الرئيسية / النقد السياسي والتاريخي / نوري باشا السعيد : رئيس وزراء العراق

نوري باشا السعيد : رئيس وزراء العراق

دعونا نكتشفه من جديد !!
الوصية العراقية الأخيرة
” إذا عطس العراق أصيب العرب بزكام ” !!
نوري السعيد
عندما قتل نوري السعيد رئيس الوزراء الاسبق في العراق عام 1958 كنت صبيا لم اتجاوز الست سنوات من العمر ، ولكن علقت في ذهني صورة ذلك الرجل : واسع العينين عريض الجبهة والمنكبين كث الحاجبين سريع الحركة جهوري الصوت .. وعندما كبرت ، حدثوني عنه طويلا وعن ملاطفته لي ايام طفولتي في قصر الضيافة بالموصل اذ كانت تربطه بجدي معرفة وثيقة منذ ايام الحركة العربية في الحرب العالمية الاولى ، والمشهور عنه انه يصبح طفلا مع الاطفال يلاعبهم ويتحدث حديثهم ويتصرف مثلهم .. ويقال انه كان يداعبني بشتيمة ماكرة ، فأرد عليه باقسى منها فيريدون اسكاتي بتأنيبي فيردعهم ليسمع مني المزيد من الشتائم بلغة الاطفال وسذاجتهم !!
من هو ؟
انه الزعيم العراقي الشهير نوري باشا السعيد الذي اقترن اسمه بالعهد الملكي باعتباره من ابرز مؤسسي العراق المعاصر .. ولد ببغداد في 1986 ودرس في مدارسها وتخرج في مدرستها الحربية وفي مدرسة الاركان باستانبول ، ثم عمل ضابطا عثمانيا ثم تمرد ونفي .. ومن هناك التحق بالثورة العربية في الحجاز عام 1916 ونّصب قائد اركان الحرب رفقة فيصل بن الحسين .. ثم عمل معه في الحكومة الفيصلية بدمشق ، والتحق بفيصل الذي نّصب ملكا على عرش العراق .. وعمل الى جانب نسيبه وصهره جعفر العسكري في تأسيس الجيش العراقي ، ثم شارك في الحكومة العراقية وزيرا ورئيسا للوزراء لعدة مرات .. ويعتبر مهندس السياسة العراقية على امتداد العهد الملكي مستلهما اياها من مدرسة فيصل الاول ، وكان نوري السعيد وراء عقد العديد من المواثيق والمعاهدات والاحلاف .. كما ويعد مؤسسا حقيقيا لعدة مشروعات عربية وقومية واقليمية في منطقة الشرق الاوسط . كان حليفا قويا للانكليز في المنطقة .. وكان رئيسا لوزراء الاتحاد الهاشمي عندما كانت نهايته البشعة على ايدي الشعب العراقي في يوم 15 تموز / يوليو 1958.

الباشا : ظاهرة عربية غير عادية
ها قد مرت اكثر من اربعة عقود من الزمن الصعب على مصرع اشهر زعيم عراقي عرفه تاريخ العرب الحديث .. ولم ينقطع ذكره ابدا عن لسان العراقيين عموما برغم كراهية اغلبيتهم له ولكن ثمة اشياء في الرجل تجذبهم اليه لأسباب لا يعرفونها ! ولقد قدر اغلب المؤرخين والساسة الموضوعيين بأن نوري السعيد ظاهرة عربية ان لم تكن دولية ، وانه الرجل الوحيد الذي يقترن اسمه ببناء العراق المعاصر ، اذ شهد على امتداد خمسين سنة من حياته ولادة العراق دولة ومؤسسات .. مجتمعا واحزاب وزعامات . وبقدر ما ورث نوري من تقاليد عتيقة للعثمانيين ، فقد كان ينزع للتحديث والاصلاحيين .. كان يؤمن بالقومية العربية ولكن من خلال تطبيقات واقعية وليست مثاليه ـ كما يقول المؤرخ مجيد خدوري ـ . انه واحد من رجالات الرعيل الاول الذين ساهموا في تأسيس النظام السياسي في المشرق العربي برمته كما تكشف الوثائق التاريخية .. وكان الرجل وراء عدة مشروعات استراتيجية منها ما نجح ومنها ما فشل ، كان من ابرزها : مشروع الاتحاد العربي الذي سمي في ما بعد بـ ” الجامعة العربية ” ، ومنها : كتابه الازرق الذي يعلن فيه عن مستقبل وحدة الهلال الخصيب لكل من العراق وبلاد الشام ! كان نوري السعيد يعلن عن مدى حاجة العرب للغرب في تحديث حياتهم المتنوعة ، وكان صديقا صدوقا للانكليز ، وهي النقطة الضعيفة في سياسته الداخلية والخارجية للعراق ، وخصوصا عندما تولى الوزارة مرات عديدة ، وساهم في تأسيس مواثيق ومعاهدات واحلاف .. كانت له ادواره الاساسية فيها . لقد كان العراقيون وما زالوا يكرهون اسمه ويمقتون ذكره ، ولكنني وجدت خصومه واندائه يترحمون عليه !! صحيح انهم يقولون بأن الباشا لم يكن متكلما بارعا متضلعا ولا زعيما كاريزميا ساطعا .. الا ان له فلسفته النوعية في الحكم وقدرته الفائقة في التعامل مع الاحداث والاخرين ودهائه السياسي الذي ابقاه سنوات طويلة مهيمنا على السياسة العراقية ، كما ونجح في عقد اكبر تحالفين دوليين اقليميين: ميثاق سعد آباد وميثاق بغداد .. الخ
كشف جديد من اجل الحقيقة
لما كنت اشتغل اليوم على تأليف كتابي ” تكوين العرب المعاصر 1917-1997″ ، فقد انكشفت امامي معلومات وثائقية مهمة جدا ، وخصوصا عن فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية ، ومدى علاقة كل من الانكليز والامريكان بالمنطقة العربية .. ومنها وثائق سرية للغاية تحتوي على معلومات تاريخية نادرة لا تقيم بأي ثمن ستكشف عن جملة من المتغيرات التي يمكنها ان تزيح ليس الغشاوة التي غطت عيون العرب لأكثر من خمسين سنة ، بل انها ستعمل على تأسيس وعي من نوع آخر بتواريخنا ورجالاتنا وزعمائنا ومنهم : نوري السعيد . هذا الرجل الذي يعتبر محور الشرق الاوسط برمته في عقدي الاربعينيات والخمسينيات ، أي وحتى مصرعه عام 1958. انه مؤسس النظام السياسي العربي الذي اراده منحازا الى الغرب باعتبار ان بايدي الغرب مفاتيح الشرق الاوسط والمنطقة العربية برمتها ، وسيكون هو نفسه ضحية لذلك الغرب .
لقد جنت عليه اخطاؤه !
ان المؤرخ مهما كان منحازا لابد ان يعمل على ان يكون حياديا .. وعليه ، فان تقييم نوري السعيد لابد ان يتم في ضوء الوثائق التاريخية التي تقول اغلبها بأن كل السياسات والقادة العرب والانكليز كانوا يستشيرونه.. وان هذا السعيد لا تفوته شاردة ولا واردة في اساليب ما يحدث من المعلنات والمخفيات .. كان عدوا لدودا للشيوعية العالمية وللشيوعيين العراقيين الذين لم يكرهوا زعيما مثله .. وانه لم يسمع الا نفسه في اغلب الاحيان ، لأنه كان يعتقد انه اب للجميع ، وان كل المؤسسات لابد ان تكون في رعايته . وعليه ، لم يعط نوري السعيد اية فرصة لابناء الجيل الجديد كي يستمع اليهم فقط .. كما ان اهتمامه بالمشروعات الاستراتيجية الكبرى قد جعلته يخسر كثيرا على مستوى ما كان يحتاجه المجتمع العراقي من المكتسبات الصغرى واليومية والمعيشية .. برغم ايمانه بأن البلد آمن ومستقر وان نتائج مشروعات الاعمار ستعم خيراتها بعد حين ! من اخطائه ايضا ، انه جعل نفسه في فم المدفع عندما تقدم غيره من الزعماء العرب الذين كانت لهم جميعا علاقاتهم مع الانكليز والغرب .. لكنه حمل وزرهم جميعا فدفع الثمن كبيرا جدا من اجلهم سواء اولئك الذين عاصروه في ايام حكمه ، او الذين جاءوا للحكم من بعده ! واخطأ نوري ايضا في عقد ميثاق بغداد الذي عرف في ما بعد بـ ” حلف بغداد ” وخصوصا في توقيته .. كونه غدا لعنة عربية عليه ـ على حد تعبير المؤرخ حنا بطاطو ـ .
نوري السعيد واسرائيل
اما من هذه الناحية ، فتدل الوثائق التاريخية الخاصة بتأسيس اسرائيل ان نوري بقي يناضل طوال حياته من اجل ان لا يقوم أي كيان صهيوني في المنطقة العربية ، ولكنه خذل جدا من قبل قيادات وزعامات عربية اخرى .. وهنا ادعو كل زملائي المؤرخين الذين يمكنهم ان يكونوا موضوعيين وحياديين بعيدا عن حب الرجل والتعاطف معه او مقته وكراهيته العمياء ان يعيدوا قراءة تاريخه على ضوء الوثائق المتاحة وجميع مواقفه . كان السعيد يؤمن بقولة كان يرددها امام الغربيين : ” اذا كان مترنيخ يقول : اذا عطست فرنسا اصيبت اوروبا بزكام ، فانا اقول على غرار ما قال : اذا عطس العراق اصيب العرب بزكام ” . واتمنى من اخواننا المثقفين العرب ايضا ان يرجعوا الى ما كتبه جاييم وايزمن وهو اول رئيس لدولة اسرائيل في كتابه : ” التجربة والخطأ ” المطبوع في لندن عام 1950 ، اذ قال فيه وهو يحدد موقفه من الزعماء العرب ، قال : ” لم يكن الاقناع سهلا ميسورا ، ولكنني كنت اجتهد ان اسايرهم على قدر الامكان واروي لهم ما تحملناه من اعتداء وتعسف من بعض البلاد المعادية ، وابين لهم وجهة نظرنا اثناء الاجتماعات والمؤتمرات المتعددة التي جمعتنا . كنت اثناء ذلك اشعر بشيء من التجاوب واللين عند بعض الشخصيات العربية .. وعدد ممن اتيحت لي فرصة لمقابلتهم ، ولكن الشخص الصلب والعنيد الوحيد الذي لم استطع اقناعه بأي حال من الاحوال بقبول فكرة تأسيس دولة اسرائيلية فهو المسمى نوري باشا السعيد ، ولكنني شخصيا اعتقد ان سبب عناده وتصلبه يرجع الى رغبته في ايجاد منفذ للعراق الى البحر المتوسط عن طريق تأسيس دولة سورية الكبرى تضم العراق وسورية والاردن وفلسطين ، ثم تحديد بعض المناطق فيها لاسكان اليهود مع تحديد هجرتهم .. ” ( انظر : ص 500 من الكتاب) .
ولقد قمت بمراجعات معمقة في وثائق تلك المرحلة ، فهالني ايضا موقف الباشا من اسرائيل وعدم قدرته في عمل شيىء ما سياسيا ، لأن العراق لم يكن في مواجهة حدودية وحقيقية مع اسرائيل . صحيح ان نوري كان مصرا على مشروعه الذي دعا فيه الى توحيد الهلال الخصيب ، الا انه لم يكن الا قوة فاعلة في تأسيس جامعة الدول العربية ، وقد اراده مشروعا اتحاديا كونفدراليا يجمع البلدان العربية قاطبة فيه .. ولما رآه وقد غدا منظمة عربية ، دعا الى تأسيس دولة الهلال الخصيب بين سوريا الطبيعية والعراق كاملا .. ودعونا نتأمل متسائلين : ماذا كان عليه وضع المشرق العربي اذا ما توحد الهلال الخصيب كتلة جغرافية موحدة لها استراتيجيتها الاقليمية والدولية تكملها وحدة اقليمية لشبه الجزيرة العربية ؟؟ واين ستكون اسرائيل وقت ذاك ؟ ولكن لا حياة لمن تنادي !
الوصية الاخيرة لنوري السعيد : حالة من بعد النظر والتنبؤات
اقف الان قليلا عند حالة من بعد النظر لدى هذا الزعيم الذي سواء اختلفنا ام اتفقنا معه ، فان التاريخ سيكشف لاحقا من خلال مقارنة الحالات والعلل والاستنتاجات عن قيمة أي زعيم عربي من زعماء القرن العشرين .. كنت اقرأ في مجلة ” لايف انترناشنال ” الصادرة في 26 يوليو / تموز 1958 ، أي بعد اقل من اسبوعين على مصرع نوري السعيد ، اذا جاء فيها ما يشبه الوصية الاخيرة له ، وهو آخر تصريح له قبل نهايته المأساوية التي لا يمكن تخيلها .. دعونا نتأمل في قوله : ” انني كعربي وبرغم صداقتي للعالم الحر ، اقول جهرا : ان طاقتي في التحمل بلغت نهايتها ، فلقد طفح الكيل كثيرا جراء سياسات الغرب معنا . ويشاركني في مشاعري كل المسؤولين العرب في العالم . لقد سبق ان نبهناكم ونصحناكم مرارا بضرورة انصافنا وحل قضيتنا قبل ان يستفحل الامر ، ولكنكم تجاهلتمونا ، فحّلت في المنطقة عدة مشاكل وخطوب .. والان انني ارى كوارث مقبلة في الافق البعيد ، فهي ان حلت عن طريق اليأس .. فلابد ان يتجدد سعيرها الملتهب على ايدي شيوعيين او ارهابيين في المستقبل القريب ، ويقيني ان اخمادها حين ذاك لن يكون هينا بأي حال من الاحوال ” . ان تحليلنا لهذا ” النص” سيكون مهما جدا ، لأن ما حدث بعد ذلك يعلمنا ان ما خشي من حدوثه نوري السعيد قد تحقق .. وان كل ما حصل كان بسبب الغرب نفسه الذي لم يسمع ابدا للزعماء العرب سواء كانوا من اصدقائه او من خصومه … وعلينا ان نتأمل في قول شهير آخر له عندما قال في خطابه التاريخي الذي اذاعه في شهر ديسمبر 1956 ، انه : ” يحق لرجل الدولة الامين ان يغامر بحياته ومركزه وبكل ما يملك اذا اراد ذلك .. ولكن لا يجوز له قط ان يجازف بمقدرات او كيان الامة التي يرعاها ” .
النهاية البشعة
كانت نهاية الرجل في غمرة احداث الثورة ايام 14-16 تموز/ يوليو 1958 ببغداد نهاية حزينة لا تليق به ابدا وبتاريخه مهما كانت سيئاته ، اذ لم يكن الوحيد الذي كان صديقا ( او : عميلا ) للغرب وللانكليز والامريكان .. لقد دفع الثمن باهضا اذ سحل جسده في شوارع بغداد الملتهبة وقطعت اوصاله وسحقت عجلات السيارات عظامه وهشمت اوصاله واحرقت اشلائه .. ليبدأ عهد جديد في تاريخ العراق والامة العربية المجيدة .. وهو تاريخ تتقاطع مرحلته بين قوتين مهيمنتين في العالم الذي انتقل الى ايدي الامريكان .

نشرت في ملحق الف ياء ، الزمان اللندنية ، العدد 1260، الاثنين 15 تموز/ يوليو 2002

شاهد أيضاً

على المشرحة.. لا مواربة سياسيّة في الحوار العلمي (الحلقتان الثالثة والرابعة)

ثالثا : الاحرار العرب : مستنيرون لا خونة ! 1/ اخطاء تاريخية وتحريف للتاريخ ويستكمل …