الرئيسية / مقالات / من الأمامْ سِرْ .. الى الوََراء دُرْ .. !؟

من الأمامْ سِرْ .. الى الوََراء دُرْ .. !؟

كل يوم يمضي علينا والاخبار المحبطة والوقائع المأساوية تقضّ مضاجعنا .. كل يوم يمضي علينا والاحوال تنتقل من سيئ الى أسوأ .. كل يوم يمضي علينا وحياتنا تزداد اخفاقاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية .. كل يوم يمضي علينا والانقسامات تؤسس نفسها والتشظيات تأخذ مداها .. كل يوم يمضي علينا وشعوبنا تزداد مشاكلها وتتفاقم معضلاتها وتنحسر ارادتها .. كل يوم بمضي علينا والتدخلات الخارجية تزداد شراسة وقوة ونفوذا في مصائرنا .. كل يوم يمضي علينا والنخب المفكرة والمثقفة تنحسر مواقفها وتتلاشى ضغوطاتها وتبح اصواتها .. اننا نعيش اليوم في حالة يمكن توصيفها بـ ” الى الوراء در ” ، فالانسان لم يعد يحلم بالمستقبل بقدر ما يلوك الماضي .. انه لم يعد يحمل شعاراته التحررية ، فلقد حّلت الورائية محل التقدمية ، ولم نعد نسمع بالافكار الاشتراكية ولا بالمفاهيم الانسانية ولا بالقيم المعاصرة .. لم نعد نسمع لا باليمين ولا باليسار .. لا بالتقدم ولا بالتأخر ، في حين سلكت المجتمعات الاخرى في العالم سلوكا من نوع آخر !
لم تجد المجتمعات الاخرى بعد اخفاق اليسار واليمين فيها الا العمل بانسجام من اجل التقدم والسير نحو الامام .. في حين لم تحظ مجتمعاتنا بأية فرص تاريخية معاصرة وخصوصا ابان الفراغ الذي حدث اثر انهيار المعسكر الاشتراكي وتعطّل ايديولوجيات اليسار العربي عن مسيرتها التي لازمتها جملة من الاخفاقات .. فكانت الفرصة مهيأة لمن يقول : استرح وتوقف والى الوراء در !! لقد مّرت اجيالنا في القرن العشرين بمخاضات صعبة جدا وصادفت من التحديات التاريخية التي فشلت في الاستجابة لها ، فضيّعت فرصا لا يمكن تعويضها ابدا .. لقد ولدّت الاحباطات ردود فعل عنيفة ازاء الحداثة والتقدم مما قلب الاوضاع رأسا على عقب .. وسمح المجال للهروب الى اعماق الماضي لايجاد علاجات جاهزة ـ كما يظنون ـ ولكنهم نسوا تحولات الزمن ومتغيرات الحياة .
لقد انتقل الدور السياسي من ابناء النخب الى الجماهير التي وجدت في الانقسامية مبتغاها في الهروب من اللا وعي الواعي بنفسه الى اللاوعي اللا واعي بنفسه ! لم تعش مجتمعاتنا قاطبة اية مناخات طبقية أو اي صراعات طبقية .. بل كانت هناك تمايزات اجتماعية ربما تصل في مناطق الى حدود الصراع ولكن لا تخرج عن اعراف الماضي في مناطق اخرى .. تمايزات بين اعيان وشيوخ وسادة ونبلاء من طرف وبين عامة الناس من طرف آخر وما بينهما طبقة وسطى واخرى مسحوقة لم تجد طريقها للتبلور .. بين ابناء مدن وريف وبادية .. بين مسلمين ومسيحيين ويهود واديان اخرى تعايشت برغم بعض الخلافات ..
ان اخطاء ما سمي بـ ” القفزة النوعية ” عند احزاب قومية ، او ما سمي بـ ” حرق المراحل ” عند احزاب راديكالية .. او ما كان يسود التفكير العام من ان مجرد تغيير نظام حكم او مجرد انقلاب عسكري او مجرد تبديل زعيم او مجرد انتفاضة مسلحة او مجرد اعلان جبهة او مجرد اصدار قرارات او مجرد تأسيس حكومة دينية .. الخ سينقذ الحال وستتغير الحياة ويسود التقدم وتصبح مجتمعاتنا مثالية وتغدو دولنا محترمة .. لن اجد اية فئة او جماعة او حزب او نخبة آمنت بالتطور التدريجي .. او ادركت حجم التخلف ليس في حياتنا وتشيؤات بلداننا ، بل في الذهنية المركبة المسيطرة والتي ليس باستطاعتها ان تؤسس اية قطائع بينها وبين التقدم من جانب وبينها وبين التاريخ من جانب اخر .
لم يدرك من برز من ابناء اليمين او اليسار ان مجتمعاتنا كانت في طريقها لكي تلفظ كل البقايا القديمة التي تقف حجر عثرة في طريقها .. لم تدرك السلطات ولا الاحزاب ولا النخب ولا الكّتاب والساسة .. ان هناك واقعا تاريخيا واجتماعيا لا يمكن ابدا ان نقرنه بما كانت عليه اوربا حتى نرّوج لليمين واليسار اذ وصل الحال بأحدهم ان يكتب كتابا عنوانه ” اليمين واليسار في الاسلام ” !! اما اليمين ، فكان ان نحر حياتنا باساليبه الخادعة وصنعه للتناقضات ، فوضع الحداثة في عربة من العصور الوسطى ويريد ان يقتحم بها هذا العصر ! وجاءت الانقلابات العسكرية التي لم يزل عدد كبير من الناس يسّمونها ثورات معبرة عن الوجدان الشعبي العربي ..
ولما كانت اغلب تلك ” الانقلابات ” قد لبست البسة القومية العربية ، واسميت بـ ” الثورات ” ، فكان ان اكتسبت شرعيتها من خلال الارادة الشعبية التي رفعتها وكل ابطالها الى السماء من دون ان يدرك الناس وما زالوا بأن تلك ” الانقلابات ” كانت مدبّرة بليل لاداء ادوار معينة ضمن صفحات الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي ..
بالرغم من تدفق الشعارات القومية التي اصطبغت بالراديكالية واليسار والاشتراكية .. فان اليسار الحقيقي رفض الفكر القومي الذي اسماه باليمين .. وتفاقم الصراع بين الشيوعيين والقوميين ردحا طويلا من الزمن حتى وقف كل منهما مندهشا امام شعار : الى الوراء در ! لقد حدث ذلك قبل سقوط الكتلة الاشتراكية .. فجأة يبرز الاسلام السياسي على الساحة وهو يمتلك السلطة ولكن باسم الثورة الدينية .. فجأة تستخدم شعارات فرقاء الامس ولكن ليس نحو اليمين ولا نحو اليسار .. بل الى الوراء . ولم يعترف لا الفكر اليساري ولا الفكر القومي بالهزيمة امام المارد الجديد الذي جاء باجندة لم يتعاطف الناس معها ، بل انها تستحوذ على كل خلجاتهم وعواطفهم وافكارهم .. ومخيالاتهم في تجسد احلام يعتبرونها حقائق ثابتة .. واذا كان هناك من يعارض اليمين واليسار ، لكنه لا يمكنه معارضة الاصول التي باتت الاحزاب الدينية تتكلم من خلالها . أتمنى من صميم القلب ان نسّمي الاشياء باسمائها من دون تهويل وان نستدير للسير نحو الامام .
www.sayyaraljamil.com

البيان الاماراتية ، 1 آب / اوغسطس 2007

شاهد أيضاً

زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا

 الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …