الرئيسية / افكار / المُؤرّخُ محترفََ سياسة ! رؤيةٌ مِهََنيِّةٌ لواقعِ الكتاباتِ التاريخية -1-

المُؤرّخُ محترفََ سياسة ! رؤيةٌ مِهََنيِّةٌ لواقعِ الكتاباتِ التاريخية -1-

مقدمة ” كتابة التاريخ مهنة شاقة
قبل ايام كتبت مقالة عن الفوضى التي تعم ساحتنا الثقافية والتي دخل اليها من هّب ودبّ ليكتب التاريخ حسب مزاجه او حسب رغباته او حسب عاطفته السياسية وميوله الايديولوجية .. او حسب اجندة البطل او الحزب او السلطة او الطائفة او الجذور العرقية التي ينتمي اليها .. وليس في ذلك اي عيب او جناية .. فالانسان كتلة من الاعصاب والافكار والنزعات والموجهات والعواطف التي تقوده الى ما يؤمن به .. ولكن التاريخ بكل مساحاته وعناصره وافعاله واحداثه والوانه .. ليس ملكا له وحده .. انه مشاع لكل ابنائه والاجيال من بعده .. انه الميدان الذي اشترك فيه الجميع من اجل التعّرف عليه وهو المضمون الذي يقبل كل ما تكشفه الايام .. فليس من حق كائن من كان ان يفرض وجهة نظره او رأيه بمعزل عن كل الاراء .. وبمعزل عن ارادة كل المؤرخين ..
ان عملية كتابة التاريخ احتراف علمي بالدرجة الاساس ، وان من يسمّي نفسه مؤرخا ، عليه ان يمتلك الاداة والوسيلة .. الاسلوب والمنهج .. الرؤية والتفسير .. المصدر والتحليل .. المعلومة والارشيف .. الفلسفة والمعرفة .. كي يكون مؤرخا بحق وحقيق . انها كما وصفت في اغلب المدارس بـ ” مهنة شاقة ” لا يجيد صنعتها الا من اكتسب الشروط والتمرين والتجربة والمراس كي يكون مؤرخا حقيقيا .. يؤخذ كلامه على محمل الجد .. اما من يريد ان يقتحم هذا ” الميدان ” بلا اية اسلحة ولا اية تجارب ولا اي منهج ، فلا يمكن التعويل على كتاباته ، بل ولا يمكن للاجيال ان تعتمد اي رأي من آرائه ولا اي فكرة من افكاره . ان مهنة او صنعة التاريخ صعبة للغاية سواء في كتابة الاحداث السياسية او في تحليل الاوضاع الاجتماعية او في مقارنة البنى الاقتصادية وحتى في تفسير التاريخ الثقافي والحضاري .. ناهيكم عن القيم المثلى التي ينبغي التمتع بها في كتابة او سرد السير الذاتية وتقييم البطل في التاريخ بعيدا عن اي عواطف سياسية او وطنية او حزبية .. الخ ان ما نشهده اليوم من نشر اكاذيب واختلاقات ومشعوذات وانشائيات ومفبركات وتمجيد زعماء .. ليس من التاريخ بشيئ من الاشياء !

الدور الارتكازي للمؤرخ
اعجبني جدا ما كتبه المؤرخ الفرنسي «اوليفييه دومولان» وهو احد اهم المؤرخين الفرنسيين الشباب في القرن العشرين من الذين جعلوا لعلم التاريخ مكانة بارزة في اهتمامات الباحثين في ميادين العلوم الاجتماعية والانسانية في الغرب اليوم . ولابد من ان يطرح سؤالا جوهريا مفاده: «بماذا تخدمنا المعرفة التاريخية اليوم ، وكيف يستفيد اي مؤرخ في توظيفه للاحداث المصيرية التي يعايشها من اجل ان يكتب خطابا من نوع ما ؟» ربما وجدت الجواب بشكل تطبيقي رائع من خلال قراءة اطروحة دومولان «مهنة المؤرخ: مهنة مأزومة» خصوصا عندما حلل بشكل واف جوانب جد اساسية وارتكازية في توظيف المؤرخ جملة من انطباعاته عن معايشته للاحداث المصيرية الساخنة وماذا يمكنه ان يكتب للجماهير في اصعب ظروفها القاهرة وهي تتعرض للدمار او تحيا تلك اللحظات التاريخية التي يعتبرها البعض ضربا من الحظ في ان يعيش الاحداث في اسبابها ونتائجها القوية . تتمثل مثل هذه الخصوصية في الذي يكتبه المؤرخ في تحليلاته لا السياسي في توقعاته او الصحافي في متابعاته .. وانه يناقش هذا الدور من خلال تداخل مهنة «المؤرخ» مع مهمة «المتابعة» الحيوية خصوصا في هذه الايام التي بلغت درجة الميديا الاعلامية اعلى مدياتها قوة ورهبة واختراقا للتفكير والعواطف .. وسيغدو المؤرخ هنا مجرد قاض يحاكم جزئيات الاحداث مع نفسه ليذيع نتائجه على الناس وخصوصا في مسائل لا علاقة بحقبة زمنية معينة ، بل عن مرحلة صعبة من المعايشة بكل جوارحه مستدعيا ذاكرته الحادة ليقارن بين الاحداث والشخوص والعناصر والمديات والاعتبارات ..
هكذا يمكنني ان اذكر في هذا المجال المؤرخ الاميركي «روبرت باكستون» المختص بتاريخ فرنسا المعاصر في ظل حكومة المارشال بيتان وهي الحكومة المعروفة باسم «حكومة فيشي» ومعناها : المدينة الفرنسية التي اتخذها المارشال المذكور مقرا لحكومته والتي تعاونت مع قوات الاحتلال النازي وقد علمنا ان رئيسها قد عوقب بعد التحرير ليواجه الاعدام.. وضمن هذا الاطار من الاحداث المصيرية مثل المؤرخ الاميركي دوره تطبيقيا امام القضاء عندما قارن بين الاحداث وكانت شهادته ذات اثر بالغ في تثبيت منطق الاحداث بمعايشته تظاهرات الجزائريين ضد الاستعمار الفرنسي وممارسة الاخير للقمع .
دراسة الواقع وتحليلاته من وحي التاريخ :
ان قراءتنا للتاريخ نحن شعوب الشرق الاوسط ليست بعلمية ولا بمنهجية ولا بفلسفية ابدا .. انها مجموعة مسردات لاحداث او وقائع او سير او بطولات .. لا كشوفات فيها ولا مقارنات لها ولا تأصيل مؤرشف عنها ولا تطبيقات عملية رقمية او جغرافية او طبيعية عليها .. ولقد زاد في الامر سوءا دخول ميدان التاريخ في حياتنا العربية خصوصا مجموعة من الاعلاميين والاخوة الصحفيين والكتبة الجدد الذين لهم منطلقاتهم في التقييم وتعاطفهم وعدم حياديتهم وانعدام موضوعيتهم وتوزيعهم للاحكام بسرعة .. بل وتجد انفعالاتهم وعواطفهم الساخنة في اطلاق التهم ووصلت الى حد الشتائم المقذعة والمعبّرة عن انقسامات مخيفة ليست في العقلية السائدة ، بل في الاتجاهات الفكرية والاساليب الاجتماعية والعلاقات الثقافية ..
علينا ان نتساءل : كيف نعالج مثل هذه الاوضاع التي تزداد تفاقما وخطورة على مجتمعاتنا ؟ كيف نحمي مجتمعاتنا من توظيف التاريخ انقساميا .. ولا نجعله اداة هدم بيد من يريد ان يؤسس للانقسامات الاجتماعية والسياسية والثقافية ؟ كيف نوقف الهجمات على التاريخ تحت مسميات طائفية ومذهبية وعرقية تصل الى حد الشوفينية ؟ كيف نبعد التاريخ عن ان يكون بيد اية سلطات في الدولة او لدى الاحزاب واستخدامه عامل هدم وليس عامل بناء ؟ ثمة فراغات كبرى ومساحات داكنة في تاريخنا لا يمكن جعل كل من هب ودب يفسرها حسبما يرى او يشاء لافكار يريد الوصول اليها .. بمعزل عن فهم الظروف في الماضي وعوامل البناء والهدم التاريخية التي سببت تلك الفجوات ؟
المسؤولية التاريخية
اتذكر انني كتبت مقالا قبل اكثر من 35 عاما عندما كنت طالبا في الكلية بعنوان ( الامانة العلمية والمسؤولية التاريخية للبحث التاريخي ) في مجلة الجامعة ، حددت في المقال بعض الهواجس والتخوفات من كثرة ما يكتب من اشياء لا اساس لها من الصحة ، بل ونبهت الى جملة من السرقات والمنتحلات .. بل والى جملة من التزييفات والاختلاقات التي يريد بها البعض تشويه التاريخ .. ولم يكن في ذلك الزمان اية ثورة معرفية او معلوماتية او رقمية او الكترونية .. فكيف بنا الحال هذه الايام ؟ دعوني استرسل قليلا ، فالموضوع ان لم ينتبه اليه ، فسوف لن نزداد الا تخلفا وتراجعا وماضوية وانقسامية وتهميشا من كل العالم المعاصر .
للمقال صلة
www.sayyaraljamil.com
الزمان ، 30 يوليو / تموز 2007

شاهد أيضاً

مطلوب لائحة اخلاق عربية

تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …