الرئيسية / حوارات / حوار مع المفكّر الدكتور سيار الجميل حول البنية الفكرية للمجتمع العراقي

حوار مع المفكّر الدكتور سيار الجميل حول البنية الفكرية للمجتمع العراقي

*الدكتور سيّار الجميل في حوار صريح مع رئيس تحرير جريدة أكّـــــــد الكندية
*اليسار العراقي لم يجدّد نفسه ..
*ما جرى التهريج له في العراق لا يمّت للفيدرالية بصلة

في حوار لرئيس تحرير ( أكد) مع الدكتور سّيار الجميل ( وكان حوارا في غاية الأهمية من ناحية الصراحة التي امتاز بها مفكرنا الكبير ) وقد كشف عن الكثير من حيثيات الواقع العراقي الراهن ، وإمكانية وضع التفاسير العلمية المناسبة لما يدور من حولنا ، وكان من أهم الامور التي دار حولها الحوار هي البنية الفكرية للمجتمع العراقي ، والى قراء أكد الأعزاء نص الحوار مع واحد من بين أهم المفكرين العرب المعاصرين .
أكرم سليم
وتابع أكرم سليم قائلا : تحياتي للذي نفخر به مثقفا ومفكرا عراقيا أصيلا ، عزيزي دكتور سيار .. أشكرك على استجابتك لطلب اجراء الحوار الفكري معكم ، ووضع الكثير من الامور التي تشغل بال الكثير من قراءنا على طاولة البحث والتمحيص ، وشكرا كذلك على مشاعرك النبيلة التي غمرتنا بها ، وأنا وهيئة التحرير ممتّنون لتعاونك سلفا ، طبعا الاسئلة كثيرة بالحقيقة ، ولكن مبدئيا سأطرح عليك بعضها مؤملا نفسي بأنها ستكون البداية مع ابن وطننا الدكتور سيار ، وأرجو ان لا تعتبر مديحي لك هو من باب المبالغة فانك صدقا عزيز على كل العراقيين بضمنهم من يخالفوك الرأي ( ربما أحيانا أنا اكون واحدا منهم !) ولكن تبقى أنت الاستاذ سيار وكفى ..

الحوار

1- هل تقر بأن ما يتعرض له الشعب العراقي الآن أحد أسبابه تكمن في ذلك الارتداد الثقافي المخيف في البنية الفكرية للمجتمع العراقي ؟ أم هناك سبب آخر ؟

– البنية الفكرية للمجتمع العراقي انهزمت منذ زمن طويل .. ولم يعد هناك أي فكر عراقي حقيقي منذ ثلاثين سنة مضت .. واصلا البنية الفكرية كانت تستقطبها النخبة ، وليس الفئات ، وليس الناس العاديين الذين عاشوا صراعا كتوما من اجل الحياة ، ولكنهم كانوا يفقدون ثقافتهم المدينية يوما بعد آخر على حساب اتساع التوحش والانتقال إلى التخلف بانحسار جملة من القيم المدنية التي كانت متوارثة منذ قرون ! إن الشعب العراقي يعاني اليوم من حصيلة ارتداد تاريخي كبير ، ربما كان الثقافي معلما من معالم التشظيات الاجتماعية والصراعات السياسية .. إن المجتمع العراقي منقسم على نفسه بعد أن عاش متعايشا في التاريخ . انه اليوم مفكك باسم ” المكونات ” التي أطلقها الأمريكيون ، أو يتعامل بانقسام بين اكثريات وأقليات على حساب الوطنية الموحدة .. ولولا التماسك الجغرافي للعراق نفسه لا لأهله ، لأصبح العراقيون شذر مذر ! إن جغرافيته هي التي تقف حامية للعراق منذ القدم ! إن ما حدث هو ثمرة نضوج مكبوت لتمزقات كانت موجودة ، ولكنها غير معلنة على الملأ .. كانت مخفية ، وقد أذكتها سياسات القمع السياسي ، او السلطوي أولا ، ثم ممارسات اجتماعية بليدة بين العراقيين أنفسهم ثانيا . ان الارتداد الثقافي هو محصلة أكيدة لأوضاع اجتماعية يعيشها المجتمع العراقي منذ نصف قرن .. أوضاع اجتماعية يحس فيها أبناء المجتمع بعدم العدالة .. بالتفرقة .. الإحساس بالتهميش .. القرف من الدولة ( هذه الحالة ملازمة للعراقيين منذ العهد التركي ) .. اضمحلال المواطنة .. الشعور بالمهانة .. الكبت الاجتماعي .. الكبت السياسي .. انعدام الحريات .. نمو الإجرام وتعاظم الخروقات .. الإحساس بالاضطهاد .. فوبيا الخوف والرعب .. الشعور بعدم جدوى المستقبل ، بعدم جدوى الحياة أصلا .. الاستخفاف بالقيم الحضارية ، والاخطر هو الاستخفاف بالعراق نفسه ووجوده .. الهروب إلى العشيرة .. والطائفة والعائلة والمدينة .. الخ


2- أي نوع من المثقفين قادر على إيقاف عجلة ذلك الارتداد الثقافي السائرة ربما بتعجيل ؟

لا يستطيع أي مثقف ، أو أية نخبة من المثقفين ، أو أي نوع من المثقفين إيقاف عجلة هذا الذي تسميه بـ ” الارتداد الثقافي ” ، والسائرة بتدهور كبير وبتعجيل لا يمكن أن يلاحق أبدا ! فالمسألة لا تخص المثقف نفسه ، ولا نوعه ، ليس لأنه لا يمتلك صنع القرار ، بل لأنه الاوهى في المجتمع الذي امتلأ بالطفيليين الجدد وأصحاب السوابق المسألة تخص المجتمع برمته ، إذا ما علمنا أن الثقافة هي انعكاس حقيقي لأوضاع المجتمع بين رقيه أو تخلفه .. سيرورته نحو الأمام ، أو تراجعه نحو الوراء .. المثقفون هم حصيلة نادرة من المبدعين العاملين المنتجين المعبرين عن واقع .. ولكن الواقع لا يمكن أن يعيد المثقف بناؤه إن لم يكن هناك مشروع دولة ، وإستراتيجية خطط ، ومناهج وأساليب وقرارات مسؤولين ومشرعين اذكياء وحقيقيين .. مشروع مدني وحضاري ينقذ المجتمع من تدهوره .. والمشروع الحقيقي لا يمكنه أن ينبثق الا ضمن سياسة تربوية وتعليمية وإعلامية وثقافية متمدنة منقطعة عن اجتراحات هذا الواقع وبشاعة سدنته القدماء والجدد .. الإنقاذ لا يتم الا من خلال مشروع يفصل الأهداف عن الواقع المرير .. التمدن لا يرتبط بأجندة مرجعيات وسياسات هذا الواقع .. تلك المرجعيات التي أوصلت حياتنا الى ما هي عليه اليوم ! المثقفون الحقيقيون من مهامهم دعم أية إستراتيجية مدنية لا دينية ، ووطنية لا انقسامية ، وانسجامية لا طائفية ، وانسانية لا شوفينية .. المثقفون ينبغي أن يلتزموا قضية مجتمعهم وشعبهم لا ان يكونوا أدوات بأيدي السلطات ، مهما كانت طبيعة تلك السلطات سياسية ام دينية .. عشائرية كانت أم جهوية ، انفصالية كانت ام اصولية .. الخ العراق بحاجة ماسة اليوم الى أن يضع نفسه على الطريق السوي .. أي ان يكون بلدا يحكمه مشروع مدني بدستور مدني بمناهج مدنية بتربية أجيال مدنية ، وليس هناك أي بديل للعراق بالذات مخالف لذلك .. وإلا فان ما ولد إلى حد الآن منذ خمس سنوات لا يبشر ابدا بخير ، وسيبقى العراق بلدا متخلفا ما لم ينطلق بثورة تغيير مدنية تلتزم القطيعة والتغيير عن كل ما يجري ، وبالتالي على كل الواقع ! واتمنى ان لا يخرج علينا من يتفلسف مخالفا ليقول انني اتحدث عن مثاليات لا يمكن تحقيقها ، اذ ان لدينا تجارب مجتمعات ونظم اخرى في العالم ، استطاعت ان تنتشل واقعها المضني من كل الانسحاقات ، لتغدو مجتمعات منتجة ومدنية يحترمها العالم كله .


3- هل هناك مثقف يساري وآخر يميني ؟ وأي منهج تعتمدهُ في تقسيمك للمثقفين إن كان هناك من منهج ؟
قبل عصر الايدولوجيا ، كان التصنيف بين علماء وأدباء .. رجال دنيا مسؤولو دولة ورجال دين ( ملالي وفقهاء ).. ومع تطور الإيديولوجيات ، تبلور التقسيم الثنائي عن يسار ويمين ، إذ ولد مصطلح المثقف متأثرا بالتقسيم السياسي ( يمين ويسار ) .. والمصطلحان عاشا في المجتمعات السياسية على امتداد العالم لأكثر من مائة سنة مضت ! ووصل الأمر إلى أن يصنف بعض المؤرخين اليساريين الناس قبل ألف سنة إلى يمين ويسار ، فقيل بان عبد الرحمن بن عوف يميني وابو ذر الغفاري يساري !! .. بعد انكفاء العالم الاشتراكي وانهيار المنظومة اليسارية في العالم .. لم يزل اليسار موجودا ، ولكن غدا من بقايا الماضي .. انه على امتداد 15 سنة من اليوم ، سيختفي من كان يسمى باليمين واليسار ، كما اختفي الصراع بين الشرق والغرب .. ولكن ولد صراع بين الشمال والجنوب .. اليوم انقسام المثقفين في العالم ليس إيديولوجيا ، بل عولميا .. وعلى هذا الأساس ، لا يمكن اعتبار كل المؤدلجين والعقائديين والمتدينين بمثقفين من وجهة النظر العولمية ( كذا ) ! وهذه رؤية أمريكية صرفة تقابلها رؤية فرنسية مضادة .. ، بل ونجد ان هناك حركات لليسار العالمي يعبر عن نفسه في تجمعات خاصة به ، من دون أي حراك جماهيري كما كان في السابق .. الصين تحّول اليسار بقدرة قادر وبسرعة مباغتة الى يمين بريادة الحزب الشيوعي الصيني ، وكأن لم تكن هناك ثورة ثقافية شيوعية تربى عليها جيل ما بعد الحرب الثانية ! ولم يزل القرن الواحد والعشرين في بداياته ، وان المجتمعات الحية ، تبحث لها عن صيغ جديدة ربما كان على أساس الانتماء الجغرافي وربما كان على أساس القيم الجديدة .
تسألني عن المنهج الذي اعتمده في تقسيم المثقفين ، فإنني اعتمدت ، ولم ازل اعتمد المنهج الكمي ان عالجت المسألة الثقافية على المستوى الدولي او العالمي ، فضلا عن صياغتي منهج رؤيوي في التكوين التاريخي اصنّف المثقفين حسب مراحلهم الزمنية او بيئاتهم الجغرافية .. اذ اعتمد المنهج البنيوي في تصنيف المثقفين حسب بيئاتهم .. فالشرق الأوسط هو غير غرب أوروبا .. والصين هي غير امريكا الشمالية او اللاتينية .. الخ وثمة منهج تفكيكي اتبعه في نقد المثقفين والظواهر الثقافية التي اتدارسها بدقة ..
في تصنيفي مثلا للمثقفين العراقيين إبان القرن العشرين كما فعلت في ” انتلجينسيا العراق ” ، وقفت على خمسة انواع من المثقفين : مثقفون ليبراليون ومثقفون يساريون ومثقفون قوميون ومثقفون دينيون ( مسلمون ومسيحيون وصبة ويزيديون ) ومثقفون محليون .. او ان يجري التصنيف على اعتبار جعل الثقافة مجال احتراف ، فهناك :
مثقفون مخضرمون / تقليديون ، ومثقفون سياسيون ، ومثقفون تكنوقراط ، ومثقفون مهنيون ، ومثقفون اكاديميون
وهناك تصنيف آخر للمثقفين ، فمثلا تجد
مثقفون سلطويون ، ومثقفون عضويون ، ومثقفون ملتزمون ، ومثقفون مغتربون ، ومثقفون احاديون .. وصولا الى مثقفين صامتين !


4- هل تَرى مستقبلاً لليسار العراقي على الساحة السياسية وسط الاتجاه الإسلامي السائد في العراق ؟

ربما لا أكون منصفا في إجابتي ،اذ ان الآخرين يقيمونني كاتبا ليبراليا ، ربما لم أكن قوميا ، ولكنني احترم العروبة ، فالعروبة حضارة عريقة ولغة وثقافة رائعة والقومية ايديولوجية حديثة .. ولكنني ، بالتأكيد لا يمكنني التخندق ، أو التحزب ، او الاصطفاف مع أي طرف من الأطراف .. انا مثقف مستقل عراقي حر ، كما ازعم ، ولا يمكنني ان أتقبل ابدا اية املاءات من أي طرف من الأطراف ، وبالرغم من احترامي لليسار العراقي وأدواره في إثراء الثقافة العراقية ، ولكن أجد أن لا مستقبل له ، فان كان اليسار منحازا سياسة وفكرا ، وقد أفل من كان ينحاز إليه ، فهل يمكن للثقافة اليسارية العراقية أن يكون لها مستقبل ، وقد رحل اغلب كبار مثقفو اليسار العراقي .. اليسار العراقي لم يجدد نفسه كما جرى عند يسارات أخرى في العالم ، خذ مثلا تجارب أوربية متعددة ، وتبقى هذه الأخيرة أيضا تعيش إخفاقات مريرة .. اليسار العراقي انقسم على نفسه مع الأسف لعدة مرات ومنذ خمسين سنة .. واجده اليوم وقد انقسم أيضا إزاء التواجد الأمريكي أولا ، أو التعامل مع اليمين الديني ثانيا ، بل والطائفي والشوفيني ثالثا !! وإذا كان الاتجاه الديني هو السائد اليوم في العراق ، فليس معنى ذلك أن يبني له مستقبلا في العراق ، وقد وجدنا تجربته المريرة في السنوات الخمس الأخيرة ! إن مستقبل العراقيين كما اعتقد هو مع أي مشروع مدني ليبرالي حر منفتح على الجميع حتى وان أخفقت فرص الديمقراطية بالعراق ، فان التجربة سيتعلم منه الناس .. ان تكوين جيل جديد على أية أسس دينية ، أو طائفية ، أو عرقية .. سوف يضمحل في خضم عولمة حرة لا يستطيع الإنسان البقاء ساعة واحدة من دونها .. ولكن مع استمرار تداعياتها لثلاثين سنة قادمة !

5- بين طيات تفكيكك لهيكل قلت أن الصحفي يجب ألا يكتب التأريخ ، وتابعت قولك بأن الصحافة في كثير من جوانب ممارستها تنأى عن الموضوعية ، رغم وجود صحفيين يشهد لهم ما يكتبون وما يمارسون بموضوعيتهم ؟

ـ هذا أمر طبيعي ، فالصحافي محترف صحافة والمؤرخ محترف علم تاريخ .. في كتابي ” تفكيك هيكل ” وجدت أن صحافيا مثل محمد حسنين هيكل يشوه التاريخ عندما يكتبه ، فهو مبدع في كتابة مقالة صحفية يومية يعبر فيها عن فكرة يومية ، ولكن كل كتبه التي تناول فيها تاريخ مراحل وأشخاص وعهود وقرارات وأحزاب وعلاقات دول .. كان قد كتبها بروح الصحافي وأداته وعواطفه وشراكته وتلاعبه ، وليس بمنهجية المؤرخ ودقته وأمانته وتجرده وموضوعيته ! لا مانع عندي في ان يكتب الصحافي التاريخ ، ولكن شريطة امتلاك الوسيلة والاداة .. المنهج والرؤية . ان الصحافة الحقيقية لا تنأى عن الموضوعية ، ولكن اين هي تلك ” الصحافة ” ؟ صحافتنا العربية ، ويا للاسف الشديد ، مليئة بالأكاذيب والمفبركات والمانشيتات والمهيجات والاثارات التي توهم القارئ أو تغيبّه أو تجعله يعيش أحلاما كاذبة ! لقد جنت الصحافة العربية في الخمسين سنة الأخيرة على العقل العربي وعلى أفكار جيلين كاملين سواء كانت سياساتها قومية ، أو يسارية ، أو دينية ! حزبية ام سلطوية ! صحيح ان هناك صحافيون عرب يشهد لهم يا عزيزي لما يكتبون وما يمارسونه من موضوعية ، ولكنهم قلة نادرة وسط مجاميع ترتبط بأجندات وصفقات وشبهات وعلاقات غير نظيفة .. إن العراق إبان العهد السابق كانت له إمبراطورية من الإعلام والصحف والمجلات المأجورة التي انفق عليها النظام السابق ملايين الدولارات وتنتشر في عواصم عربية وأوربية بدءا ببيروت وعمّان والكويت والقاهرة وصولا إلى لندن وباريس ، واستطيع أن اعدد لك العشرات من الأسماء الكبيرة والصغيرة التي اشتراها العراق عهد ذاك ! واليوم ، هناك صحف عربية ومواقع الكترونية وأسماء عديدة يمتلكها هذا النظام العربي او ذاك ! انه موضوع شائك وخطير دعني منه ، فهو موبوء بكل الأوساخ !

6- في أحد لقاءاتي معك قلت لي بأنك تخاف من سنة 2009 ! تُرى ما سبب مخاوفك تلك ؟

ـ تلك هي حساباتي الرؤيوية وهي حصيلة للنظرية الفلسفية التي نشرتها عن سلاسل الاجيال في تكوين التاريخ ، ان السنة 2009 هي نقطة فاصلة وعلامة فارقة في التاريخ البشري ، كما ارى .. ربما لا يؤمن الناس بما اقول ، ولكنني أسجل ذلك للتاريخ ولمن سيأتي في المستقبل . فكل ثلاثين سنة ( هي : وحدة زمنية صغري ) يتجدد التاريخ من خلال الوحدات الصغرى ومجموع كل عشر وحدات صغرى تؤلف وحدة كبرى ، فاذا كانت الوحدة الصغرى تقدر بثلاثين سنة ، فهي عمر جيل واحد ، وعشر وحدات ( = 10 اجيال ) يؤلف عصر تاريخي (= 300 سنة ) ، وقد نشرت النظرية في التكوين التاريخي عام 1999 وترجمت الى اكثر من لغة .. لنأخذ هذا العصر الذي نعيشه والذي بدأ عام 1799 سنجد محطاته حتى الان ، وكما رسمتها في الرسم الموسوم بالتركيب البنيوي لعصر النهضة ، وما هو الا حركة كوجيتو عقل عربي له اشكالياته ، فتجد التأسيس بثلاثين سنة 1799 – 1829 ( عهد نهضة محمد علي باشا ) ، وتجد التنظيمات العثمانية لثلاثين سنة 1829- 1859 ، وتجد النهضة الدستورية لثلاثين سنة 1959- 1889 ، وبعدها الاستنارة الفكرية لثلاثين سنة 1889 – 1919 ، وبعدها الليبرالية الوطنية لثلاثين سنة 1919- 1949 ، وبعدها المد القومي واليساري لثلاثين سنة 1949- 1979 ، وبعدها المد الديني والانقسام لثلاثين سنة 1979 – 2009 ، وبعدها ستتبلور ظاهرة جديدة ( ربما اتلمسها وادرك ما ستكون عليه ، ولكن لا اريد الاعلان عن ذلك ) لثلاثين سنة 2009 – 2039 .. وهكذا ، فان القرن الواحد والعشرين سيتركب من ثلاثة اجيال وصولا الى العام 2099 الذي سيقفل عنده هذا العصر ! انني اتوّقع في العام 2009 ، مخاضا جديدا لظاهرة تاريخية ستتبلور عن انقسام جديد ، ولكن هل سيأخذ مجتمعاتنا الى الحداثة والتقدم ، ام سينتكس الى الوراء لثلاثين سنة قادمة . ان سنة 2009 اعتبرها خطيرة جدا ، وقد قلت ذلك عنها منذ الثمانينيات عندما تبلورت حالة المد الديني باسم تصدير الثورة في ايران او باسم الصحوة الدينية عند العرب .. وكنت دوما اذكر ان 2009 ستقفل هذه المرحلة وهذه الظاهرة ، ولكن ربما تبلورت ظاهرة اخرى لثلاثين سنة قادمة هي اتعس واقسى ! اذ ان مجتمعاتنا قد انتكست انتكاسات مريرة ، ولم يعد لها القدرة الان على الانطلاق لزمن طويل في ظل التحديات العالمية وفي ظل وجود سلطات غبية ، وفي ظل مشاكل صعبة تعيشها مجتمعاتنا اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا ، فلقد اسهمت القوى الدينية الاصولية بالذات في تأخر المجتمع وتكبيل إرادة الإنسان .. فضلا عن ان كوجيتو العقل لم يزل صامتا وكأنه في سبات طويل الامد . ان العام 2009 علامة فارقة في تاريخنا ووجودنا ، وان لم يستطع احد اليوم من استيعاب ذلك ، فان الاجيال القادمة في المستقبل ستقف طويلا متأملة في ما اقول !

7- الإنتخابات الأخيرة أعتقد الكثير من المتابعين بأن الإتجاه الطائفي ربما ( ثُلِم ) الى حدٍ ما ، تُرى هل سنشهد نفس الحالة في الإتجاه القومي الذي يروج له بعض الأحزاب القومية العاملة في العراق ؟

ـ صحيح ان الانتخابات المحلية الاخيرة كانت نتائجها مشجّعة بانحسار القوى الطائفية الى حد ما وقد تفاءلت خيرا ، ولكنني لا أعّول عليها كثيرا بقدر ما اعّول على الانتخابات العامة في نهاية العام 2009 . وبالرغم من ذلك ، فثمة هواجس تلازمني بأن هناك اربعة مركزيات يمكنها تغيير كل الظاهرة او قل المعادلة الانتخابية بكل بساطة ، ويمكننا تحديد هذه المركزيات بـ 1) مرجعية الامام السيستاني التي لها من قوة التأثير على الشارع وعلى الناس وعلى نصف المجتمع . 2) قوة ايران وثقلها على الساحة العراقية وفرض ما تريده بمختلف الوسائل والادوات .. بالمال والمليشيات والسلاح 3) قوة السفارة الامريكية وتأثيرها على فرض ارادتها باساليب مباشرة او غير مباشرة ، وهي قوة لا يستهان بها ، كون الولايات المتحدة تحسب حساباتها لما تراه هي للعراق ، لا كما يريد ذلك ابناء العراق . 4) هيمنة الحزبين الكرديين على مقاليد الامور في اقليم كردستان ، وتأثير تلك الهيمنة على مناطق عراقية محاذية مثل ديالى وكركوك والموصل . هذه هي الاطراف الاربعة التي لها تأثير واضح على مجرى الحياة السياسية العراقية . متى ما نجحت هذه الاطراف بتحديد علاقتها بالانتخابات ومن دون اية اجندات ، فان الامور ستسير نحو الافضل . ان الطائفية والشوفينية يمكن تأجيجها في المجتمع العراقي بسهولة ، انني متفائل ، ولكن سازداد تفاؤلا ان نجح العراقيون في اصلاح بنود دستورهم ، ويجعلونه دستورا مدنيا متطورا خال من الطائفية والانقسامية باسم المكونات الكبرى والاقليات الصغرى .. عندما انتقدت الدستور والفيدرالية عام 2005 ، قامت الدنيا ضدي ولم تقعد ، وكأنني نلت من المقدس العراقي ، واليوم انظر المطالبة الوطنية بمشروع عراقي موحد للعراق ونداءات رسمية لاصلاح الدستور ، والتوقف عن التهريج بالفيدرالية او غيرها ! انني لست ضد مبدأ الفيدرالية والعمل بها ، ولكن ما جرى التهريج له في العراق لا يمّت للفيدرالية بصلة .. انظر الى فيدرالية كندا كمبادئ ونظام مطبق بشكل يضمن حقوق الجميع ، ومن دون خرق ما ترسمه الحكومة الفيدرالية هنا في العاصمة اتوا .. فضلا عن ان الفيدراليات هنا ، هي حكومات خدمية وليست حكومات سياسية . وان كل الكنديين يفخرون كونهم مواطنين كنديين .. فهل هذا الذي يريده البعض ممن يسّمون بالعراقيين !؟


8- في رأيك هل سيبقى العراق موحداً ؟ أم سيجد من يفكر بالإنفصال طريقه ويتقسم العراق الى دويلات هزيلة كما يريد البعض ؟

ـ هناك رغبات وتوجهات بعضها خارجية وبعضها عربية واخرى عراقية بالانقسام . هناك تصريحات رسمية كردية بالانفصال .. هناك دعوات لانفصال البصرة .. هناك خطط لتقسيم العراق منذ العام 2003 .. ولكنها جميعا باءت بالفشل حتى اليوم . في العام 2003 ، حاججني احدهم على منبر اعلامي كبير ، وكان يتبوأ منصبا كبيرا في الامم المتحدة ان العراق سينقسم على ايدي الامريكان ، فجادلته ، وقلت له ان العراق ليس بيوغسلافيا ، وان العراق له جغرافية طبيعية معقدة هي التي ابقته موحدا منذ الاف السنين .. الانقسام او الانفصال مهمة جنونية ونزعة فارغة فشلت فشلا ذريعا .. وكنت اتمنى على من يرغب بالانقسام ان يجرب حظه حتى يرى اين سيكون .. العراق حاضنة تاريخية وحضارية لهذا الشعب بكل تنوعاته . ان الامريكيين لو ارادوا جعل العراق كيانات هزيلة لفعلوا ذلك ، ولكن مصالحهم من العراق موحدا ـ كما ارى ـ اكثر من مصالحهم مع عراق مهلهل ! ربما يجد العراق نفسه وقد انقسم ، كما حدث في بعض تواريخه ـ ، ولكنه سرعان ما يلتئم من جديد .. ان العراق خلال عقدين ماضيين من الزمن قد ضعف كثيرا بشكل لا يصدق ، وفقد مركزيته وقدراته .. وتبلور اقليم كردستان باسم اقليم آمن منذ العام 1992 ، وشهد العراق حالات دموية مقرفة لم يشهدها على امتداد كل تاريخه ، ولكنه لم ينقسم ! ان العراق لا يمكنه ان يعيش الا بشريانيين ازليين هما دجلة والفرات ، وبقلب مفعم بالحيوية والقوة ممثلا بمركزية بغداد ، وايضا برأس حيوي تمثله الموصل التي تجمع الشرق والغرب ـ كما يقول لونكريك ـ ، وايضا عمق استراتيجه الحيوي ممثلا بالبصرة التي جمعت النهر والبر والبحر معا .. ان وطنية أي عراقي ـ كما ارى ـ تتحدد من ايمانه الراسخ بوجود العراق ووحدته .. وكل من يعيش خارج هذا الاطار ، فهو بعيد جدا عن روح وطن .. ان العراق لا يمكن ان يعيش كل ابناؤه من دونه .. ولكنه وطن عريق له القدرة ان يعيش من دونهم !

9- أي نوع من الحكام في رأيك قادر على الحفاظ على العراق موحداً أرضاً وشعباً في هذه المرحلة ؟

انني أؤمن ايمانا راسخا بحكام مسؤولين واداريين اذكياء لا بزعماء فارغين او قادة دكتاتوريين رعناء .. انني مؤمن بقادة مهما كان تاريخهم منحازا ، ولكن ينبغي ان وصلوا السلطة ان يرفضوا انحيازاتهم مهما اعتبروها مثالية .. فلا يمكنهم ان يحكموا العراق الا ان يكونوا فوق الميول والاتجاهات ، فمن يحكم العراق عليه ان يتجرد من انحيازاته وعواطفه ويبقى عراقيا .. انني مؤمن بقادة يقدمون العراق على كل مرجعياتهم وطنا وتاريخا وحضارة .. انني مؤمن بقادة يترجمون اقوالهم افعالا ، والفاظهم معانيا ويكونوا عند كلمتهم ان وعدوا اوفوا بالعهود .. انني مؤمن بقادة لا يفرقون بين اكثريات واقليات ولا بين اديان ومذاهب .. انني مؤمن بقادة عراقيين يحترمون كل الطقوس العراقية والقيم العراقية دون أي تفريق ديني او مذهبي او جهوي او طبقي او عشائري .. ولا يميزون بين العراقيين على هذا الاساس .. انني مؤمن بقادة متواضعين واقوياء معا لهم قدرتهم على اتخاذ اصعب القرارات ، وبنفس الوقت ، ينزلون الى الناس ويحتفلون معهم ويأكلون بمعيتهم بعيدا عن كل مظاهر التكبر والعجرفة .. انني مؤمن بقادة عراقيين يقدسون المال العام ولا يأخذون الا راتبا معينا مقطوعا يعرفه كل الناس .. أتمنى ان اجد احزابا عراقية قوية وجماهيرية ومدنية يقودها اناس اذكياء ووطنيين ولا تزيد عن عدد اصابع اليد تتبارى لتقديم الاحسن والافضل .

أخيراً .. هل من كلمة أخيرة لكل العراقيين ؟
ـ ثق بأن العراقيين الأسوياء هم من أطيب الناس واذكى البشر ، ولهم أخلاقيات مدنية وقيم حضارية متوارثة افتقدوها على امتداد خمسين سنة مضت .. أتمنى من صميم القلب ان يزرع كل عراقي المحبة .. وان يتسامح مع الآخر .. وان يعتذر عن أي خطأ من الآخرين .. ان ينفتح على العالم ويتعلم من الآخرين .. عليه أن يعيد التفكير في كل شؤون العراق .. ان يطالب ان ضاعت حقوقه وان يقتنع بما حصل عليه من حقوق .. أن يعتمد لغة الحوار الحضاري عالي المستوى ويدرك روعة الأخلاقيات ويكف عن السب والشتيمة .. ان ينزع الكراهية واية أحقاد ، وخصوصا ضد أبناء وطنه .. وليعترف أن العراق هو لكل سكانه ولم يخلق له وحده .. على من يشعر انه غير عراقي ان يفكّر قليلا بوضعه ومصيره من دون العراق ! على كل العراقيين أن يفكروا بالعراق من دون العراقيين حتى يدركوا كم هو عظيم وطنهم ! على العراقيين من سدنة الماضي او الطفيليين الجدد .. الكف حالا عن إثارة النعرات وعن كل ترسبات التاريخ وعن الفتن والمشكلات .. عليهم أن يؤمنوا أنهم عراقيون بلا حساسية المكونات او التصنيف الغبي بين اكثريات وأقليات .. ان يتعلموا كيف يكونوا منتجين ومبدعين ومثمرين ويحافظوا على المال العام وثروات البلاد .. لا ان يبقوا كسالى ومستهلكين ودائمي الشكوى والملل والولولة ويتعلموا كيف يكتبون ويعارضون ويحاورون ويخالفون ويقرأون ويحترمون الرأي والرأي الآخر .. كي يتخلصوا من تناقضاتهم الواسعة كي يرسموا طريقا جديدا لهم في التاريخ ، ويعرفوا ماذا يريدون .. أنني مؤمن بان العراقيين يستطيعون الخلق والابداع ان عرفوا طريقهم وتوفرت امامهم الفرص والخدمات والإمكانات .. انني لا اريد ان اكون معلما أو مرشدا ، ولكن أتمنى ان تصاغ كل هذه المبادئ والتوجهات في كتاب منهجي يقرر تدريسه وتعليمه لكل الأجيال العراقية ومنذ صغرهم . عند ذاك نأمل بخطوات جادة حضارية ومدنية لكل العراقيين . مع تحياتي لكل عراقي في هذا الوجود .

ـ أرجو أني لم أُثقِل عليك وأرجو المعذرة ، متمنياً لقاءك في القريب العاجل
ـ شكرا لكم عزيزي .. لقد كانت فرصة رائعة متمنيا لجريدة أكد ولكل الأصدقاء أسمى المودة والتقدير .

نشر الحوار في جريدة أكد الكندية ، العدد 182 ، يوم الاربعاء 4 آذار / مارس 2009 .
ويعاد نشره على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com

شاهد أيضاً

ملف: إمكانية حكم دكتاتور عادل للعراق.. حوار عراقي مصري بين الدكتور سيّار الجميل والأستاذ عبد الله كمال على روز اليوسف المصرية

مقدمة كتب الصديق الأستاذ عبد الله كمال عضو مجلس الشورى المصري ورئيس تحرير كل من …