الرئيسية / حوارات / نحو تفكير نقدي في كتابة التاريخ .. حوار مع المؤرخ الدكتور سيّار الجميل اجراه الاستاذ الناقد ماجد السامرائي ونشر في مجلة البحرين الثقافية العدد 38 مارس

نحو تفكير نقدي في كتابة التاريخ .. حوار مع المؤرخ الدكتور سيّار الجميل اجراه الاستاذ الناقد ماجد السامرائي ونشر في مجلة البحرين الثقافية العدد 38 مارس

اذا كان الدكتور سّيار الجميل قد بدأ نشاطه الفكري من التاريخ ، وبما هو تاريخي ، من كتبه ” العثمانيون وتكوين العرب الحديث ” و ” النسر الاحمر : صلاح الدين الايوبي ” و ” العرب والاتراك : الانبعاث والتحديث من العثمنة الى العلمنة ” .. فانه سيحمل رؤيته التاريخية هذه الغنية بتجربة البحث والتواصل مع الافكار ، الى المجالين الفكري والسياسي ، ليكتب في ” التحولات العربية : اشكاليات الوعي وتحليل التناقضات وخطاب المستقبل ” و ” العولمة الجديدة والمجال الحيوي للشرق الاوسط ” و ” العولمة والمستقبل ” .. وفي السجال الفكري ” الرؤية المختلفة ردا على محمد عابد الجابري ” و ” تفكيك هيكل ” من خلال مناقشة اطروحاته السياسية .
الا اننا حين نجمع هذه الى تلك نكتشف ان ثمة خيطا خفيا يحجبها :
فكتاباته في التاريخ لا تذهب ، عمقا تاريخيا ، نحو ازمان بعيدة وانما هي مما ينتمي الى ( الحقب الحديثة ) من التاريخ العربي ، والتي ما تزال بعض ظلالها ممتدة على ارض الواقع .. وهي حقب مرتبطة بالسياسة من جانب وبالفكر وحركة الافكار الحديثة ، من جانب آخر .
واما كتاباته الفكرية ، والسياسية ايضا ، فتدخل في باب تحليل الواقع من خلال ما يستجد من ظواهر ( قد يكون لها طابع تاريخي ) او استعادة لبعض الظواهر والقضايا ( التي اصبحت تاريخية ، بمعنى من المعاني ) .. وتأكيد وجهة نظر ، وبنى رأيا آخر .
أما نحن ، فمع هذه او تلك ، أمام مغامرة فكرية تتخذ الطابع ( او الموقف ) التاريخي ، هي مغامرة رجل فكر وتاريخ ، ولذلك علينا ان ننصت الى ما يقول ـ ففي هذا الحوار ما لايقل اهمية عما جاء في كتبه .

س1 : يقال الكثير عن ” رجل التاريخ ” في تعيين موقفه ووصف عمله : يجب أن يكون موضوعيا .. ومحايدا .. أن ينقل الواقع .. وأن يحرص على تدوين ما حدث ( بوصف عمله عملا متصلا بالماضي ) . في حين أن عملية التحليل ” التي يقوم بها رجل فكر وتاريخ من طرازك لا يمكن أن تتم بمعزل عن رأيك ، ووجهة نظرك ، وفرض محددات وعيك .. ومواقفك أيضا . فماذا تقول ؟
ـ لابد أن أقول الكثير ، ولكنني سأختزل كلمتي علما بأنني لا أريد أن أتحدث عن نفسي أبدا ولا اريد أن أقيم أعمالي في التاريخ والفكر ، فربما سيأتي من بعدنا ناس من غير هذا الزمان في المستقبل ليقولوا كلمتهم في ما يكتبه المؤرخون والمفكرون العرب اليوم . هناك العشرات من المؤرخين العرب الذين ازداد عددهم في النصف الثاني من القرن العشرين ، وقد كتبوا في تواريخنا الاسلامية والعربية والحديثة والمعاصرة ، ولكن هناك القليل منهم من قام بمهمة توظيف تلك التواريخ وهي من اشق المهام وأصعبها .. هناك فرق بين من يكتب التاريخ وبين من يؤرخ الماضي ! هناك فرق بين من يسرد الاحداث ويركب الوقائع وبين من يحلل التاريخ ويفلسف الاطوار ! هناك فرق بين من يتشرنق في اطار الماضي ويعيش في طياته وبين من يعيش حياة العصر من خلال فهمه لانساق الماضي ! كنت أتمنى ان يجد العدد الغفير من مؤرخينا العرب المعاصرين وسيلة اخرى للعيش والتكسب والتوظف بدل ان يكتبوا التاريخ ! كنت أتمنى أن تعتني مؤسساتنا العلمية بصناعة المؤرخ الجاد الذي باستطاعته امتلاك الاداة والوسيلة ومن قبلهما الوعي والمقدرة على الفهم ! وكنت أتمنى على عدد كبيرمن مؤرخينا أن لا يوظفوا بعض اعمالهم لاغراض ايديولوجية وسياسية وعقائدية ومذهبية ويبقوا في قنوات ضيقة بعيدا عن المنهج العلمي والتفكير العلمي واشتراطاتهما من موضوعية وحيادية ودقة وعدم انحياز ! وأرجع لاقول بأن كتابة التاريخ ليس عملية اعتباطية وساذجة وتركيب سرديات دون أي تمايزات ودون أي اشتراطات . انها عملية ذكية ومعقدة وخصوصا في عمليات التحليل في كشف الاسباب والمسببات .. العلل والمعلولات من اجل التوصل الى الاستنتاجات . مع الاسف على امتداد خمسين سنة لم يدخل اقسام التاريخ في جامعاتنا الا اصحاب المعدلات الواطئة واغلبهم من دون رغبة جامحة في علم التاريخ ومن دون موهبة او قدرة في صقل موهبة ولا حتى ذاكرة .. والمؤرخ هو الوحيد بين العلماء الذين بحاجة الى ذاكرة حادة وبحاجة ماسة الى اختراق انساق الماضي لاستحضارها وتوظيفها بسرعة سواء باسلوب شفاهي ام تحريري . وأخيرا ، دعني اخبرك سيدي بأن المؤرخ بحاجة الى كل هذا وذاك .. فكيف يمكن للمؤرخ أن ينتقل من طوره التحليلي الى تفكيره الفلسفي اذ ان هناك فرق كبير بين المؤرخ وبين فيلسوف التاريخ . هذا الاخير لا يمكن ان يصل الى مكانته الا من تفوق بتفكيره كي ينتقل من العمل في تحليل الاحداث والوقائع التاريخية الى التفكير والكتابة في الاطوار والظواهر التاريخية . القاعدة في أي مكان من الدنيا في الماضي والحاضر قد يبقى المؤرخ ممتازا وجادا وموضوعيا عمره كله ، ولكن ليست لديه القدرة في ان يغدو فيلسوفا في التاريخ .. ومن الصعوبة بمكان أن تجد في دنيانا العربية اليوم هذا الاستثناء ، وحتى ان وجد فاما أن يحارب من قبل اقرانه وأما ان يهاجر نحو الشتات واما ان يموت مبكرا في عز الشباب وأما ان تغبن حقوقه ولا تعرف مكانته الا بعد ازمان .. وما ابن خلدون وتجربته الا أحد الامثلة على ما اقول ! باختصار اود القول بأن التفكير في التاريخ هو الاصل ، ولا يمكنني أن أكتب تاريخا من دون أن تكون لي وجهة نظر فيه ولكن بعد الوعي به .. ومن خلال ذلك تتحدد مواقفي بعيدا عن السرد اوالتشرنق او العزلة او التخندق .. وعن كل ما يبعد المؤرخ عن فهم الماضي والتعامل معه على هذا الاساس .

 ولكنك ، في هذا كله ، قد لا تعزل نفسك في ما ترى وتقول عن ” خبرات الماضي ” . أريد أن أعرف : كيف تتعامل مع تلك ” الخبرات ” ؟
ـ لا يمكن لأي مؤرخ جاد ان يؤرخ او بالاحرى أي مفكر حقيقي أن يكتب بمعزل عن خبرات الماضي ، بكل تراكماتها وتنوعاتها وخصب مجالاتها .. ولابد من استدعاء براهينها ومعانيها قبل استحضار نصوصها وشخوصها كونها بقايا ومواريث أزمان مضت وانقضت ، ولا يمكن حتى اعادة تشكيلها من جديد كما كانت .. المهم كما قلت خبرات الماضي وليس عناصر الماضي . والتعامل هنا صعب ومتنوع ، اذ لابد ان يحمل المؤرخ أي مؤرخ قاعدة عريضة من الثقافة العميقة وان يمتلك الافق الواسع وليس كما درجت عليها الساحة في ما يتعارف عليه بـ ” التخصص ” . نعم ” التخصص ” مفيد في المنهج والاولويات .. ولكنه غدا نقمة على ثقافتنا العربية مع غياب المؤهلات الاخرى . وقد تسألني عن المؤهلات التي يفترض ان يتسلح بها أي مؤرخ ومفكر عربي معاصر (علما بأنني لا أستسيغ مصطلح ” المفكر ” التي غدت تطلق جزافا على كل من هب ودب )، فاقول انها كثيرة لابد ان تكتشف عند الشباب الطموحين لنيل الدرجات العلمية منذ بداياتهم كي يعرف هل بمقدور هؤلاء ان يتحملوا المسؤولية وحمل الامانة في المستقبل ، ومنها : القدرة على فهم الماضي والثقافة الموسوعية والدقة في القراءة والكتابة ، والتمكن من اللغة ، والتفكير النقدي والوعي بتحقيب العصور من اجل اكتشاف التمايزات بين عصر وآخر .. الخ وعليّ القول بأن فهم خبرات الماضي في التاريخ الحديث والمعاصر هي عملية معقدة أكثر من فهم خبرات الماضي في التواريخ القديمة والوسيطة .. ومع كل هذا وذاك فلابد أن افضي لك بقناعتي التي تقول بأن أي مؤرخ او مفكر سوف لن يستطيع البتة التعامل مع أية ” خبرات الماضي ” ما لم يستطع التعامل مع ” خبرات الحاضر ” . وهنا تكمن مشكلة أغلب مؤرخينا ومفكرينا العرب المحدثين .
* ولكن ، قل لي : كيف يكون بمقدور المرء ، رجل التاريخ ، أن ينظر الى حاضر يعدّ نفسه ( أو هو ، بالضرورة ) جزء منه ، خصوصا وأن الانسان لا يمكنه أن ينكر ذاته ، بما لها من تكوين ، أو ما تحمل هذه ” الذات ” من مكونات ستتدخل في تحديد هذا الموقف أو ذاك ؟
ـ يعجبني في حوارك معي سيدي العزيز سؤالك المثقف وغير العادي .. سؤال يبحث في عمق الاشياء لا في توافهها ، وكم تمتلىء حوارات المثقفين العرب المعاصرين بسذاجات لا أول لها ولا آخر سواء في الصحف والمجلات ام في الاذاعات وقنوات التلفزيونات .. دعني أقول بأن أي خطاب معرفي أو أدبي هو مقول قول صاحبه او جماعته او مدرسته ضمن زمان معين ومكان محدد .. وهنا سيغدو نتاج أي خطاب وليد تكوين صاحبه وضمن التكوين التربوي والمناخ القائم والظرف التاريخي والافق الثقافي .. وهذه حقيقة ثابتة لا يمكن التملص منها تحت أي ذريعة والا وقع أي مفكر في تناقض خطير . خذ امثلة على ذلك : هل كان خطاب مؤرخ كالطبري مشابه لخطاب المسعودي او خطاب الخطيب البغدادي او خطاب ابن خلدون او خطاب ابن الاثير او خطاب ابن العديم او خطاب المقريزي او خطاب الجبرتي او خطاب الشهابي او خطاب عبد العزيز الدوري او خطاب عبد الله العروي ؟؟ لم يستطع احد من هؤلاء انكار ذاتهم او تكوينهم او فكرهم او بيئتهم او ظرفهم وزمانهم او ثقافتهم .. فكل واحد منهم ابن حقيقي لكل ذلك . وبعكسه فسيكون المؤرخ قد تناقض مع ذاته وعصره وبيئته وثقافته وذهب بعيدا ليعيش في الماضي فتراه شاخصا امامك يعيش عصره بشكل ولكنه يفكر بشكل آخر .. وهذا هو سر النكوص الخطير الذي يعيشه تفكيرنا العربي المعاصر . وعليه ، فالعملية ليست معقدة جدا ولا تحتاج لا الى انكار ذات او انكار تكوين ومعرفة وعصر .. كل ما في الامر يكمن بتأسيس قطيعة معرفية في تفكيرنا ونحن نقرأ التاريخ او نشتغل عليه .. قطيعة معرفية من اجل فهم التاريخ وتوظيفه بعيدا عن عبادته وتقديسه من طرف أو انكاره ومسخه من طرف آخر ! المشكلة عندنا نحن العرب تكمن في الكيفية التي تتمأسس في تفكيرنا مثل هذه القطيعة المعرفية ! لقد اراد بعض رجالاتنا العرب من النهضويين الاوائل العمل على تأسيسها في مناخات فكرية لم تستمر مع الاسف ، اذ انهم خذلوا بتأثير عوامل أقوى منهم هي سياسية بكل تأكيد ومنهم : طه حسين وعلي عبد الرازق واحمد امين وعبد الرزاق السنهوري ومحمد شفيق غربال .. فيما بين الحربين العظميين ، ولكن المناخات الايديولوجية التي فرضت نفسها على الساحة العربية بعد الحرب العالمية الثانية اتخذت اساليب حقن التفكير العربي بالتقنين والسذاجة واسقاطات جاهزة من الافكار والنظريات لتبدأ مرحلة التوفيقية السطحية بين التراث والمعاصرة او الجديد والقديم واسطوانة نأخذ ما يفيدنا ونترك ما لا يفيدنا .. وعند نهايات القرن العشرين أصبحنا في مرحلة الهروب باندفاع مجنون نحو الماضي الذي تعتقد الكثرة الكاثرة ان فيه خلاصنا بعيدا عن كل شيىء ! أهذا الذي أردت التوصل اليه يا سيدي ؟
* ولكن التاريخ بتسلطه على ذاكرتنا كثيرا ما يملي علينا حالته .. مما يجعل البعض يفكر ، أو يدعو الى اعتماد نظرة منهجية نقدية ـ جذرية ، لكي نمنح انفسنا مسافة كافية في النظر اليه ، وفي دراسته وتقييم معطياته .
ـ نعم ، وهذا الذي دعاني أن أطلق على واحد من كتبي عنوانا هو ” بقايا وجذور .. ” ولكن التاريخ ليس هو المتسلط على ذاكرتنا ، بل المتسلط هو الموروث والفرق كبير بين التاريخ والموروث . استطيع ان اتجرأ قليلا لأقول بأن العرب خصوصا هم أبعد الناس عن تاريخهم وفهم تاريخهم لأنهم لو فهموه حسب الاصول ووظفوا معطياته لما كانوا بالوضع الذي نراهم اليوم عليه ! انهم عبدة لمواريثهم ولبقاياهم وتقاليدهم السقيمة اكثر من الايجابية .. صحيح انهم ابناء تاريخ مجيد ، ولكنهم في غالبيتهم وحتى مؤرخيهم يعتقدون ان كل ماضيهم زاهر ولابد من استعادته .. وهذا هو عين الخطأ لأن الماضي لا يمكن استعادته مطلقا .. المشكلة ان تنمية التفكير للاجيال العربية كافة ابان القرن العشرين كانت مفتقدة في اساليب درس التاريخ .. كما زرعت الاعلاميات والخطابات شحنات في الذاكرة العربية اوهاما بدل المعرفة وتلقين التمجيدات بدل التوظيفات ، وتعميم الشعارات بدل المفاهيم وعبادة البطولات بدل المعاني التي يمكن للمرء ان يتعلمها من التاريخ . وهذا ما لم نجده لدى شعوب ومجتمعات اخرى تحترم تواريخها وتفهمها من دون ان تقدس تواريخها ولا تفهمها ! اما بصدد الموروث المتسلط على الذاكرة منذ ازمان خلت ، فانه يسري حتى في الجينات العربية ولا يمكن الفكاك منه بسهولة لأنه شمولي تراه معشش عند الجميع سواء عند القادة والحكام او حتى عند الناس العاديين .. فليس هناك أمة تكثر:الامثال والحكم والاشعار والنصوص التراثية والحكايات والاساطير والاخيلة والاوهام والتكهنات والاغاني عندها مثل العرب ، كلها مسيطرة على الذاكرة سيطرة عمياء وحبذا لو تفهم جميعها على ضوء رؤى نقدية وقواعد منهجية للاستفادة منها ، ولكنها اقنعة باسم التراث الزاهر لا باسم نقد التاريخ المجيد ! وثق يا عزيزي بأن أغلب ما كتبه المؤرخون العرب المعاصرون من تواريخ لم يستفد منها المجتمع العربي برغم كل هشاشتها مع احترامي لتجارب علمية قدمها مؤرخون عرب لهم جدارتهم ، ولكن أعمالهم لم تؤثر عشر معشار ما يشعله بيان سياسي في النفوس ، او ما تثيره قصيدة غزلية في الوجدان ، او ما يستنسخ من كتاب في التراث !
* وأيضا في قراءة التاريخ قراءة نقدية ـ جذرية ، وفي دراسته ( أو كتابته ) وفاقا لذلك ، هناك منظورات متعددة ، مختلفة ومتقاطعة ، تواجهنا ، وغالبا ما نجدها تشكل ” منظومة مهيمنة ” : فهناك المنظور الديني .. وهناك المنظور السلطوي (أو منظورات رجال الحكم والسلطة ) وهناك المنظورات السياسية لكل حقبة ممن الحقب .. الخ . فكيف ترى امكان أن يمشي مؤرخ مثلك ، وهو يكتب ، بين هذا كله ، بكل ما يعتوره أو يصدر عنه ؟

ـ انه شقاء الوعي بالواقع والمصير وفي عصر عربي يزداد ضراوة على المعرفة ورجالاتها .. والمشكلة ان هناك من يتدرع بأسم العلم والمنهج والموضوعية في اشاعة ما يريده .. ان ما يواجهنا اليوم من ” منظورات ” ـ كما أسميتها ـ قد واجهت من سبقنا من الاباء والاجداد قبل ازمان خلت تحت ذرائع مختلفة . وأقسى ما يواجهه المفكرون الحقيقيون اليوم يكمن في التعامل مع الجهلاء الذين لا يفهمون معاني التاريخ والحياة . للحقيقة وجه واحد لا أكثر من وجه ويقول الانشائيون والمتفذلكون والمتحذلقون .. عكس ذلك وهنا يحدث الخلاف ! من المشكلات الاخرى عدم التمييز بين المعلومات وبين وجهات النظر ، فلا يفهم البعض كيف يقدم الاولى مهما كانت طبيعتها ويحترم الثانية حتى وان اختلف معها .. من المشكلات الاخرى غياب النقد وغيبوبته في خضم تشخيص الاخطاء سواء عند الصغار او الكبار لا فرق عندي .. من المشكلات الاخرى عدم الاعتراف بالخطأ والاصرار عليه بل والتمادي فيه كيلا تؤخذ العزة بالاثم علما بان الاعتراف بالخطأ فضيلة عند اجدادنا القدماء .. من المشكلات الاخرى منح العلامات العالية والدرجات والمرتبات العلمية عند العرب ممن يسمون انفسهم بأساتذة ودكاترة ومفكرين ومبدعين كما تمنح الحلوى للاطفال .. من المشكلات الاخرى ليس تسلط المنظور السياسي كما قلت ، بل انعدام تكافؤ الفرص بحيث يتسلط الجهلاء على المؤسسات العلمية والفقهية .. فليس هناك طفيليون في السوق فقط ، بل هناك طفيليون في التعليم وفي القضاء وفي الصحافة وفي الجامعات .. المهم ان لا يخاف المرء وهو بين هذه الجدران ، والمهم ان يتوكأ على عكاز وهو يمر في هكذا دهاليز مظلمة ، والمهم ان يزرع من يجد عنده أي فكرة جديدة في المجتمع .. والمهم ان لا يبحث ابناء النخبة على الاضواء والضجيج صحيح انني متشائم مما يعتور حياتنا العربية اليوم من منظورات وشعارات خاوية من المضامين خصوصا عند جيلنا الذي كان ضحية تكوين صعب في عموم قسمات الامة، الا ان الامل يمكن ان نلمحه في الاجيال القادمة التي ستقل عندها المفارقات مقارنة بما تزدحم به اليوم في حياتنا ، ولابد للحقائق ان تنجلي في المستقبل كي يقف الانسان هناك ويتأمل هذه البنية العربية التي تتجاذبها منظورات وشعارات هشة اوجدتها سلطويات قوى واحزاب وفئات القرن العشرين بعيدا عن منتجات النخب الرائعة في المعرفة والتقدم .
* ولكنك لا تتجرد مما تحمل من رؤية وموقف ..
ـ نعم ، وهذا حق طبيعي لكل انسان له القدرة على التفكير .. وازعم ان لي رؤية معينة للاشياء وللتاريخ وللحياة وللشعر وللفن وللموسيقى وللرواية وللغة وللمعرفة .. اما انني صاحب موقف فهذا ما يمكن ان يحدده غيري عني ، ولكن بكل تأكيد لي استقلاليتي السياسية والفكرية اذ لم انتم الى أي خط سياسي او ايديولوجي ، ولكن هذا لا يمنع ان اكون عاشقا لوطني واعتز بتاريخه برغم كل ما يثار حوله من سجال اذ يكفي ان العراق كان مهدا لنشأة المدينة والزراعة والدولة والقانون والموسيقى والمكتبة والنظام .. اعتز بالعروبة واقدس الاسلام واحترم الاديان واؤمن بالتقدم والديمقراطية وادافع عن حقوق الانسان في كل مكان وأناشد كل الدنيا برفع الحصار عن كل الاهل في العراق الحبيب .
* الى أي حد يؤثر عليك ” الوضع الخاص” للمرحلة التي نحن فيها وأنت تقرأ التاريخ ( في اطارها ) مثل هذه القراءة التي تقوم بها ، وتدعو اليها ؟
ـ انه تأثير كبير لأن ضغوطات المرحلة ثقيلة جدا ، ولم يسبق ابدا ان مرت مجتمعاتنا بمثلها ، وخصوصا وان تأثيرها بالغ التحدي بالنسبة للنخب .. طبيعي هناك من يهرب وهناك من يعجز وهناك من يستسلم وهناك من يستجيب للتحدي . من يقرأ تاريخ الامة في تحدياتها وازماتها سيجد ان سلسلتها سوف لن تنتهي ببساطة متناهية كما يفسر ذلك السياسيون بتفكيرهم الافقي ، اما بالنسبة لي كقارىء متواضع لاطوار التاريخ وتحدياته فسيجد ان مخاضات صعبة ستمر على اجيال هذه الامة في المستقبل فيعمل على تقليل الفجوة من خلال تفكير عمودي ان استطاع ان يستفيد من قراءة الماضي وتوظيفه لمعالجة الحاضر من اجل بناء لبنة يعتقد انها ستفيد ، او يشعل شمعة يؤمن بأنها ستضيىء في بناء المستقبل . ان الاستجابة للتحديات لا تكمن بالوسائل الشائعة اليوم في فكرنا العربي المعاصر والتي اعتقد وربما كنت مخطئا انها ستفيد مستقبلنا للخلاص من مشكلاتنا العربية الصعبة والقاسية خصوصا وان العرب افتقدوا زمنا رائعا في القرن العشرين كان عليهم ان يتقدموا فيه خطوات الى الامام . ان أبرز ما يمكنني الاشارة اليه ضمن ما أدعو اليه في المنهج والرؤية والتفكير

 وهل تجد نفسك ، بعملك هذا ، تسهم اسهاما فاعلا في التاريخ ؟ كيف ؟ وعلى أي نحو يتمّ لك ذلك ؟
ـ مرة اخرى تريدني ان اتحدث عن نفسي وهذا صعب جدا عليّ ! انني لا استطيع القول بأن لي اسهام فاعل في التاريخ .. اتمنى ذلك من صميم القلب .. اتمنى اسوة بغيرى من العرب المعاصرين ان أرى ثمرات ما امكننا زراعته قبل ان نموت خصوصا امنيتي بحصول تغيير في تفكير الجيل القادم نحوالافضل ولكن الامة يكبر حجمها السكاني ومعها تكبر مشكلاتها ومع هذه المشكلات تتفاقم المخاطر الاتية ولكن الامة بقدر زيادة سكانها وتفاقم مشكلاتها تقل فيها يوما بعد آخر فرص التقدم ويقل فيها المفكرون والمبدعون الجادون . في خمسينيات القرن العشرين اوصل العرب ابداعهم الى اعلى مداه ضمن الامكانات المتاحة وقتئذ ، واليوم لا تجد ذلك ! لماذا ؟ لأن ثلاثين سنة من حياتنا الفكرية والابداعية ذهبت هدرا في مسائل لا تجدي نفعا مع الاسف ! وهذا ما عالجته في اكثر من كتاب كمساهمات متواضعة في تقييم تفكيرنا العربي .. فكرنا لم يصل حتى يومنا هذا الى المرتبة العالمية .. وأساليب التفكير في محيطنا العربي محاطة داخليا بالاسيجة الشائكة والاسوار العالية .. فرص الحرية المسؤولة غير متوفرة .. التناقضات تزداد بشكل مفجع .. الانغلاق على المواريث يشكل عقبة كأداء في تربية الاجيال وعتمة المجتمع .. ازدواجية التفكير الاجتماعي ودوغمائية في التفكير السياسي .. الخ ماذا سيخلق هذا كله عند الجيل الجديد ؟ وكيف سيغدو هذا الجيل مؤهلا للتعامل مع العالم في قابل الايام ؟ اما تسألني عن الكيفية في ان يكون الاسهام فاعلا في التاريخ ؟ فتلك مسألة شائكة اخرى في عالم عربي يزداد شرخه يوما بعد اخر ، وتتشظى ثقافته الى دكاكين قطرية مستلبة يوما بعد آخر ، المشكلة ان ثقافتنا عربية وواقعنا غير عربي فكل يغني على هواه .. والمشكلة ان هناك دعاية لهذا وتعتيم على ذاك .. والمشكلة ان يعترف بفكر متحجر او بفكر مستلب او بفكر اجنبي ولا يعترف بما هو حيوي وصادر من تفكير ابناء النخبة .. المشكلة معاصرة وخطيرة الى حد النخاع ! ولكن على أي نحو يعمل العقلاء من المفكرين العرب ؟ وعلى أي نحو يتم أي اسهام فاعل لهم في التاريخ فربما سيكون ذلك في المستقبل البعيد .. وسيذكرهم احفادهم بالذكر الجميل لأنهم قدموا مشروعات اقل ما يقال عنها انها ذات نفع في لمستقبل ان لم يكن لها تأثير في حياتهم .
 هنا أريد أن أسألك في ما كتبت : لقد كتبت عن صلاح الدين .. وفي التاريخ الحديث .. كما كتبت في قضايا وانشغالات فكرية راهنة لها واقعها / بعدها االسياسي . فأين هو الترابط في ما كتبت ؟ وما الفكرة المحركة عندك لهذا كله ؟
ـ تعرف انني متخصص في التاريخ الحديث والمعاصر ولي شغف في قراءات نقدية وادبية وموسوعية وقد نشرت في النقد الادبي وعن الرواية وعن الشعر .. كما ويحركني التاريخ الثقافي بشكل خاص . عن صلاح الدين لم اكتب تاريخا بل كتبت سيناريو تاريخي ازعم انه يصلح لأن يكون فيلما سينمائيا وقد حركني اليه ما وجدته من شغف زعامات عربية معاصرة بصلاح الدين الذي كان قد اتخذ له شعارا يمثله النسر الاحمر وعليه فقد اطلقت على عملي ” النسر الاحمر ” وأنت تجد بأن دولا عربية في القرن العشرين قد اتخذت ذلك النسر شعارات لها ومنها : مصر وسوريا والعراق والاردن وفلسطين وغيرها من البلدان . وعملي مجرد توظيف ادبي لرمز تاريخي في حياتنا المعاصرة . في التاريخ الحديث دفعني التفكير الذي احمله الى صياغة مشروع اسميته بـ ” تكوين العرب الحديث ” وجاء بثلاث مجلدات تدارست فيه اطوار العرب التاريخية على امتداد اربعة قرون وساحاول اكماله عن تكوين العرب المعاصر ودراسة تاريخهم في القرن العشرين ضمن نفس الرؤية والمنهج . اما المشروع الاخر فهو الذي تتضمنه نظرية المجايلة التاريخية في فلسفة التكوين التاريخي والتي طبقتها على المعرفة العربية الاسلامية من خلال تحقيب جديد للتاريخ لا يقوم على أي من التقسيمات المعروفة سياسية كانت ام سلطوية او سلالية .. بل تقوم على اساس الوحدات الكبرى والصغرى فالجيل هو اصغر وحدة تاريخية (30 سنة ) وكل عشرة اجيال تؤلف وحدة كبرى يمثلها عصر تاريخي (300 سنة ) . وعليه ، فان 1500 سنة من حياتنا التاريخية العربية الاسلامية بدءا بـ 599 م وانتهاء بـ 2099 م تحقب بخمسة عصور لكل عصر سماته ومواصفاته ، كما وتحقب بخمسين جيلا لكل جيل سماته ومواصفاته .. ونحن اليوم ابناء الجيل السابع والاربعين .. وسأحاول ان أطبق هذه النظرية على التاريخ البشري كله . وازيدك عزيزي بأن هذا العمل يلقى اليوم رواجا في ثقافات غير عربية مع الاسف . أما بالنسبة لأعمالي الاخرى فتعالج قضايا وانشغالات فكرية راهنة بالفعل ، ومنها كتابي ” العرب والاتراك : الانبعاث والتحديث ” وكتابي ” التحولات العربية ” وكتابي الاخر ” العولمة الجديدة والمجال الحيوي ” وكتابي ” العولمة والمستقبل : استراتيجية تفكير ” .. في النقد السياسي لي كتاب ” تفكيك هيكل ” في نقد محمد حسنين هيكل .. في النقد الفكري كتبت الرؤية المختلفة في نقد الجابري.. وفي النقد التاريخي سانشر كتاب انجزت معظمه عن جمال الدين الافغاني وسيقلب تاريخ هذا الرجل رأسا على عقب ! وكتبت عدة دراسات بالانكليزية في التاريخ الموسوعي .. في تاريخ العراق ، نشرت كتابي عن حصار الموصل وكتابي زعماء وأفندية وكتابي الجديد انتلجينسيا العراق .. وكتبت عن العلاقات بين العراق وايران وبين العراق وتركيا وغيرها . تسألني عن الترابط في ما كتبت ؟ الرابط قوي لأن لولا دراستي للتاريخ وتخصصي بالذات في الحديث والمعاصر والانتقال من دراسة حوادثه وووقائعه الى التفكير في ظواهره وعناصره ما كنت لأصل الى معالجة الحاضر ورؤية المستقبل . أما الفكرة المحركة عندي فهي التي تبلورها ثقافة متجددة تكاد تكون يومية بعض الاحيان .. ولكن عيوني مسمّرة دوما نحو المستقبل وما قراءة التاريخ الا توظيف نقدي مشروع من اجل بناء المستقبل . وأزيدك بأن اهتمامي بالتواريخ الاجتماعية والاقتصادية والثقافية بعيدا عن التواريخ السياسية هو الذي خلق هذه البنية العضوية في التفكير والترابط القوي بين الاعمال .
 هل تواجه / تتمثّل نمطا ، أو تتخذ نموذجا في هذا الذي تكتب ؟
ـ لا اعتقد أبدا ، فقراءاتي كثيرة ومتجددة كما قلت لك مع الايام ، قل لي من هو صاحب نمط متنوع ؟ نعم ربما اعجب بشخصيات فكرية ورجال علم ولكن انماطها تخضع عندي دوما للنقد ، ولا تعجب فحتى اعمالي نفسها اخضعها للنقد دوما قبل او بعد نشرها . ربما تربيتي العلمية والادبية منذ طفولتي في البيت الذي نشأت وما ورثته من اسرتي العلمية في العراق ومن ثم تكويني في ما بعد وخصوصا عندما عشت في كل من بريطانيا والمانيا قد حددا نمط تفكيري ، ولكن لا يمكنني أن أرضى عن شيىء ابدا حتى وان كان هو نفسه الذي اكتبه !
 لو لم تكن مؤرخا او مفكرا .. فماذا كنت تود أن تكون ؟
ـ طيارا مدنيا اذ اعشق الطيران في الاعالي ولكن ليس طيارا عسكريا اقتل النفس البشرية على الارض الطيبة تنفيذا لقرارات لم اكن بنفسي مساهما في صنعها او تلبية لرغبات وشعارات تعلن باسم الوطن والامة والدين !
* ان معظم ما كتبت هو مما يمكن أن نطلق عليه ” الكتابة في بيئة اكاديمية ” . والسؤال هنا هو : ماذا أعطتك هذه ” البيئة ” في مستوى ما حققت من منجز ؟
ـ بصراحة اقول بأنها أخذت مني أكثر مما أعطتني .. وهذا واحد من الواجبات المقدسة المفروضة علينا نحن العرب في مثل هذا العصر .. لقد اعطتني في كل من الجامعات العربية سواء في المشرق ام المغرب العربيين : بعض صداقات اعتز بها لزملاء كرام وطلبة نجباء ، اعطتني قاعات درس ومحاضرات ممتلئة بشباب زرعت عندهم حب المعرفة وتأسيس منهج واستفدت من بعض كتب ومجلات .. ولكنها لم تكن بيئات اكاديمية صرفة كما هي عليه في مجتمعات متقدمة كانت قد افادتني بزاد المعرفة في التخصص والثقافة ! ان بيئات كالتي تسمى بالجامعات العربية هي أشبه بالمدارس العادية تستنزف الزمن ولا تعترف بالاعمال الحيوية وخاوية من اية تقاليد اكاديمية كما آلت اليه لا كما نشأت عليه ، تضيع فيها حقوق الاستاذ ضياعا حقيقيا .. انها لم تعطتني أي شيىء ! ثمة مراكز علمية ومؤسسات بحثية عربية غير اكاديمية اعطتني اكثر بكثير من الجامعات سواء على مستوى الجوائز ام شهادات التقدير .
 ولكن هل وجدت تلك البيئة الاكاديمية في بعض المواقف والحالات ، تحاصرك رؤية وموقفا فكريا ، حين واجهت ـ تحديدا ـ بعض القضايا المثارة راهنا ؟
ـ كلا ، انها لا تستطيع أبدا ، المسألة لا تعتمد على البيئة ( الاكاديمية ) كما تصر على تسميتها ، بل تعتمد على مدى ارتباط تلك ” البيئة ” بالمناخ السياسي الذي يغلف البلد كله ، فبيئات جامعية في بلدان مثل المغرب ولبنان وتونس والاردن والامارات ( والجزائر لاحقا ) هي اكثر انفتاحا وحيوية ومرونة بكل تأكيد من بيئات جامعية في بلدان غير التي ذكرت . وبشكل عام لا تستطيع أي بيئة جامعية عربية الا ان يخضع اعضاؤها من الهيئة التدريسية لمجموعة من القوانين والتعليمات ، ولكن باستطاعتها ليس فقد محاصرة الرؤية وتكبيل الموقف الفكري ، بل باستطاعتها فعل اكثر من ذلك ! وعلى أية حال ، فان الباحث والمفكر مهما كان موقفه الفكري او رؤيته وفلسفته عليه ان يكون ذكيا جدا وحذرا جدا في التعامل مع اولويات وثوابت كل بلد وكل مناخ وكل بيئة .. وان يسعى لخدمة المعرفة قبل أي شيى آخر وعليه ان يوازن بل ويفصل عمله الاكاديمي في المنهج والتدريس عن عمله الفكري في الكتابة والتأليف لأنه في الاول متخصص ومرب ومرشد وصاحب منهج ولكنه في الثاني مفكر وكاتب وربما سياسي ان اراد !
* ما الاشياء التي تجدها تلازمك من هذه ” البيئة الاكاديمية ” ؟ وما الاشياء الاخرى التي تحاول / وتعمل على الانفكاك عنها والتخلص من تأثيراتها ، وأنت منغمر في ما أنت منغمر فيه من كتابة عن الحاضر ؟
ـ يعجب الكثيرون سواء من الزملاء والاصدقاء والطلبة او حتى من القراء الكرام الذين لا أعرفهم كيف ابرمج الزمن الذي اتحرك في خضمه ، وكيف أكتب وانا في غمرة من الاتعاب ؟ والحقيقة ثمة اشياء تشغلني حول أحبائي البعيدين عني وعن عائلتي الصغيرة .. هناك صحة والدتي واحوال اهلي ومصير ابناء وطني في ظل طوق الحصار .. انها مشاغل نفسية لا استسلم لها لأنها ربما تحطمني .. الهموم الاخرى ربما اتعايش معها واحاول ان اجد حلولا لها ، يهمني طلبتي في الدرجة الاساس اذ افترض دوما مع نفسي : هل في قدرتي ان اصنع منهم شيئا في المستقبل لأنهم الامل الوحيد الذي بقي لنا ، فليس لي أي ثقة برجال هذه المرحلة ونسوتها ! واشكر الله ان صداقاتي محدودة لأن العلاقات الاجتماعية تستنزف الوقت بحقوق وواجبات .. وكلما ندرت هذه العلاقات عند رجال الفكر والعلم كلما ابتعد الانسان عن توافه الحديث ومنحدر القال والقيل وما اكثرها في الاوساط العربية خصوصا وان مرحلتنا العربية الحالية تشهد نضوبا فظيعا في عالم الجماعات وطواقم العمل الفاعلة كالتي الفتها الاجيال السابقة سواء في مجالسهم الادبية او في مقاهيهم الثقافية او في جماعاتهم الفنية .. والتي توهجّت في الخمسينيات من القرن العشرين . لي نظام عمل لا استطيع كسره ابدا وقد تأقلمت عائلتي الصغيرة عليه وشغفت به هي الاخرى .. ساعتان من العمل والقراءات الصباحية . قهوة الصباح مع صديق اثير .. ترتيب المحاضرات للطلبة وتصويب اوراقهم وشؤونهم.. ثلاث ساعات من االكتابة اليومية .. سكرتيرة عملية لانجاز ما اريد طباعته وتنظيم البريد .. ساعة مسائية مع الانترنيت او المشاركة بسمنار علمي . في الليل مراجعات ما تم انجازه وست ساعات نوم فقط . يوم واحد راحة فقط في الاسبوع مع عائلتي .
* أخذت بعض كتاباتك ، في المدة الاخيرة ، صورة سجالية : فهناك ” الرد ” وهناك ” الحوار ” مع بعض االافكار . فهل أنت ، في هذا التوجه منك ، تعّبر عن ميل خاص للسجال الفكري ، أم أن ما يعنيك هو اثارة وعي االقارىء بما يثار أمامه من قضايا ، أو يطرح من مشكلات ؟
ـ هل تعتقد انها ولدت في المدة الاخيرة ؟ ربما جاءت بشكل كتب وانت تقصد الجابري او هيكل على وجه التحديد ! اذكر ان اول مقالة نشرت لي عام 1967 وكان عمري 15 سنة كانت مقالة نقدية مثيرة عن قصص نشرتها احدى الاديبات العربيات ولم تنشر المسكينة بعدها شيئا لأنني اكتشفت من الذي كتبها لها !! وفي سنوات الدراسة نشرت مقالة نقدية صارخة ضد احد اساتذتي ، ثم الحقت بها مقالة نقدية كشفت فيها عن بعض السرقات فأزبد وتوعد وبعد سنوات غدا صديقا لي .. وعلى امتداد عشرين سنة نشرت مقالات نقدية سجالية عن كل من : د. علي الوردي و د. عبد المالك مرتاض و د. عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري وعبد المجيد فريد ود. واطسن والمستشرق برنارد لويس .. وغيرهم . أما طبيعة التوجه نحو السجال الفكري فهو موجود عندي منذ طفولتي .. وقد غدا اليوم ضرورة ليس من اجل اثارة الوعي حسب ، بل من اجل تأسيس مدرسة عربية معرفية وليست ايديولوجية في النقد الفكري ، وان يتعود المثقف على الرأي الاخر من اجل ايجاد حلول عملية وجماعية لمشكلاته ومعضلاته .
 وما الفكرة / أو مجموعة الافكار المحركة لك في هذا الاتجاه / التوجّه ؟
ـ لقد كانت الثقافة العربية في قديمها وحديثها من اغنى الثقافات البشرية في السجالات الفكرية والحوارات الفلسفية والمعارك الادبية .. وبقدر ما كان فيها من هنات ، الا انها ظاهرة صحية في حياة الامم وتفكير نخبها . وأعجب ان العرب الذين تميزوا بهذه الظاهرة في ثقافتهم قد غابت عنهم في الخمسين سنة الثانية من القرن العشرين جملة من الحوارات والنقاشات والسجالات والمعارك في الادب والتفكير والثقافة والسياسة بفعل عوامل انتم والقارىء أدرى بها دون تفصيل مني .. علما بأن النصف الاول من القرن العشرين شهد قوة مميزة في هذه الظاهرة .. الا يستدعي ذلك كله من الشجعان والقادرين على البوح في نقد الاخر ، اعلاء صوت الاخر ورأي الاخر ..؟؟
 ماذا يعني لك حين يقال عنك : انك مثقف يقف مع التاريخ ؟
ـ يعني دلالات كثيرة ، منها : ان المثقف اعتبرها كلمة كبيرة جدا وناصية الثقافة عالية جدا ، فاذا كان المختص يفكر افقيا ، واذا كان المفكر يفكر عموديا .. فان المثقف الحقيقي يفكر في كل الاتجاهات بعد ان يجعل نفسه نقطة مركزية . وهذا السؤال يذكرني بحالة دائما ما افكر فيها .. ذلك ان الفكر العربي المعاصر عالجه وأثراه عدد كبير من المفكرين العرب المعاصرين المختصين بالفلسفة وعلم الاجتماع وعلم السياسة ولم اجد من بينهم أي مؤرخ .. وكثيرا ما يعالجوا قضايا تاريخية ولكنها مليئة بالاخطاء لأنهم ليسوا بمؤرخين . علما بأن لا حياة لذلك الفكر من دون تاريخ !
* ان اتجاهك الى الموضوعات المعاصرة ، في التاريخ والفكر ، يطرح السؤال علينا ( وعليك أساسا) : عن مهمة رجل التاريخ ومهمات رجل الفكر ـ وأنت شخصيا تجمع بينهما ـ أين يلتقيان ؟ وأين يفترقان ؟ رؤية وعملا
ـ يلتقيان خارج أطواق التخصصات الضيقة وخارج شرانق التفكير الاحادي .. يلتقيان في موسوعية الاشياء وفلسفة الامور الجماعية ( لا المشتركة تحديدا ) .. يلتقيان عند اصحاب الافق االواسع والعريض مهما تنوعت المرجعيات او تعددت الثقافات .. يلتقيان عند الحدود العليا لمصالح الامة العليا .. يلتقيان في امتلاك قدر مميز من الثقافة العليا للمجتمع .. يلتقيان في العمل كل من موقعه في اثارة الاشكاليات التي يثيرونها من اجل ايجاد حلول للمشكلات المستعصية وأخيرا يلتقيان في اجواء من الحرية فبدونها لا يمكن ان يتحرك التفكير ولا يمكن اثراء الفكر بالمعنى الواسع للكلمة . أما الافتراق بين الاثنين فيحدث عند تقوقع هذا او ذاك في نصيبه من التخصص ولا يستطيعان ان يمشيا الا بظله .. ونحن العرب احوج ما نكون الى رجل التاريخ ( التاريخاني المنفتح وفيلسوف التاريخ لا المؤرخ المتقوقع في ظله ) من اجل اغناء التفكير العربي المعاصر . وفي الوقت نفسه ، استطيع القول ، أن ليس هناك من ينجح من المفكرين بعيدا عن الرؤية والمنهج التاريخيين .
* كما يتجلى في عديد الدراسات التي كتبت ، أنك تنظر الى الحاضر بوصفه جزء من التاريخ ، وأن ما يسوده من عناصر فعالة ومواقف ذات تأثير ، انما تمثل عندك : الطريقة التي يستمر فيها التاريخ .
ـ وهذه حقيقة عندي في تفكيري وانتاجي الفكري والعلمي منطلقا من نظرية فلسفة التكوين التاريخي التي عالجتها بالتفصيل في كتاب ” المجايلة التاريخية ” الذي يمثل عصارة سنوات من العمل والتي طبقت جوانب منها في اعمال اخرى لي نشرت بالعربية والانكليزية . انني لم انظر الى الحاضر بوصفه جزء من التاريخ ، بل اعتبر كل من الحاضر والمستقبل المنظور لمئة سنة قادمة جزء عضويا من سلاسل تاريخية ممتدة عندنا منذ القدم ، وكل سلسلة تأخذ عن الاخرى سواء في التفكير او الممارسات او صنع القرارات او بقايا الموروثات او التقاليد والعادات وحتى في الابداع ووحدة الجماعات والمجتمعات .. الخ ومهما تنوعت اساليب التحديث والاصلاحيات في االقرن التاسع عشر او اساليب الحداثة والمعاصرة العربية منذ بدايات القرن العشرين ، الا أن الارتباط بما تركه فينا كل من بقايا التاريخ والموروث / التراث هو الاكبر سلبا كان ام ايجابا . وبعيدا عن معزوفة التراث والمعاصرة وعن االاساليب التوفيقية / التلفيقية فان كلا من المنهج التشخيصي والمنهج الرؤيوي في نقد الفكر والتاريخ وحياة الحاضر يسعفان هنا في بناء رؤية من نوع ما للمستقبل . ربما خسرنا نحن العرب بعض ايجابيات كانت تعيش في مجتمعاتنا ومنها مثلا : االتعايش الديني والقومي والادبي وحتى الطبقي .. وربما خسرنا الحريات الفردية التي كانت متاحة للتفكير والابداع على حساب قيم طفيلية وسياسية ولكن تبقى المسألة عضوية في ارتباط الماضي بالحاضر والمستقبل . وأتوقع ان اختتام دورة العصر الاخير (300 سنة ) التي بدأت مع مطالع القرن التاسع عشر والتي ستتختم فصولها عند نهايات القرن الحادي والعشرين ستنقل التفكير العربي والثقافة العربية والسياسة العربية وحتى اللغة العربية الى عصر تاريخي جديد عند الاجيال البعيدة في مخاض صعب للغاية ستكرسها تحولات العرب على امتداد هذا القرن .

* كما تبدو لمن يقرأك قراءة متأنية أنك منشغل ، في ما تكتب ، بمشروع ثقافي
ـ هذا السؤال أكبر من أن أجيب عنه بنفسي وأطمح أن يقول ذلك غيري عني ، كل ما استطيع قوله ان انشغالاتي بهموم الامة وحركة الثقافة فيها تستدعي مني ان اعمل لتقديم رؤى وافكار ونقدات وتشخيصات ازعم انها نافعة من اجل معالجة الواقع وبناء المستقبل وعندي الكثير مما يستوجب تحليله وقوله ما حييت وخصوصا ما أتوجه به للاجيال القادمة .
 الا يكفي ذلك في ان يسمّى بمشروع ثقافي ؟
ـ لا حياة لأي أمة من الامم دون ثقافة ، والعرب ليسوا بعاجزين ان يصلوا الى مستوى عالمي فيها بالمشاركة الفعلية لا الرمزية ولكن ثمة سلبيات ومثبطات منعتهم وستمنعهم من ذلك خلال الخمسين سنة القادمة على اقل تقدير .. فما زالت نغمة المركزية هي المسيطرة ، وارتفاع السواتر والحدود بين بلداننا ، وما زالت الامية هي المتفاقمة .. وما زال الغبن واقصاء الاخر هو الساري .. وما زالت الحريات معتقلة .. وقد ازدادت قوى العتمة والانغلاق هيمنة .. مع تفاقم العزلة عن العالم وندرة البعثات الى الخارج واستشراء مخاطر البيئة وصعوبة العيش والسكن .. وكلها كما تعلم عوامل في انتاج التفكير الخاوي او المستنسخ او الماضوي .
* السؤال هنا هو : ما الطريقة / او الاسلوب الذي توظف به ” مفهوم التاريخ ” في كتاباتك هذه ، في الحدود النظرية والعملية معا ؟
ـ أنا لآ اقول بـ ” مفهوم التاريخ / التاريخانية ” التي يدعو لها المفكر المغربي المعروف عبد الله العروي وقد نشرت نقدا لها مع احترامي لمشروعه ، ولكنني أقول بـ ” فلسفة التكوين التاريخي ” الذي أزعم أن له القدرة في توظيف مناهج عديدة وأبرزها المنهج الكمي في المعرفة النظرية التاريخية ، والمنهج الرؤيوي في غرس الوعي التاريخي / المستقبلي بمعرفة اين نحن الان في سلم التاريخ البشري والكوني من خلال قدرتنا على المشاركة فيه من ناحية عملية على مستويات عدة ، منها على سبيل المثال لا الحصر :
1. معرفتنا باوضاعنا العربية الحالية ثقافيا وسياسيا ومدى قدرة تغليب المعرفي على الايديولوجي في تفكيرنا من اجل التخلص من ربقة مواريث سالبة عاشتها اجيال ما سمي بعصر النهضة على امتداد القرنين التاسع عشر والعشرين .
2. معرفتنا بالتحولات التاريخية العالمية الحديثة والتفكير بكيفية اختراق الظواهر التاريخية التي سيطرت علينا على امتداد التاريخ الحديث كالاستعمار والثورة الصناعية والثورة التكنولوجية واليوم ثورة المعلومات باتجاه ظاهرة العولمة التي لابد من ايجاد ثوابت عربية واسلامية فقهية واجتهادية وتشريعية وقانونية وثقافية وسياسية واقتصادية واجتماعية ليس للقضاء عليها فنحن أضعف في الصراع ضدها ، بل للتعامل معها بذكاء وبأقصى درجات التاريخ .
3. معرفتنا بمدى اهمية المجالات الحيوية في منطقتنا العربية والاقليمية التي تمتلك دوائر جيوستراتيجية منذ القدم ازاء المركزية الغربية ولعبة مصالح الامم ، وقدرتنا في الحفاظ على بيئتنا وثرواتنا ومصالحنا المشتركة بايجاد سبل جديدة في الانفتاح الداخلي من خلال أي نوع من التكتل الاقتصادي وفتح الحدود وصناعة القرارات المشتركة والتجسير الثقافي بالتعاون الفعال مع دول العالم الاسلامي . وهذا ما أوضحته بتفصيلات موسعة في كتابي : ” العولمة والمستقبل : استراتيجية تفكير ! ” .

شاهد أيضاً

ملف: إمكانية حكم دكتاتور عادل للعراق.. حوار عراقي مصري بين الدكتور سيّار الجميل والأستاذ عبد الله كمال على روز اليوسف المصرية

مقدمة كتب الصديق الأستاذ عبد الله كمال عضو مجلس الشورى المصري ورئيس تحرير كل من …