الرئيسية / النقد السياسي والتاريخي / الأمير الوصي عبد الإله في صورة عراقية قلمية !

الأمير الوصي عبد الإله في صورة عراقية قلمية !

مقدمة :
مهما اختلف الناس في الحكم على بعض الأوضاع ، ومهما تجنّت الأغلبية أم الأقلية على زعيم أو زعماء مرحلة ، ومهما غالى الساسة والمؤرخون في تقييم أي تاريخ ، ومهما كثر القيل والقال في الضد ، فان الحقائق هي التي تفرض نفسها في نهاية المطاف ، ذلك أن الإنسان قد يخطئ ويصيب .. لقد كانت الصفحة التاريخية للأمير عبد الإله الوصي على عرش العراق 1939-1952 ولما تزل ، متشحة بالسواد الداكن والكراهية عند الغالبية العظمى من الناس . ومن عادات أولئك الناس انهم إن سمعوا شيئا صدقوه وان تربوا على أمر أشاعوه ، وان ظنوا سوءا فيا ضياع الحقيقة وبئس الظنون . نعم ، بقيت صورة الامير عبد الإله بن الملك علي في المخيلة العراقية والعربية منذ الاربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين ، صورة مستلبة في غاية البشاعة ولا تفترق في حياتها عن مماتها .. وكانت النهاية التي انتظرت عبد الإله في شوارع بغداد مأساوية وتراجيدية مؤلمة بكل المقاييس والاعتبارات والمعاني عندما سقطت الملكية في العراق فجر يوم 14 تموز / يوليو 1958. وها قد مضت عقود من السنين عليها ، كي نسمع أصوات الذاكرة التاريخية من هنا أو هناك تنصف هذا الرجل الأمير الذي كان يمتلك حدسا واضحا في قراءة نهايته البشعة التي كان يتوقعها على ايدي العراقيين ، إذ كان قد صرح لاكثر من مرة : ” نحن نقتل .. لا أريد ذرية .. نحن نقتل .. ولكن الهاشميون سيبقون .. ” .
الصورة القلمية : ذكريات مختزلة
لقد سمعت بالصورة القلمية التي نشرها الأستاذ عطا عبد الوهاب مؤخرا عن الأمير عبد الإله ، فرغبت في قراءتها ، وكنت أتمنى على الرجل منذ عهد بعيد أن ينشر مذكراته لما ألفناه فيه وما كنت قد سمعت عنه من والدي ـ رحمه الله ـ باعتبارهما من رجال القانون في العراق إبان عهد مضى وانقضى .. وأنا لم التق به ولم أتعرف عليه . نعم ، سمعت عنه كل خير من الاستقامة والنزاهة وصدق القول وافق التفكير المتمدن الواسع ، وكان قريبا جدا من الأمير عبد الإله ابان الخمسينيات بحكم وظيفته في الديوان الملكي بالعراق .. قرأت كتيبه الصغير الذي عنونه بـ ” الأمير عبد الإله : صورة قلمية ” والذي نشرته المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت وعمّان 2001 ) فاعجبني فيه ما عرضه من حقائق عن رجل حكم العراق لسنوات طوال وقد اظهر باختصار ما له وما عليه ، ولعمري أنها مهمة شاقة في كتابة المذكرات السياسية ، علما بأن الرجالات العراقيين من كبار الساسة والمثقفين قد تميزوا بالحجم الوفير من كتابة تلك المذكرات التي تعكس من دون شك ثقل الأحداث التاريخية وقوة أولئك الرجال المحدثين الذين أنجبهم العراق في القرن العشرين بشكل كبير مقارنة بغيرهم من الرجالات .
لقد كتب العدد الكبير من الساسة والمثقفين العراقيين في مذكراتهم وكتبهم عن الأمير عبد الإله ، واختلفوا في شأنه وتقييمه اختلافا كبيرا ، وإذا كان رجال العهد الملكي القديم من اليمينيين والاصلاحيين والليبراليين قد كتبوا عنه من منطلقات عاطفية إلى حد كبير ، وإذا كان معارضوه من الجمهوريين الراديكاليين والاشتراكيين قد سوّدوا صفحاته ، إذ كانت ولم تزل صورته قاتمة في الأذهان .. فان البعض من المثقفين والمختصين العراقيين بدأ ينصفه ويعلن بكل شجاعة عن معلومات وأفكار وانطباعات كانت غائبة أو محتجبة عن الملأ .. لقد تذكرت وأنا اقرأ الصورة القلمية ما كتبه عن عبد الإله العديد من الساسة والكتاب بدءا بـ خليل كنه وعلي جودت وتوفيق السويدي وطه الهاشمي وفاضل الجمالي وكامل الجادرجي وغيرهم وصولا إلى فالح حنظل وعبد الهادي الخماسي وعطا عبد الوهاب .. لكن أول من جعلني أفكر بإعادة قراءة تاريخ عبد الإله هو شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري عندما وجدته ينصفه في مذكراته للتاريخ والحقيقة .
يتساءل المرء وخصوصا أبناء الجيل الجديد الذين يتعطشون اليوم لقراءة تاريخهم القريب : هل كان الامير عبد الإله يستحق فعلا تلك النهاية المأساوية في صباح الرابع عشر من تموز / يوليو 1958 عندما قتل شر قتلة وسحلت جثته في شوارع بغداد الملتهبة ومثّل بها وشنع بأوصالها وعلقت في اكثر من مكان بعد أن نالتها السكاكين وقطعتها إربا إربا ؟ وهل يستحق ذلك الإنسان أن تقطع أعضاؤه وترسل إبهامه لتعرض على الرئيس جمال عبد الناصر فيشمئز الرجل من منظرها ؟ إن الصورة العراقية القلمية ومن قبلها مذكرات واستشهادات أخرى تكشف عن هوية زعيم من نوع خاص ، وتكشف أيضا عن طبيعة إنسان لم يكن أبدا بالحجم الذي صور من البشاعة والخيانة والإسفاف ! ويجمع المنصفون انه كان حاكما دستوريا يحب بلاده وليس دكتاتورا انفراديا مازوشيا يقدّس ذاته !
الملك فيصل الثاني وخاله الأمير عبد الإله :
كان عبد الإله إنسانا كئيبا منذ نعومة أظفاره وكان يحب العزلة والانفراد والانطواء .. وبدا انه يحب ابن أخته الملك الطفل حبا جما وتولّى تربيته كأب حنون ليؤهله للملك بعد ان تيتم فيصل وهو ابن اربع سنين.. معنى ذلك : ان عبد الاله لم يكن طامعا البتة في العرش وكان زاهدا في حكم العراق اثناء وصايته التي استمرت قرابة 13 سنة ، إذ كان يفتخر بفيصل الثاني كابن له يسعى لتزويجه بعد أن ينتقل إلى قصره الجديد ، ويأتيه ولي للعهد بعد ثلاث سنوات على الاكثر وهي خطة رسمها عبد الإله كي يغادر بعدها السلطة ( ص 64) .. يقول الأستاذ عبد الوهاب بعد أن راقب تصرفاته من بعيد ، واحصى عليه حركاته وسكناته : ” كان الرجل قوي الملاحظة ، كثير السؤال ، محبا للنقاش ، فلم تكن ترضيه أجوبة المحيطين به من الكبار .. ” ( ص 27) ويتابع وصفه في مكان آخر قائلا : ” الأمير رجل عجمت عوده الأحداث ، ذكي ذكاء البداوة الخارق وقد صقلته مدنية الحياة العصرية ، محب للخدمة ، مرهف الحواس ، خبير بأوزان الناس ، مشجع للرأي المخالف النزيه وقد يأخذ به إذا اقتنع ، ويحس انه أدى الأمانة على احسن وجه وانه يشرف على نهاية الشوط .. وقد لمست فيه ان اشد ما يحز في قلبه ما يذكّره بالنكران لخدماته العامة وما يبلغه من إشاعات كاذبة تلوكها الألسن عنه .. ” ( ص 68) كان يذكر دوما أيام طفولته بالحجاز ويؤمن بالقدر خيره وشره ، وكان حساسا تترقرق الدموع في عينيه كلما ذكر أخته الملكة عالية التي توفيت هي الاخرى في شبابها وتركت ابنها فيصل امانة بيد اخيها .
أما ابن أخته الملك فيصل الثاني فيكتب عنه صاحب المذكرات قائلا : ” لم يكن الاختبار صعبا بالنسبة للملك ، فقد كشفته شابا متعلما ، ذكيا ، دمثا ، بسيطا ، سريع البديهة ، متفتح الذهن ، وممتلئا بآمال الخدمة العامة دون جعجعة ، مع هوايات متعددة كالرياضة بأنواعها والمطالعة في فروع معينة وغيرهما. انه باختصار فتى يدخل القلب رأسا ، وقد عجبت من نفسي كيف أن حقيقته البيّنة للعيان تخالف تماما ما تلوكه الإشاعات عنه فترميه بالغباء وانعدام الشخصية والعجز .. ” ( ص 27) . وفي مكان آخر نسمع وصفا إضافيا عن الملك : ” فتى مهذب ، مثقف ، واسع الاطلاع ، حاد الذكاء ، سريع النكتة ، عف اللسان ، ملم بشؤون البلاد ولا سيما في حقل الاعمار ، رقيق الحاشية ، مفتوح الذهن ، ويرحب بالمناقشة دون ان يشعر أحدا بكبر أو تجّبر أو سطوة أو تعال ، ويفرض احترامه على الجميع ببساطة وتواضع وبدون قصد او جهد . كان يبدو لي على امثل ما يمكن أن يكون عليه الملك الدستوري في العصر الحديث .. ” ( ص 68) . أما عائلته ، فكانت بسيطة في حياتها ، أم عبد الإله الملكة نفيسة مكللة بالسواد دائما وتسبح بذكر الله . وأخته الأميرة عابدية مكللة أيضا بالسواد دائما ولا تعرف من شؤون الدنيا إلا العناية براحة الملك وراحة الآخرين كربة بيت مثالية رفيعة الخلق وبسيطة ومتواضعة .. ( ص 67). وقد قتل الجميع شر قتلة عند أعتاب قصر الرحاب صبيحة الرابع عشر من تموز / يوليو 1958 ، وهم يستنجدون ولم تنفع صرخات الملكة العجوز نفيسة وهي ترفع القرآن الكريم على رأس الملك !
مواقف وانطباعات عن الأمير عبد الإله :
ستبقى الأجيال القادمة في المستقبل تبحث عن بدائل مخفية لقناعات ترسخت في الأذهان على امتداد القرن العشرين عن رجال وساسة ربما شوهت سمعتهم ونيل من سلوكهم وتفكيرهم لأسباب سياسية لا تمت للحقيقة التاريخية بطرف .. وأعرض في أدناه ثمان من الانطباعات والمعلومات التي اقسم صاحب المذكرات الاستاذ عطا عبد الوهاب وأشهد الله بأنها صحيحة ( ص 114) عن أناس ـ من الحاكمين ـ لم يجد فيهم إلا طيب الشمائل ( ص 110):
1/ يجيب عبد الإله بعد أن سمع من يصفه أمامه بأنه ” لئيم ” : لو كنت لئيما ما وافقت على إعادة جماعة الكيلاني المشتركين في حوادث 1941 إلى الوزارة أمثال علي محمود الشيخ علي ومحمد علي محمود ومحمد حسن سلمان وموسى الشابندر. ( ص 28-29) وينفي الأستاذ عطا في صورته القلمية أية علاقة للأمير بمصرع الملك غازي عام 1939 بناء على استبطانه جملة من الخفايا التاريخية في حياة الرجل ( ص 86-87).
2/ يقول عبد الإله بعد أن أصغى للسويدي الذي تكلم عن كتاب ينصف هارون الرشيد : ” الظاهر أن التاريخ ملئ بالتحريف ، ويا حبذا لو يصدر أيضا كتاب ينصف السلطان عبد الحميد ، فهو أيضا مظلوم .. ” ( ص 42 ) . وهنا يبدو لنا نحن معشر المؤرخين إن عبد الإله قد سبق غيره في الدعوة لإنصاف السلطان عبد الحميد الثاني !
3/ سئل عبد الإله : من من رؤساء الديوان الملكي السابقين كان الأفضل ؟ فقال بلا تردد : رستم حيدر في عهد الملك فيصل الأول ورشيد عالي الكيلاني في بداية وصايتي . ثم أضاف : وأنا أقول هذا عن رشيد وبيني وبينه خلاف تاريخي .. ” ( ص 58).
4/ كان عبد الإله يقول ” انه ربى جلالة الملك لمدة أربع عشرة سنة تربية حسنة إلى أن تولى العرش ، وانه يساعده في تحمل مسؤولياته إلى أن يتم له الإلمام بجميع الأمور وبشكل واسع ” ، وانه ينوي أن يتقاعد ويغادر العراق . ولم يكن متحمسا لأي من الاقتراحات المعروضة ( ومنها : سفير العراق في واشنطن ، رئيس منظمة للشباب يتولى إنشاءها ، مفتش للجيش كونه يحب الجيش ويعتز بأبرز رجاله ، وقد ساهم في بنائه وتطويره وتسليحه واعلاء شأنه .. ) ( ص 61).
5/ مغادرة عبد الإله حفل عشاء في قصر مضيفه في هونغ كونغ ومغادرته للقصر مع كامل أعضاء وفده ونومهم في فندق من الدرجة الثالثة في ثلاث غرف قميئة بسبب دعوة بعض اليهود إلى ذلك الحفل .. ” ووجدت الأمير يحتقن وجهه وتلتمع في عينيه الدموع ، كأنه رمز منحوت لحزن خرافي ينبض بالتمرد . وقبل أن أسأله قال : تصور ، أنا حفيد الحسين ، يأخذونني إلى هناك ولا يقولون لي إن اليهود من بين الحاضرين ” ( ص 78).
6/ يصوم عبد الإله شهر رمضان ، ويبدو انه يختار له ولاسرته مكانا غير بغداد كالحبانية شتاء وسرسنك صيفا .. يصوم عن إيمان بالله ، فيقوم الليل ، ويختم القرآن مرتين يهدي الختمة الأولى لوالده الملك علي والثانية لروح شقيقته الملكة عاليه .. ويستطرد صاحب المذكرات قائلا : ” وتذكرت ما كنا نعتقده في شبابنا عندما كنا نسمع أن الوصي غادر إلى سرسنك ليصوم رمضان ، فنرميه بكل ما حرم الله من إشاعات مغرضة كانت تروج في المقاهي رواجا عجيبا ” ( ص 82).
7/ كان عبد الإله يسوق سيارته المكشوفة في بغداد وبصحبته صاحب المذكرات من دون أي حرس ومروا بشارع الصالحية ، فمرت سيارة أجرة بجانبهم تحمل عددا من النسوة بعباءاتهن فعرفن الأمير فأخذن يزغردن في الأعالي والسيارة تتمهل .. فالتفت الأمير اليّ وقال : من اصّدق ؟ اصدقهن أم اصدّق راديو صوت العرب ؟! ” ( ص 90 ). وكانت اذاعة صوت العرب من القاهرة تشن حربا دعائية هائجة ضد عبد الاله ونظام الحكم الملكي في العراق وقت ذاك !
8/كان عبد الإله يصرح مرارا : ” إذا كانوا ( العراقيون ) لا يريدوننا هنا فنحن نذهب كما جئنا . نذهب بأنفسنا . لا نحمل شيئا كما جئنا . وقد منّ الله علينا هنا بالملك وسعة العيش . وخدمنا البلد حسب اجتهادنا وطاقتنا . إذا كانوا لا يريدوننا نذهب . وأنا أستطيع أن اعمل ولو كحمال لكي أعيش بكرامة ” . ويشير بيده إلى أعلى الجدار حيث خطت الآية الكريمة : ” قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء .. ” ( ص 96).
وأخيرا ، فهذه كلمة للتاريخ عن سيرة زعيم حكم العراق واسمه الأمير عبد الإله .. أضعها أمام الناس من اجل مقاربة حقائق التاريخ والكشف عن المزيد من معلوماته التي خفيت عن أعينهم زمنا طويلا ، واعتقد أن خطأ ارتكبه رجال ذلك العهد ذلك انهم لم يؤسسوا لهم أجهزة دعاية كافية تلهج بذكرهم ليل نهار !! كما وكان على عبد الإله أن يترك ابن اخته الملك يعتمد على أبناء الجيل الجديد في الممارسات السياسية .. اما علاقاته بالغرب ، فلم تكن اكبر من علاقات غيره من الحكام العرب في القرن العشرين كما توضح جليا اليوم لكل ذي عينين .. ولم يتوقف امر تحرير فلسطين عليه ، اذ لم يحررها غيره من الزعماء العرب الذين ناصبوه العداء!! وخلاصة القول ، ان مقالة او صورة قلمية واحدة ستنفع كثيرا لا محالة .. عسى تجد المعلومات التاريخية المنصفة في أجيال اليوم من يقرأها ليقارنها بما هو مسجل ومدون من آراء وأفكار ومعلومات مخالفة في ذاكرتهم فيكونوا من المنصفين وليحكم التاريخ بعد ذلك حكمه على الناس .

نشرت في ملحق ألف ياء ، الزمان اللندنية ، العدد 1179، في 8 ابريل / نيسان 2002




شاهد أيضاً

على المشرحة.. لا مواربة سياسيّة في الحوار العلمي (الحلقتان الثالثة والرابعة)

ثالثا : الاحرار العرب : مستنيرون لا خونة ! 1/ اخطاء تاريخية وتحريف للتاريخ ويستكمل …