الرئيسية / افكار / حيوية مجتمعاتنا بين انشداد الزمن وكسل التاريخ !

حيوية مجتمعاتنا بين انشداد الزمن وكسل التاريخ !

لم تترهّل الدولة العربية مؤخرا فحسب ، بل تراخت ـ ايضا ـ مجتمعاتنا كثيرا مقارنة بغيرها من المجتمعات ، ونحن نذكر جيدا عوامل كسيحة أضرّت بحياتنا وتفكيرنا وتصرفاتنا وكل سلوكياتنا ، وكم لعبت السياسات العقيمة دورها ناهيكم عن عوامل خارجية بعثرت كل مشروعاتنا وقتلت كل أحلامنا وأنهت كل إبداعاتنا .. قبل خمسين سنة من اليوم بدت مجتمعاتنا جمعاء كتلة من النشاط والحيوية والتفاعل والحركة والاندفاع.. لقد كانت قد خرجت للتو من عباءاتها القديمة السوداء وبدأت تنفض الغبار عن أرديتها وتزيل ما علق بها عبر القرون من أدران .. كم كانت مجتمعاتنا مفرطة في القوة وكم كنا نحن التلاميذ والطلبة مفعمين بالحلم الأكبر والأمنيات الجميلة ؟ كم كنا نجري لنعرف ما وراء هذا الخطاب ؟ كم كنّا ننشد كل صباح أناشيدنا الوطنية ونذبح حناجرنا ونحلم بتحرير فلسطين ؟ كم كنا نقضي أزمانا رائعة في قراءة روايات عالمية يتعب عليها مترجمون عرب لهم تميزهم وحذاقتهم ؟ كم كنا ننصت إلى الأغاني الجميلة التي يصدح بها فنانون مطربون حقيقيون لا حصر لهم ؟ كم كنا ننعش أرواحنا وعقولنا بما ينزل في المكتبات من أدب حديث وقصائد شعرية وقصص قصيرة في مجلات او ملاحق اسبوعية .. ؟ كم كنا نعشق مدارسنا ونحترم أساتذتنا ونتقّيد بمناهجنا ونصغي لأولياء أمورنا .. ؟ كم كنا نجادل احدنا الأخر في مسألة فلسفية او قضية سياسية او حالة تاريخية او شخصية كاريزمية او قطعة إبداعية .. ؟ كم كان عشقنا للسينما والمسرح عندما نجد التنافس قد بلغ أوجه في المنتجات الإبداعية ؟ كم كان هناك من زملاء لنا قد تحزّبوا ومالوا إلى هذا الطرف السياسي أو ذاك التيار الأيديولوجي أو هذا الاتجاه التقدمي ؟ كم كانت الحريات الشخصية والاجتماعية لها مساحاتها نتحرك من خلالها على هامش رائع حتى وان كان صغيرا مذ منحه إيانا المجتمع قبل الدولة على عكس ما يجري اليوم من ممنوعات وتحريمات ؟ كم كانت النوادي حافلة بالأنشطة الثقافية والاجتماعية وقد سادتها الروح النظيفة ؟ كم علمنا معلمونا الأساليب الحضارية وغرسوا فينا عشق التراث وقداسة المعتقد وحب الأوطان وروعة اللغة واحترام الآخر والرفق بالحيوان والعناية بالزهور .. ؟ كم كنا نؤمن بالمشروعات الحضارية ونحلم بمجتمعات منتجة متحضرة يذهب عنها الاستهلاك وتستقل إرادتها وتزرع أراضيها وتثمر أزمانها وتضمن حياة مواطنيها ؟ كم كان الأمن النفسي وراحة البال يسودان لدى فلاح يعمل وعامل يكدح وطالب يتأهّل .. كم كانت الثقة مزروعة في النفوس ؟ كم كانت القناعة كنز لا يفنى ؟ كم كانت المحبة والتعايش والسماحة واغاثة الملهوف وحفظ الود تقاليد واصول ؟ كم كنا نؤمن بما نقرأ من كتابات ليس عن سذاجة بل عن موقف ؟ كم كنا نزاول السمو ونحن نتحدث عن بطولات أجدادنا ومفاخر آبائنا ؟ كم .. وكم ؟؟ ولكن ؟ ما الذي غّير كل ذاك الحال بضدّه من الأحوال ؟ كأن ضربة صاعقة أصابت مجتمعاتنا دفعة واحدة ؟ كأن تحّولا أحالنا إلى نكوص إزاء الآخرين ؟ كأن الناس تغّيرت بغير الناس ولله في خلقه شؤون ؟ كأن عقارب الساعة رجعت القهقرى إلى الوراء .. فلم نعد ترى اليوم قصيدة شعر عمودية كلاسيكية تهز الوجدان والمشاعر !! ولا أي رواية حقيقية تشغل بال النقاد واهتمامهم ! ولا أي إصدارات فلسفية او نقدية أو فكرية يتجاذبها المهتمون من المثقفين الحقيقيين ! ولم نعد ننتظر الأيام من اجل حفل غنائي لقصيدة تطرب الأفئدة عبر الراديو ! أو مسرحيات غنائية أو درامية على مسارح تاريخية تهتز لها الأعماق ! لم تعد اليوم عواصمنا القديمة بشوارع نظيفة ساحرة الجمال ! لا وجود لحركات عمالية ولا أي نقابات تنشغل بقضايا العمال وحقوق الناس ! وسلكت الأحزاب السياسية بقضها وقضيضها هي الأخرى مسالك تافهة ! ومن سخرية القدر أن تستورد بلداننا الزراعية القديمة أغذيتها من كل اطراف العالم ! ومن نكد مجتمعاتنا استهانتها بالحداثة والإصلاح ! وأصبح كل من ينادي بهما تشمئز منه النفوس ويتهم بأسوأ التهم الباطلة !
لقد أصيب العقل في مجتمعاتنا بمقتل منذ قرابة ثلاثين سنة وان مجمل التغيرات والتحولات المفجعة التي حّلت كانت تزّيف الواقع إعلاميا ويترّبى جيل لا يدرك قيمته الإنسانية ولا يحترم الزمن ولا يقّدس العمل ولا يتعّلم المنافسة ولا فن التعامل مع الحياة .. وغدا جشعا مواربا متواكلا متكاسلا مستسلما ليس باستطاعته مواجهة التحديات المتنوعة ، بل وان الظروف الصعبة المعيشية والسكنية جعلت من الجيل الجديد لكلا الجنسين يعيش متناقضات لا حصر لها وخصوصا نقيض الاختفاء وراء الحجب الداكنة ، أي إخفاء المأساة وقلب التراجيديا إلى ملهاة لأسباب غاية في التخّلف والبدائية والوضاعة ! وبعدما كنا ننشد تحرير المرأة من كل اطواقها وجعلها انسان حقيقي له حقوقه وواجباته .. غدت المرأة تضطهد اجتماعيا وسايكلوجيا وعائليا وتسلب عنها ارادتها ويداس على حقوقها وحتى على ارثها .. بل وبقيت تعامل كالسلعة في اسواق النخاسة واهتزت علاقتها بالرجل بعد ان عاشت تواريخ مشتركة في مواجهة الحياة .
اليوم ، تسود ثقافة اجتماعية ديماغوجية مضللة صاغرة مستسلمة هزيلة .. لا تعرف المقاييس النسبية ولا أخلاقيات الحياة .. وهنا لابد ان نصرخ : ما العمل ؟
اقول: ينبغي على الإنسان أن يتمتع بوعي جديد للحياة وينجح في تغيير تفكيره ونهجه وقناعاته وسلوكياته مستفيدا من تجارب الآخرين ، وان تتوفر له مناخات الحرية والعمل والاستقلالية والانطلاق ! انه بحاجة الى أساليب تربوية جديدة .. وان يتعلم من دينه أسمى الفضائل .. وان يفهم تاريخه ليحترمه لا ليقدسه وان يقرأ تواريخ الاخرين ليتعلم منها لا ليطعن بها .. وينجح في اقتناص الفرص السانحة من الزمن والبيئة والموارد الطبيعية ..وخصوصا في كيفية التعامل مع بيئة متنوعة وخصبة وغنية بالموارد والجماليات والمعتقدات والأديان والمواريث والتواريخ والقوميات والحكايات والفولكلوريات واللغات .. وثمة أولويات غير مألوفة صعبة للغاية ، وينبغي ايجادها والسعي من اجلها ويتحرك في اطارها ، واعتقد ان سيثبت فيها من كانت أرضيته صلبة ، وثقافته مبدعة ، وأصالته عريقة :
1. الالتقاء على قواسم مشتركة لمبادئ جديدة في الإصلاح والتحديث بكل مرافق الحياة .
2. توظيف وسائل تكنولوجية لخدمة الناس ، ويغدو الإعلام وتكنولوجيا المعلومات معلما ورائدا في التغيير الحقيقي .
3. تجسير الفجوات بين الدولة والمجتمع ، وتوفير السبل للارتقاء بالمجتمع والعناية بمبدعيه ونخبه وفئاته العاملة .
4. الانفتاح بديلا عن الانغلاق ، بتأسيس تنمية للتفكير وغرس الوعي وثقافة الالتزام بكل جوانب الحياة .
فهل ستحقق مجتمعاتنا ذلك ؟ إنني اشك في ذلك !


 www.sayyaraljamil.com


البيان الاماراتية  4 اكتوبر 2006

شاهد أيضاً

مطلوب لائحة اخلاق عربية

تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …