لقد نجح الأخ الأستاذ احمد المهنا في فكرة واعداد وتقديم برنامجه التلفزيوني الموسوم ” بين زمنين ” وخصوصا في الحلقات الست الأخيرة واختصت بتاريخ سيمافور مصور وحواري ومختصر عن شخصية زعيم العراق ومؤسس جمهوريته عبد الكريم قاسم الذي حكم للفترة بين 1958-1963 ، ويبدو واضحا مدى الأتعاب التي عاناها الرجل في تنفيذ حلقاته سواء في إحضار الصور أو إعداد المقابلات أو النبش في أرشيف الأفلام والصور القديمة .. وقد بث برنامجه بحلقاته كاملا على قناة أبو ظبي الفضائية في الأسابيع الماضية . ولما كنت حريصا على مشاهدته كاملا ، فقد حرصت على إبداء بعض الآراء والمعاني والنتائج خدمة للمعرفة التاريخية التي يبتغيها ويتنادى لمعرفتها الجميع وخدمة لبرنامج متميز جدا يمكنه أن يستفيد منها في حلقات أخرى قادمة :
تراجيديا تاريخية صنعتها ملهاة سياسية :
لقد سألتني إحدى معارفي وهي مثقفة عراقية قديمة تعيش سلسلة مأساة ركامية منذ عام 1958 : ماذا كان شعورك وأنت تتابع الحلقات التلفزيونية الأخيرة في برنامج ” بين زمنين ” ؟ قلت لها : تاريخ كنت أتمنى أن لا تلوى حقائقه على أيدي البعض ممن لا يعرفون كيف يوظفونه للاستفادة منه في بناء تاريخ من نوع آخر ! ثم استطردت سائلا إياها : وماذا رأيك أنت سيدتي الفاضلة ؟ وبماذا خرجت به وأنت عراقية عشت كل تراجيديات الأحداث من قلب بغداد الحبيبة ؟أجابت : تربينا قديما على تقديس الدستور من اجل الوطن في حقوقنا وواجباتنا ، ولكن أولادنا – ويا للأسف – كانوا على وهم كبير وجهالة أكبر عندما تربوا على الأخطاء الأيديولوجية والانقسامات الحزبية وغسل العقول منذ نعومة تكويناتهم .. لقد اهتزت قناعتي الآن بالزعيم عبد الكريم قاسم الذي ما كنت أطيق سماع مجرد اسمه .. وتبين لي – كما كتبت في تفكيك هيكل – إن حاله حال من سبقه من حكام العراق : ضحايا شعب يمجد يوما حاكمه ويرفعه للسماوات وهو فوق منصبه ثم يصب عليه اللعنات حالما يسقط .. ولكن يعود ليعّذب ذاته عذابا مازوكيا ويؤنب ضميره على فقدانه !
سكتت ثم سألتني : يبدو انك لا توافقني أبدا !
أجبت : أوافقك في المبدأ ولكن ثمة علل واسباب أخرى !
سألتني : كيف ؟
قلت : عليك بقراءة تاريخ العراق منذ تاريخ فجر السلالات وحتى يومنا هذا .. انك ستجدين ذلك التضاد التاريخي المزمن والمعادلة القديمة بين درجات الحب والطيبة والخصوبة وكل الروعة من طرف وبين درجات القهر والأحقاد والعذابات وينبوع الدماء القانية من طرف آخر !
أردفت تستفهم : وما سببه ؟ وكيف يمكن للعراقيين أن ينتهوا منه ؟
أجبت : ليس هناك سببا واحدا يمكننا ذكره بل هناك ركاما من الأسباب المعقدة والخفية الداخلية والخارجية التي لا يمكنها أن تختفي هكذا بين عشية وضحاها !
الساسة لا يجلون الصدأ !
تابعت قائلا : لو تابعت ما قاله ضيوف ” بين زمنين ” وجلهم يعيش في خارج العراق اليوم وقد اقترب عددهم من عشرين شخصا وتأملت في منطلقاتهم لوجدت أن قاسما مشتركا واحدا يجمعهم في خارج الوطن هو عشق العراق مهما كانت فصائلهم وجغرافياتهم ومذاهبهم وأعراقهم .. ولكن تناقضا سياسيا حادا يفرقهم هو الذي يفصلهم بين الجغرافية والتاريخ وبين الأيديولوجية والمعرفة وبين المدينة والريف وبين المواطنة والعروبة وبين الماضي والحاضر ..
أردفت مسرعة تقول : ولكن ربما لو استضاف البرنامج شخصيات عراقية من نوع آخر لكان أجدى وانفع بدل البعض ممن لم تخنه الذاكرة فقط ، بل لأنه ما زال يعزف معزوفته التي تربي عليها ، أو انه أراد أن يتأسى باسطوانته المشروخة !
أجبت : لا تتجني على ضيوف البرنامج فهم أناس لهم أدوارهم وأفكارهم ..
قاطعتني قائلة : ولكن بعضهم لا يدرك بعض الحقائق ولا يعرف التواريخ واغلبهم ليس باستطاعته البتة التحدث بالعربية السليمة المبسطة فمن وزير عتيق ومن ضابط متقاعد ومن سياسي مناضل إلى منشق مهاجر إلى مستشار خبير إلى فنان خطير إلى قريب للزعيم إلى رجل دين معمم .. الخ
أجبتها : المشكلة ليست هنا فقط !
فسألتني بعصبية عراقية متشنجة : ولكن أين المشكلة ؟
قلت : المشكلة أن يختفي تاريخ غني جدا بالأحداث الساخنة والوقائع المريرة وان تختزل اكثر من أربع سنوات في اقل من خمس ساعات .. صحيح أن العراقيين بدءوا بجلي الصدأ عن تاريخ الزعيم عبد الكريم قاسم ، وبات الجيل الجديد يسأل عنه اليوم بعد أن بقي الصمت يغلف تاريخه قرابة أربعين سنة .. ولكن المشكلة تكمن في أبناء الجيل السابق الذين ما زالوا حتى يومنا هذا لا يعرفون القطيعة بين التاريخ والسياسة ، ولا بين الأكاذيب والمسوغات ، ولا بين العقل والمشاعر ، ولا بين القياس والتمايز .. الخ ليس عن عبد الكريم قاسم حسب ، بل عن أولئك الزعماء الذين سبقوه في حكم العراق ، وكلهم اليوم في ذمة التاريخ رحمهم الله .
الاعتراف بالخطأ فضيلة !
لعل أقسى ما يمكنني تحمّله قراءة تاريخ وطن مشّبع بدماء أبنائه وزعمائه .. فكيف بي وأنا أشاهد على الشاشة التلفزيونية أسوة بالآلاف المؤلفة من الناس الذين يمتلكون إحساسا ومشاعر لا يمكنهم أبدا أن يكبتوها وهم يرون تاريخ بلدهم ووطنهم ورجالهم مضمخا بالدماء القانية في صور بشعة تثير منتهى القرف وهي تعرض على شاشات الفضائيات؟ ! .. صحيح إننا معشر المثقفين كما يسمينا السياسيون لا نمتلك قدراتهم في السياسة وفذلكاتها .. ولكن أحابيل السياسة ومراوغاتها شيء واختصاص التاريخ ووظائفه العلمية شيء آخر .. ومن تجليات هذا الزمن أن يصبح التاريخ مؤرشفا وموثقا .. ولكن من بؤسه ونكده أن يبقى الساسة حتى يومنا هذا أسرى خنادقهم البائسة وهم يدافعون عن واقع اليم كانوا جزءا منه ومن صّناعه ، ولكن لا أجد عندهم القدرة والشجاعة والقوة على الاعتراف بأخطائهم أبدا ! وتوضيح أدوارهم في تنكيل التاريخ برمته قبل التنكيل بزعمائه ورجاله الصادقين من أحرار ومثقفين متنوعين . ليس هناك أقسى على النفس لمن يملك إحساسا ووازعا من ضمير أن يرى تاريخ بلده مشوها ليس في كتابته بل في صناعته ! وليس هناك أقسى على القلب عند كل من يملك ذرة إحساس أن يجد أبناء قومه يمعنون في المكابرة والنفخ في الذات والبكاء بعد التشفي بالمناظر الدموية المقرفة من دون أن يقفوا جميعا للاعتراف ولو لمرة واحدة بما ارتكبوه من خطايا بحق أنفسهم وبحق أجيالهم وبحق مستقبل بلدهم ؟
“ما كل ما يعلم يقال ” : مقولة عفا عليها الزمن !
لقد تفوقت الآليات المعاصرة اليوم أن تنقل جملة من المخفيات من بطون الكتب والارشيفات إلى شاشات الفضائيات .. فضاعت على من كان يغطي الشمس بغربال تلك المقولة الشهيرة التي كنت ولما أزل اسمعها من بعض الناس حكاما ومحكومين : ” ما كل ما يعلم يقال ! ” . ويا للأسف الشديد ، لقد بدا العالم اليوم يرى العراق والعراقيين كونهم همجا غوغاء في أدغال بلد يعيش في العصور الوسطى .. ولا يعرف عنهم في القرن العشرين إلا سحل زعمائهم وإهانتهم وتشويه أجسادهم و تاريخهم والقاء جثثهم في الأنهر وتعليق رجالهم ونسائهم على الأعمدة .. وإصرار باق حتى اليوم على مقولة تعيسة تروج للذبح وسفك الدماء : ” اعدم .. اعدم .. لا تكول ما عندي وقت .. اعدمهم الليلة ” والمصيبة أن هناك حتى اليوم من يبرر هذا كله باسم الظروف وان الأحداث السياسية وليدة ظروفها ولكن لا يعترف أبدا بأن هناك من كان ولم يزل يشجب تلك العدوانية السافرة والأخلاق السيئة ! وان هناك من وقف ضد مشروع القتل والسحل منذ ليلة 14 تموز / يوليو 1958 . واعتقد أنه لا يمكن لأي عراقي متنور وحقيقي وأصيل ونظيف لم يتلوث بأدران السياسات المؤدلجة إلا أن يشجب عبارتين ممجوجتين جرّت وراءهما كل التعاسة التاريخية الأليمة واستخدمهما تياران سياسيان متصارعان في الحكم الجمهوري ، أولاهما تقول : ” ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة ” التي ذهب ضحيتها المئات ! وثانيتهما تقول : ” وطن تشيده الجماجم والدم .. تتهدم الدنيا ولا يتهدم ” التي ذهب ضحيتها هي الأخرى المئات والآلاف !
كلا والف كلا ، إن تاريخا سياسيا مؤرشفا ومصورا ، لا يمكننا اليوم إلا أن ندينه لأنه كان وسيبقى يشّوه سمعتنا نحن كعراقيين ويسيء إلى مستقبلنا كمجموعة بشرية ذكية وقديمة ومتميزة تقطن في وادي الرافدين منذ عصور فجر السلالات ! مطلوب منا أن لا نبرر أبدا تلك الصفحات الهمجية السيئة التي صنعها أولئك المهووسون والرعاع والانتهازيون والحاقدون والموتورون والأشقياء والعسكريون البلداء ضد بعضهم البعض الآخر ! فليس من المعقول أبدا أن تتاح الفرصة أمام أي عراقي كائنا من كان إلا أن يوظّف تاريخه الوطني توظيفا عقلانيا مجردا من كل الأغراض والنزعات والأهواء وان يدين كل الخطايا حتى وان كان عاشقا لاصحابها ومتحزبا لصانعيها ! وليس أمام المثقفين العراقيين الأقوياء إلا تبصير السياسيين العراقيين المتنوعين الذين ساهموا بشكل أو بآخر في إنتاج معضلات العراق في القرن العشرين وتعريفهم بأن البلادة السياسية هي حجر عثرة كأداء في طريق العقول العراقية المبدعة والطريق النظيف للوطنية الحقيقية !
من اجل صفحة تاريخية نظيفة نقية !
علموا أولادكم كيف يتكلمون في المحافل العامة وعلى شاشات التلفزيون وكيف يكتبون وكيف يفكرون !! خلصوهم من ركاكة اللسان وجلافة الألفاظ وبلادة التفكير ! علموا أجيالكم بأن مصائبنا ليست من حكامنا السابقين فقط ، بل من فصائل وجماعات وحواشي وأحزاب وقوى وعساكر وتكتلات .. تنازعت وتصادمت واقتتلت وكان الإنسان رخيصا عندها حينما سحل ودقت عظامه أو وقهر واضطهد وعذّب واغتيل أو اعدم واهين في كرامته والقيت جثث العشرات بل المئات من الأنفس في دجلة الخير وغيره من الأنهر الدافقة ! علموهم أن يتوقفوا عند تواريخ كل الزعماء العراقيين في القرن العشرين ليحكموا على كل واحد منهم حكم العقل والضمير والتاريخ لا حكم العواطف الساخنة والمشاعر الملتهبة ! علموهم كيف يكونون أمناء وحياديين وموضوعيين ومنهاجيين في قياس الأحداث ودراستها ! علموهم أن هناك من انساق وراء الهوس الثوري ووراء الصوت الاذاعي الآخر : صوتا ناعقا في الراديو كان يبث كل سمومه وهو يلعلع صباح مساء لكي يهجم بيت العراق على أهله حجرا على حجر في العهدين الملكي والجمهوري !
وعندما يسأل المرء في مشاركته ببرنامج أو ندوة أو حوار لابد أن يدرك بأن كلامه سيعرض على الملايين ، وعليه أن يكون منتبها وواعيا ومدركا لما يقول .. بعيدا عن التبجح والانوية وعن عبادة الذات والنرجسية وبعيدا عن الجهوية والطائفية والعشائرية المتخلفة .. وبعيدا عن الأكاذيب المصطنعة والانحيازات .. وبعيدا عن التشنج والعصبية من طرف أو عن اللامبالاة والدم البارد من طرف آخر ! بعيدا عن قتل القتيل والمشي في جنازته ثم البكاء والعويل عليه طويلا ! يكفي القتيل أن يستشهد بصالح أعماله ومنجزاته وصفاته وحجم أخطائه التي اضرت البلاد والاعتراف بما ناله ظلما على أيدي أبنائه ! بعيدا عن توزيع وجهات النظر وفرضها بالقوة تحت مسميات شتى.. ومقاربة لعرض المعلومات ! لا عيب أبدا أن يجيب الضيف : والله لا علم لي اسألوا غيري عن ذلك بدل التهويش واختلاق الأكاذيب وتوزيع الأحكام ! وحبذا لو كانت برامجنا التلفزيونية تختص بالمعلومات والبحث عن صحتها ولا تجعل من نفسها محطات لبث الآراء الخاصة وتوزيع الأحكام المتناقضة وفرضها على الناس بالقوة ، فمن يريد توزيع أحكامه وآرائه فلينشرها في أوراق ومقالات وكتب خاصة به ، ولا يستغل ضيافته ببرنامج تلفزيوني ليسوّق بضاعته فيه على الناس .
إن تاريخا متلفزا للعراق بين زمنين يحلل ويؤرشف ويصور الزعيم عبد الكريم قاسم سيكون بارعا جدا لو اختص به المؤرخون إلى جانب السياسيين .. وسيكون رائعا جدا لو قدم توظيفا مستقبليا ومعرفيا للأجيال الجديدة بدل العزف على المشاعر والأحاسيس ! كم كان حريا لو أفصحت الصور والمشاهد والآراء عن أدوار النخب المثقفة العراقية اللامعة في الخمسينيات والستينيات بدل هذا التاريخ السياسي والعسكري العقيم الذي قدم صورة مشوهة عن العراق والعراقيين ! ما أحرى بالسادة الكرام الذين تكلموا عن عبد الكريم قاسم ونوري السعيد لو كانوا مجردين من النوايا السياسية ليعطوا هذين الزعيمين حقهما التاريخي بعد أن طواهما القدر طيّا مأساويا وان كلا منهما لم يجد له اليوم قبرا يضم عظامه في العراق بطوله وعرضه !؟ إنني عندما أتكلم ناقدا في هذا الباب كمؤرخ عراقي متواضع ليس لي غير الحيادية والاستقلالية المجردة عن كل الاحتقانات السياسية المزمنة في العراق .. وأتمنى أن يغدو اسلوب كل من الحيادية والاستقلالية : منهج حياة وعمل وممارسة لكل العراقيين والعراقيات في دراسة تاريخهم والحكم على رجالهم في توضيح ما لهم وما عليهم بعيدا عن المزايدات السياسية واللعب بعواطف الناس وأعصابهم وتشويه قيم الجيل الجديد وتفكيره .. خصوصا ونحن نعرف بأن العراقيين من أقوى خلق الله عاطفة وتشببا وسخونة وشاعرية وانفعالات !!
وأخيرا ، لابد أن نشد على يدي كل من يبرز لنا تاريخا مؤرشفا ومصورا ، وشكرا لصاحب ” بين زمنين ” فلقد اجتهد في تقديم تاريخ مخفي عن الناس أولا ، وانه كشف بعد قرابة أربعين سنة عن بضاعة أناس كانوا وما زالوا يعيشون الأضداد نفسها في تقييم زعيم عراقي نظيف اسمه عبد الكريم قاسم ، حكم العراق بين زمنين متناقضين على أتم ما يكون التناقض وكان نفسه صانعه وضحيته في آن واحد .
نشرت في جريدة الزمان اللندنية / ملحق ألف ياء ، العدد 1137 ، الاثنين 11 فبراير / شباط 2002
شاهد أيضاً
على المشرحة.. لا مواربة سياسيّة في الحوار العلمي (الحلقتان الثالثة والرابعة)
ثالثا : الاحرار العرب : مستنيرون لا خونة ! 1/ اخطاء تاريخية وتحريف للتاريخ ويستكمل …