفسها أما في حانة من الحانات أو بين جدران المواخير.
مهلاً لا تغضبي علي فان مناجاة النفس لشديدة الوطئة على الجنان في اندفاعها لمن تهوى وحبك أعماني إلا عن رؤيتك وأصم آذاني إلا عن سماع حديثك وربط لساني إلا عن ترديد ذكرك وأسكن قلبي إلا عن الخفوق من أجلك.
على رسلك لا تعجلي بالحكم علي فما أنا بالذي لا يتأثر لبؤس البؤساء وشقاء الأشقياء ولاينظر إلى ضعف الفتيات وإنما أنا رسول الحب وصوت العفاف جئت أحذرك من وحوش كاسرة لا تعرف حاء الحب ولا بائه ولا تراع للعفاف حرمة ولاتسمع أنات الفقراء وتوجع الفتيات البائسات ولا ترق قلوبهم لتوسلاتهن وتضرعاتهن.
*** *** ***
ولم تتعود نفوسهم الجامحة العواطف الشريفة ناصبين لك الشراك عن اليمين وعن الشمال ليبهروا أبصار بما اكتسبوه من وراء ظلم الفقراء وأكل أموال اليتامى ظلماً من الأصفر الرنان ولينتزعوا منك ثوب الطهارة والشرف ويزيلوا من جبينك نور العذار اللامع فهنالك السقوط الذي لا قيام بعده وهناك الهوة العميقة التي لا مخرج لك منها وعندئذٍ ينبذوك ويلفظونك لفظ النواة كما ينفروا عشرات من البائسات أمثالك من قبل وعندئذٍ تعترفين بانك ذهبت (فريسة الأغنياء) وضحية المال وقرباناً للشهوات.
إلى الدير إلى الدير
عندئذٍ تصبحين صفر اليدين لا خليل متملق ولا جمال يبهر الأبصار ، عندئذٍ اقرئي يا فتاة البؤس ويا فريسة الأخلاق المنحطة مذكرات بائس في سبيل البؤساء اختلج بها ضميره لياليا عندئذٍ تنصتين إلى صوت الحب الذي طالما صممت أذنك عنه هنالك تفهمين خواطر أملتها على لغة العيون ، تلك اللغة التي لايفهمها إلا كل مهذب النفس رقيق العواطف ، تلك اللغة لا يزول تأثيرها إلا إذا زالت الأنفاس المتصاعدة وجمد الدم في الشرايين وهنالك تدركين إذا ما قرأت زفرات – صوفي – زهد في الدنيا وملاذها زهداً دونه زهد (جنيد البغدادي) وورعنا في الحب دونه ورع (أبن الحافي بشر) عندئذٍ تكونين (صوفية) حقاً وتزهدين في الدنيا وملاذها زهد (رابعة العدوية) وعندها تقدرين ما كتبت في سبيل إرشادك وإرشاد (أمثالك من الفتيات المنكودات الحظ وستجدين في خلال سطورها نفسه هائمة لا تلوي على شيء ، وقد تجدينها تارة حكمية هادئة تستهزئ بهذه الحياة وملاذها استهزاؤك بسلطان الحب وأخرى ترنيها ضالة شريدة كضلال (البائسات) أمثالك من العذارى ، وهنالك ستنظرين إلى صور عديدة لنفس في فترة من فترات حياتي الغاصة بالقصص والآلام وأحكمي بعد ذلك على موقفي وقدريه حق قدرك حيال تلك العواصف الشديدة وهنالك تدركين حالة من جاهد في سبيل الحب الشريف ، وكيف تقف في سبيله العثرات وتأخذه الرجفات وإذا ندمت ولات ساعة مندم أو رجعت إلى الصواب بعد أن فقدت كل عزيز لديك وأصبحت شريدة طريدة لا وجيها يقع في شرك جمالك ولا جمالا تعيشين من ورائه وتيقنت بأن ذلك الماء الزلال الذي صورته الوحوش الكاسرة لم يكن إلا سراباً وإن تلك السعادة التي طالما منيت نفسك بها لم تكن إلا خيالاً ضعيفا ، وإن ذلك الفردوس الذي وعدك به المتملقون لم يكن إلا برقاً خلباً لماعاً وإنك أصبحت لا مأوى لك في هذا العالم فاجعلي طريقك الدير والبسي قميصك الأسود وعلقي (الصليب) على صدرك وأدخليه وعندئذٍ يكون أخر عهدك بالعالم وما فيه وتصبح سريرتك بيضاء نقية لا يجول في خاطرك حب غير حب الله ولا يخفق قلبك لذكر أحد إلا لذكر الله وإذا ما اعترفت يوماً أمام الكاهن بخطاياك الماضية فلا تنسي (الاعتراف) بما جنته عيناك النجلاوان وشنار جفونك الناعسة وما سبب لي من الآلام المبرحة وهنالك أصبح سعيداً وعندئذٍ يغفر الله لك ما تقدم من ذنب وما تأخر.
(2)
كسيرة الجناح
علي الجميل
معربة عن التركية
يا دارها بالحيف إن مزارها
قريب ولكن دين ذلك أهوال
نعم كان – نافذ – و – مرشدة – من الارتفاع والمنعة والأهوال كجبال – همالايا – وكان نافذ يحب تلك المرشدة المسكينة غير أنه لا يكتفي بما كان قد غرسته أكف الغرام بفؤاده من الوداد والمحبة بل كان قصده أن تتملك قلبه وتستاسر لبه وتخلب عقله فيصبح حاله كحال ليلى ومجنون يتقلب على جمر الغضا مدى الليالي ويسامر النجوم ويناوح ورقاء الهديل ويسكب الدموع في سبيل الغرام ، وأما مرشدة فانها وإن أبدت إليه الوجد والاشتياق والهيام والأتواق لكنه لا يرضى بذلك منها بل يحب أن تعامله بالدلال والتجني والصدود والتجنب ليزداد غرامه بها ويقاسي العشق والهيام.
لم تكن تلك المرشدة من المتبرجات تبرج الجاهلية ولكن العشق والغرام والوله والهيام كان أفناها وفقد منها رشدها ونهاها إذ كان القضاء قد أنفذ حكمه بانشغافها بنافذ وميلها إليه وانعطاف قلبها عليه .. لم يكن لنافذ طرف كحيل وخصر نحيل بل بينه وبين الجمال بون بعيد ومع ذلك كان قد تيمها هواً وتسلط عليها حبه وهو مع حاله هذا ومباينه للجمال يقابل تلك المرشدة بالشدة والعنف ويكدر بذلك محبتها الرائقة ويؤثر بفؤادها العطوف الميال ولا تأثير الحصاة بالزجاج وهي لم تزل تتغاضى عن ذلك وتقابله بالعطف والرضا والصلح والقبول لما قد غرس في فؤادها من المحبة والإخلاص ناظرة لقول القائل –كلما يفعل المحبوب محبوب-
لم يرض نافذ بهذا الحال منها ولم يدر عشقها الجدي له وانشغافها الزائد به لأنه يهوى التهتك في الهوى ويروم منها التجني والدلال ليزداد الجوى وتشب في فؤاده نيران الهوى وما تمت أويقات المسرة والصفاء إلا وبزغ كوكب الفراق ونادى منادي الرحيل ينذر بالبين والنوى فعبثت أكف الأيام بحبل الوصال بينهما وفرقت ذلك الشمل بعد أن كان في أجمل انتظام وأصبح بينهما بوناً بعيداً وأمداً مديداً فأين الوصال وقد حالت بينهما جبال شاهقات وبحار طاميات.
رغماً لقد دعت النوى
وتبدد الشمل النضيد
باتو وما بينهم
بحر ودون البحر بيد
لم تزل تلك المرشدة تتذكر ما كان بينها وبين نافذ من العهود الدقيقة والأويقات اللطيفة فتكسب الدموع تلهفاً وتتنفس الصعداء تأسفاً ولم تر شيئاً ينوب عن المواصلة غير المراسلة.
أرادت لها كاتباً فلم تجد لها كاتبا يرتضي غير أنها كتبت إليه عبارات رائقة عذبة تقول فيها – حبيبي نافذ -.
إذا تأملت محبتي الخالصة المستدينة التي غرست أعراقها في أعماق الفؤاد ونظرت إلى قلبك القاسي تجد بينهما فرقاً عظيماً ظاهراً.
نافذ – هل أنت جميل ؟ إني أشعر بهذا الجواب إذ طالما كان قولك لي – ما وجدت في من مزايا الجمال حتى علق فؤادك بي وأنا لازلت أنظر في المرآة كل يوم وأعلم أني لست من الحسان الذين يعشقون فما كان بك في محبتي – ما لاح هذا الفكر بمرآة خيالي وكن أميناً إن لم ينح أبداً هذه روحي قد جبلت على محبتك وهي لا تروم لقاءك والنظر لوجهك أيها الحبيب الغالي.
ولازلت محبة لك مدى الحياة فرفقاً بذا الأضغر الحساس الخفوق بين الضلوع المعذب لفراقك أناء الليل وأطراف النهار. وفي الختام عساني أحظى لمشاهدتك وأنال معانقتك أيها الحبيب.
كسيرة الجناح
مرشدة
وافى البريد فخفقت لذلك الطيور السرور باجنحة الحضور وافتر ثغر السعود عن لؤلؤ منضود وهبطت عليه هذه الرسالة حيث كان غارقاً بتيار – السفاهة – فسطعت على وجهه أشعة السرور بعد أن كان قاطب المحيا عبوسا يتقلب على نيران الجوى مما كان قد حل به من الاشتياق والهيام لفراق تلك المرشدة وما أطلع على رائق عباراتها ودقيق نكاتها إلا وتزايد سروره وأصبح في حالة يجدر أن ينشد حاله.
هناء محا ذاك العزاء المقدما
فما عبس المحزون حتى تبسما
غرق في لجج الافتكار بعد أن قرأ تلك الرسالة وتذكر عهوداً بطيب الوصل مضت وأويقات أنس باجتلاء كؤوس الهنا انقضت فشبت بين أحشائه نار الغرام وانهلت الدموع بانسجام.
تذكر والذكرى تشوق وذو الهوى
يتوق ومن يعلق به الحب يصليه
ثم تصور في خياله قدها المياس الموري بقضيب الآس تصور خصرها النحيل وخدها المورد الأسيل تصور طرفها الناعس الممارض وما حواه من السحر الحلال وما حواه ثغرها من اللآل وعقرب صدغها الذي الذي نفضت عليه صباغها الليالي وقد شخصت في فكره تلك الغادة الحسناء تذكر محبتها له وانشغافها به نفرت روحه من – عالم السفاهة- وأصبح من حواه ذلك المحل منظوراً عنده بعين الاحتقار بل لا يستطيع النظر إليه ثم أخذ يسعى بجمع الشمل مع مرشدة مؤملاً من ذلك الزمان أن يعود كيف وله ذمم عليه وله عهود.
أسعدهما الزمان باللقاء بعد أن أشقاهما بالفراق ستة أشهر – والدهر يشقي ويسعد- وقد لمحت تلك المرشدة حبيبها تلجلج لسانها وتخدرت أعصابها ولم تستطع أن تفوه ببنت شفة – وهذا حال العاشق والمعشوقة ساعة اللقاء – غير أنها قالت له:
قدمت يا نافذ وما أتمت كلامها حتى انحدرت دموع المسرة على ألواح الخدود فكان من زيادة السرور بكاء.
سمع هذا الكلام نافذ فخمد ما كان قد به الغرام في فؤاده من نار الأشواق وغاضت من عيونه أبحر الأتواق بعد أن كان متهالكاً لرؤية جمالها والفوز بوصالها فأجابها بصوت فاتر ينبي عن حب فاصر :
– نعم هو ذا أنا القادم
شعرت تلك المرشدة بجمال ، فلم تر شيئاً يهيج أشواقه ويزيد أتواقه ويعبث بفؤاده إلا الدلال والهجر والتجنب .. نعم كان هذا الحال يصعب عليها ولكنها خالفت هواها وأخذت تعامله بهذا الحال ولو كان في ذلك الأهوال.
عاد على نافذ هواه وانحل الغرام قواه ونشبت بفؤاده النيران بعد خمودها وهاجت بلابل أشواقه بعد رقودها وأصبح يتمنى انتظام الشمل وعود أيام الوصل وكان الزمان رثى لحالة فقام بنصرته وساعده على ذلك وهيئ لهما اللقاء بعد أن قاسى ما قاساه من تلك الأيام المظلمة التي تفرقا بها ولا تفرق بنات النعش.
وعندما نالا الاجتماع في محل لم يك فيه غيرهما ما لبث نافذ حتى عراه التأمل والافتكار وإذ ذاك خاطبها قائلاً :
– أبدأ بالمحاكمة معك يا أيتها المرشدة فأنت التي لم أجد لي نصيباً من محبتك وأنا محبك الذي لازال مقيماً على العهود مدى الأزمان.
افتر ثغرها وابتسمت ولا ابتسام الصباح عن نوره الوضاح وأجابته قائلة :
– ألست الذي نقض العهود وخان المواثيق.
اشتدت لوعة نافذ عند سماعه هذا الكلام وشعر أنه أمام حبيبته فتانة خالبة للعقول وسالبة للأرواح فلاحت عليه إمارات الخجل وأجابها رغماً لنفسه بصوت ينبعث منه الاعتذار قائلاً :
– هل للصلح ميدان – ؟
أما المرشدة فقد كانت تتمنى حدوث هذا الكلام وسماعه منه فقدمت إليه خدها الذهبي الوضاح الذي أشرقت عليه أنوار المسرة بعد أن كان كالورد الذابل لما قاسته من ألم الفراق فقبلها نافذ وتعانقا……………………………………………
ففعل ما فعل نافذ بتلك المرشدة وهي لم تزل تحنو عليه وتصبو إليه ثابتة على محبة لا تروم إلا إياه ولا تألف سواه وهو أيضاً لم يزل على محبته الأولى لكنه يسكب دموع الأسف لا يلذ له رقاد ولا يقر له قرار لما جنته عليه نفسه وفرط به يداه إذ قد محا سعادة تلك الغادة الحسناء.
جرى أحد الأيام في معرض الكلام أسم صديق لنافذ فصدرت من لسانه عبارة بغير اختيار وهي – إن هذا الذي أحبه لقد دعى من الله تعالى علي بالحضور وعلينا بالغياب أن يفرق شملنا وينغص عيشنا ويكدر أنسنا فأجابته
– ما تقول ؟ أهو صديق ؟
– نعم هو الذي أبحث لك عن مزاياه دائماً
– يظهر منه أنه ليس بمحب لك ولا لي
أثار هذا الكلام في فؤادنا .. ما اثار فاعترته دهشة فقال:
– لا . إن صديقي يحبني
– فإذا إنه لا يحبني لي
– ألك ؟
قال هذا الكلام وابتسم ابتسامة التأسف ، ثم قال لها :
– أراك كأنك ترومي لك حبيباً تخطفيه من الهواء فشكراً لك فتلون وجهها وأجابته :
– لقد كسرت بهذا الكلام ما جبرت يا نافذ .. ولكنك لست بمحق لأني لا أعرف هذا الرجل إنما عرفتني به أنت على الغياب ألست أنت الذي كنت تكلفني بمحبته ؟
سمع هذا الكلام منها فبدت على محياه إمارات الخجل واغتار فؤاده عليها فلا بأس فان المحب يغار على حبيبه ويخشى من كل شيء حتى من الهواء.
يغار أن هب النسيم لأنه
مغرا بهز قوامها المياس
– النتيجة –
تقلبت أحوال الدهر والدهر بأهله قلب. أصبح نافذ في أحد الأيام مشغولاً بختام ولده
–علوى- وبينما كان نافذ مقلق الأفكار متضجراً من أمور داخلية خارجاً من داره إذ تلقته إمرأة صبغ الشيب شعرها ولاحت عليها علامات الكبر غير أن ذاك الجمال الطبيعي قد أبقى في وجهها من أثارة الرائقة اللطيفة ما بقى فخاطبته قائلة :
– باليمن والسرور يا نافذ ولكن التمس منك أن تعامني هل يلوح في فكرك كلامك لي (أنا لك وأنت لي) فكم يوماً مضى على هذا الكلام سمع نافذ كلامها ثم افتكر قليلاً فعلم أن هذه العجوز المتكلمة هي (مرشدة كسيرة الجناح)
انتهت
نشرت في جريدة النجاح عدد 72 و 73 بتاريخ 25 ربيع الآخر 1330 هـ
المصادف 13 ابريل / نيسان 1912م