الرئيسية / كتابات عن / صفحات مطوية من الأمس القريب -الحلقة الثانية-

صفحات مطوية من الأمس القريب -الحلقة الثانية-

– أسئلة وعلامات إستفهام مازالت تبحث عن أجوبة مقنعة

– عبدالسلام عارف.. مرحلة غامضة من تأريخ العراق الحديث

في مذكراته يذكر أمين هويدي أن عبدالناصر هو أول من أخبر عبدالسلام عارف بما حدث في بغداد ( حول محاولة عارف عبد الرزاق الانقلابية الفاشلة ) .. إلا أن د. سيار الجميل ينقل رواية نقلها عن د. أحمد الحسو المستشار الصحفي لعارف، وكان يرافق الرئيس في رحلته للدار البيضاء، وعاد معه علي متن الطائرة المصرية التي أقلته من المغرب الي العراق مرورا بمصر علمنا بما حدث في بغداد من محاولة انقلابية وبما كان يحدث في الساعات الاولي من فجر يوم 14 سبتمبر ومن قبل رجل نثق به كثيرا، علما بأن فارق التوقيت بين العراق والمغرب قرابة 3 ساعات. وقمت توا باخبار مرافق الرئيس عبد الله مجيد، فدخل توا الي غرفة نوم الرئيس عبد السلام عارف الذي كان يغط في نوم عميق، فأيقظه من منامه ويخبره بما حدث في بغداد، فنهض عبد السلام عارف سريعا ليستفهم المزيد من الاخبار من دون ان يصاب بأي ذعر، وقد اخبرناه بأن المحاولة احبطت وان الوضع مستقر لصالحه، فبدأ يمهد للعودة مباشرة. وفعلا، عدنا علي طائرة مصرية، فطرنا الي العراق وهبطنا ليلا في احد مطارات مصر العسكرية وليس المدنية، وكان الجميع في حالة من القلق باستثناء الرئيس عارف الذي لم يعرف طعم النوم.. كنا جميعا في حالة من الاعياء والجهد النفسي خصوصا عندما بقيت طائرتنا جاثمة في ذلك المطار الموحش وعبد السلام قوي الارادة وثابت الجنان ولكنه كان متألما جدا لما اصابه من خيانة وغدر القريبين منه والبعيدين عنه. لم يعد عبد السلام عارف الي القاهرة اولا ليعمل علي ترتيب سفره الي بغداد اذ نزلت الطائرة للتزود بالوقود في مطار مصري لا يعرف اين هو لأن المطار كان موحشا في الليل ولم يكن في القاهرة بأي حال من الاحوال.. ولم تبق الطائرة الا وقتا قصيرا بقي الجميع علي متنها، فلم ينزل احد منها الي ارض مصر..


الدور المصري أيام حكم عبدالسلام عارف

يقول د. سيار الجميل إن المعلومات المهمة التي سجلها أمين هويدي في مذكراته، كنت انتظرها منذ زمن طويل اذ تقول الوثائق والتقارير والمعلومات السياسية العراقية إن عبد الناصر كان قد تدخل تدخلا سافرا في شئون العراق عندما قُتِل الرئيس عبد السلام عارف ومن معه عندما سقطت طائرته الهيلوكبتر اثر هبوب عاصفة رملية قرب البصرة كما كان قد أذيع وقت ذاك، ولم يستطع احد حتي يومنا هذا من كشف لغز سقوط تلك الطائرة، ويشاركني أمين هويدي أيضا بقوله لا احد يعرف سر سقوط طائرة عبد السلام عارف! ولكن هويدي أول من تحدث سواء في كتاباته أو في لقاءاته التلفزيونية بأن عبد الناصر هو أول من عرف بخبر سقوط الطائرة قائلا لهم بأن عبد السلام قتل وشبع موت! المهم في المعلومات التي كنت قد سجلتها في بعض كتاباتي التاريخية نقلا عن الأوراق العراقية إن وصول عبد الحكيم عامر من القاهرة إلي بغداد علي عجل وتدخلاته السافرة في تنصيب خلف لعبد السلام قد غيّر مسار تاريخ العراق برمته في تلك اللحظة التاريخية.. لقد عمل جهده من خلال تنفيذ رغبة الرئيس جمال عبد الناصر في عدم وصول المرشحين الاثنين اللذين كان ضدهما للرئاسة في العراق: المدني الدكتور عبد الرحمن البزاز رئيس الوزراء والعسكري عبد العزيز العقيلي وزير الدفاع، وفرض بدلهما اخو عبد السلام الفريق عبد الرحمن عارف رئيس أركان الجيش وكالة، وقد ضرب بالدستور عرض الحائط، ولأول مرة يرث رئيس دولة جمهورية أخاه في الحكم، كان في العراق! ) إنتهي كلام الدكتور الجميل.

لقد كان حضور المشير عبدالحكيم عامر السريع إلي العراق في مساء يوم حادث سقوط أو إسقاط طائرة عبدالسلام عارف، ومشاركته في التشييع باليوم التالي ممثلا للرئيس عبدالناصر، ومن ثم الحديث الذي دار عن دوره في تنصيب الرئيس عبدالرحمن عارف، وإشراك مصريين في التحقيق بحادثة الطائرة، ومازال السر في سقوط الطائرة غامضا. يقول د. سيار الجميل في كتابه (القاهرة حاولت الانقلاب علي عبدالسلام عارف): …. وهنا أريد أن اغتنم هذه الفرصة كي أدعو مخلصا كل الباحثين والمؤرخين والساسة القدماء وكل من يمتلك معلومات يدلي بها من اجل الكشف عن اسرار مصرع الرئيس العراقي عبد السلام عارف، ومن يقف وراء التخلص منه! ان الحاجة باتت ماسة الآن لمعرفة كيفية سقوط الطائرة الهيلوكبتر التي كانت تقله فقط، ونزول الطائرتين المرافقتين بسلام علي ارض مطار البصرة. انني واثق شديد الثقة بأنه ليس هناك وجود لأية عاصفة رملية اسقطت الطائرة، بل ان مؤامرة حيكت بمنتهي السرية للقضاء علي عبد السلام عارف.. وان طائرته قد انفجرت وهي تطير في السماء وتلاشت اجزاؤها في الليل البهيم! ماذا نسّمي اذن كل هذه الصورة التي رسمت مصر عبد الناصر من خلالها مستقبل العراق حتي تلك اللحظة التاريخية المريرة.. وسوف لن تهدأ ابدا، فستبقي مصر تعمل من اجل ان يكون العراق منسجما ولا اقول تابعا مع سياسة مصر، وبقيت مصر تحلم بمجيء الناصريين فقط الي حكم العراق، ولكن ذلك لم يتحقق اذ ذهب العراق في طريق آخر.. ويؤكد اولئك الذين احبطوا المحاولة الانقلابية الاخري لعارف عبد الرزاق علي عهد الرئيس عبد الرحمن عارف بأن مصر قد قطعت علي العراقيين اي مشروع للحكم المدني اثر مصرع عبد السلام عارف واتت بأخيه عبد الرحمن من اجل ان يغدو الوضع ضعيفا جدا يسهل جدا حدوث اي انقلاب يأتي بعارف عبد الرزاق علي رأس الحكم في العراق..


هل كان عبدالسلام طائفيا؟

إن الذين يعرفون عبدالسلام عن قرب يعرفون حقا أنه لم يكن طائفيا، أو متعصبا للسنة أو للدليم، أو للعرب، فقد كانت له صلة طيبة بالمرجع الشيعي الأعلي محسن الحكيم، وكانت بينهما زيارات كما أن الرئيس عارف أوفد المرحوم الحكيم بطائرة رئاسية خاصة لأداء فريضة الحج 1964 مع جمع من علماء الدين الشيعة وغيرهم. وعارف لم تكن له نظرة تحيز عرقية ولا مذهبية، فوزاراته كانت تضم الشيعي والسني العربي والكردي والتركماني، وفق مبدأ الكفاءة والإخلاص للوطن. كما كانت لعارف علاقة وثيقة جدا مع الإمام مهدي الخالصي، وهذا ماوضحة بكل التفصيل سماحة العلامة محمد مهدي الخالصي في اللقاء التلفازي الأخير مع الجزيرة. ومن المؤسف أن تنطلق كتابات علي بعض المواقع تتهم عبدالسلام عارف بأنه (طائفي) فقال أحدهم (لقد مارس عبدالسلام عارف الطائفية بشكل علني وجعلها مقياسا للتقرب إلي الدولة!!).. ويكفي ان نذكر أنّ عارف كان قد عين (ناجي طالب) رئيسا للوزراء وهو شيعي عربي قومي ووطني وشخصية عراقية محترمة من الجميع. كما أن عددا كبيرا من وزراءه كانوا إما من الكرد أو من الشيعة أو التركمان إضافة للعرب فمعياره كان الوطنية والكفاءة.


هل كان عبدالسلام دكتاتورا؟

ذكرنا آنفا ما أورده الدكتور الباجه جي في شهادته عن فترة حكم عبدالسلام عارف من انه لم يعدم ايا من خصومه ومعارضيه بمن فيهم من حملوا السلاح وتآمروا عليه، وطيلة فترة حكم الشقيقين عارف لم يعدم عراقي واحد لأسباب سياسية، وطيلة عهده لم يصدر حكما بإعدام أحد من خصومه أو معارضيه، فقد عفي عن البعثيين جميعا حتي من رفع السلاح ضد السلطة، وأطلق سراح الشيوعيين الذين كانوا قد دبروا مؤامرة مسلحة ضد نظام حكمه رغم صدور أحكام قضائية عليهم بالإعدام.

ومن الأحداث التي شهدناها عيانا أثناء إلقاء عبدالسلام عارف لخطبة لمناسبة إحتفال ذكري المولد النبوي في حدائق قاعة الشعب بباب المعظم وكان الخطاب متلفزا مباشرا، وكان يتحدث فيه عن قرارات التأميم وعن إشتراكية الإسلام فإنبري للرئيس عبدالسلام عارف أحد الحضور (وإسمه أحمد السامرائي) وقاطعه أثناء الخطاب بالهتاف (ياعبدالسلام… لا إشتراكية في الإسلام!) وسمعه جميع مشاهدي النقل التلفازي…. فما كان من الرئيس عبدالسلام إلا أن أجابه باللهجة المحلية (صه يا هذا!) وقام رجال الأمن بإعتقال أحمد السامرائي.. وفي صباح اليوم التالي بالضبط لقيت المدعو أحمد السامرائي نفسه يسير في الشارع وسألته عن إعتقاله فأخبرني أنه تم إطلاق سراحه بأمر من الرئيس عبدالسلام في نفس الليلة!!!

شجاعة عبدالسلام عارف:

يقول عنه معظم أقرانه أن عبد السلام كان يتميز بخصائل وصفات قيادية عسكرية نادرة، ويتسم بالشجاعة والإقدام والجرأة وعدم التردد، وقال عنه زميله عبدالغني الراوي وهو من الضباط الأحرار ( لقد كان عبدالسلام عارف شجاعاً بحق..) ومن مواقفه انه سحب المسدس علي عبدالكريم قاسم في وزارة الدفاع حين نجح الشيوعيون في إثارة الشكوك بينهما وتخويف قاسم من عبدالسلام، كما أن قيامه بحركة 18 تشرين الثاني (نوفمبر) 1963 لإنقاذ العراق من تصرفات الحرس القومي التي تجاوزت كل الحدود.. وإستطاع أن يحسم الأمر خلال ساعات. عبدالسلام لم يكن مواليا لأية حكومة أجنبية، أو معسكر غربي أو شرقي، كان مستقلا لم ينتم إلي حزب ولا فئة، وكان ضد التحزب. عبدالسلام كان شخصية بسيطة متواضعة، يتجول في الشوارع والأزقة ومختلف مدن العراق بحماية بسيطة ودون ضجيج وإزعاج، ولم تسجل عليه تجاوزات علي المال العام، بل أنه لم يكن يمتلك غير منزله في الأعظمية وهو منزل بسيط متواضع.


حادث غامض مشبوه!

إنتهي المشروع الوحدوي مع مقتل الرئيس عبدالسلام محمد عارف بحادث سقوط طائرته المروحية فوق منطقة النشوه جنوبي العراق (شمال البصرة) في 13 نيسان (أبريل) 1966حين كان يقوم مع عدد من مرافقيه ووزرائه بزيارة تفقدية لمحافظة البصرة، ولم يتم التوصل إلي كشف سر سقوط أو إسقاط طائرته المروحية لحد الآن، فالبيان الحكومي وتأكيدات الحكومة المصرية أن الحادث بسبب عاصفة رملية صحراوية جعلت الطائرة تفقد توازنها وتسقط أرضا وتحترق أجساد جميع من كانوا علي متنها وفي مقدمتهم الرئيس عبدالسلام عارف. وثمة روايات أخري تنطلق من (مبدأ المؤامرة) حيث وجهت بعض الإتهامات الي الدور المصري بإسقاط الطائرة للتخلص من عارف الذي بات عبئا عليها، بسبب سياساساته ومواقفه، وتدخلاته لصالح الإخوان المسلمين في مصر. ومن المعلوم أن تدخل عبدالسلام عارف شخصيا وضغطه عليه أدي إلي إطلاق سراح المرحوم سيد قطب من السجن عام 1964 (وهذه القصة معروفة وكان عارف قد أوفد المرحوم اللواء محمود شيت خطاب المفكر الإسلامي المعروف ووزير الأشغال والشئون البلدية لدي عارف إلي القاهرة ليتابع بنفسه إطلاق سراح سيد قطب). ولكن بعد وفاة عبدالسلام أعيد إعتقال سيد قطب ووجهت له تهمة التآمر علي عبدالناصر وأعدم مع جماعته أواخر سبتمبر 1966 أي بعد سقوط طائرة عبدالسلام بخمسة أشهر…وثمة إتهامات الي البعثيين لتطلعهم إلي التخلص من عدوهم التقليدي اللدود وماقيل وقتها بأن ضابطا بعثيا في القاعدة وضع مادة متفجرة في خزان وقود الطائرة قبل إقلاعها من الشعيبة.

مهما كان عبدالسلام محمد عارف ومهما كان موقفنا منه، فإنه شئنا أم أبينا قد دخل تأريخ العراق الحديث واحداً من الشخوص العراقية التي حفرت إسمها وأفعالها ومواقفها في سجل التأريخ العراقي، إن عقودا أربعة مضت منذ إحترقت جثة (الرئيس عارف) في حادثة (سقوط أو إسقاط!) طائرة الهليوكوبتر فوق منطقة (النشوة) بمحافظة ميسان يوم 13 نيسان (أبريل) 1966، تجعل كثيرين يطالبون بإعادة دراسة وتقييم هذه الشخصية العراقية وإنصافها، وإعادة إثارة موضوع (سقوط أو إسقاط) طائرته في الحادث المشبوه المثير للجدل، ومن كان يقف وراء الحادث المذكور؟ التأريخ سجل يبدأ لكنه يبقي مفتوحا لاأحد يجرؤ علي غلق صفحاته إلي الأبد.



جريدة (الزمان) — العدد 2174 — التاريخ 28 / 7 /2005

شاهد أيضاً

مسامير.. عتاب إلى الحكومة العراقية شديد الخصوصية شديد العمومية !

قرأتُ الخبر التالي وأسعدني : ( ناشنال بوست ، تورنتو ، يو بي اف ، …