سّيار الجميل
الرهانات المستحيلة
العراق وعبد الناصر في مذكرات أمين هويدي
مناقشات نقدية من اجل الكشف عن حقائق تاريخية جديدة
2000
مدخل منهجي : خطورة المذكرات السياسية
قلة من الكتاب والمفكرين العرب الذين دعوا بشكل جاد إلى فهم تاريخنا العربي المعاصر واستيعابه من خلال توثيقه ونقد كتابات عديدة فيه كبديل لما شاع ولم يزل يشاع حتى اليوم من الكتابات الشخصية وخصوصا تلك التي ينشرها رجالات من الساسة العرب الذين كانت لهم أدوارهم في الماضي القريب أو كتابات أولئك الذين يعيدون ويجترون ما كان السابقون قد كتبوه ونشروه . وقلة من مؤرخينا الذين حاولوا تقديم مفاهيم جديدة لما كانوا قد تناولوه بالدراسة والبحث والنقد ، أما الكثرة من مؤرخين وساسة وشخصيات ومسؤولين .. ، فقد غابت عنهم مستلزمات واشتراطات لا حصر لها وخصوصا مسألة التوثيق ، أو بالأحرى ، الأمانة التي لا يعرف القارئ كيف يمكنه أن يتأكد من صحة ما يذاع وما يكتب وما ينشر ! ويمكنني أن افصح قليلا عن بعض المعاينات النقدية الأساسية التي يستوجب إثارتها اليوم من اجل ترسيخ الوعي بأهمية الخصال الموضوعية في تسجيل المذكرات والمواقف والعلاقات في تواريخ وأخبار ومعلومات تعتبر مهمة جدا .
وعليه ، فالمسألة لها جانبها العضوي في أن يكون حاضرنا المعاصر بكل مكوناته – كما هو معروف – من نتاج تاريخنا الحديث الذي ولدت في رحمه معظم تكويناتنا المعاصرة وهنا لابد أن يطرح السؤال التالي : ما هي قدرة مؤرخينا العرب على فهم ذلك من خلال معايشتهم الفكرية والمنهجية لتواريخ متنوعة وصولا إلى معاينتهم بكل المشكلات التاريخية ، أو أسلوب إثارتهم هم أنفسهم للمزيد من الإشكاليات المنهجية والموضوعية .. وهذا أمر مهم يستوجب الالتفات إليه ، فكثيرا ما تنشر مذكرات سياسية وتسجيلات شخصية تمس تواريخ دقيقة متنوعة وخاصة في حياتنا ولها من الخطورة من دون أن يلتفت إليها مؤرخينا العرب الذين غيبوا أنفسهم في المكاتب الأنيقة ووراء الطاولات وليس لهم إلا كتابة الموضوعات الساذجة التي تعبر عن قابلياتهم المحدودة لا أكثر ولا أقل .
المؤرخون العرب : ماذا يفعلون ؟
هذا مثل واحد من عشرات الأمثلة المثيرة حقا والتي تستوجب فضح هؤلاء الذين يعلمون العلوم التاريخية لأولادنا وبناتنا في أروقة الجامعة وهم لا يدركون معاني المنهجية ولا يدركون أي تأسيس لمقاربة في الإشكاليات المعقدة التي عليها كتابات تحليلية ونقدية في التاريخ في أي مكان تنشر أو حتى في أية حقول تتكلم ! إن طغيان الكتابات التاريخية الهشة التي ينشرها البعض من الأكاديميين الجامدين الذين أكل الدهر عليهم وشرب وهم في جامعاتهم لا يأبهون إلى ما ينشر ولا إلى ما يثار اليوم من قضايا تاريخية خطيرة بصدد تواريخنا الحديثة وتاريخنا المعاصر نحن بالذات في القرن العشرين ، وقد باتت تلك القضايا تشكل مفصلا اساسيا لابد من معرفته تماما والاضطلاع بتحري معانيه من خلال فهم جملة من الاسرار التي احاطت به سنوات طوال . إننا نعتقد بأن الأوان قد آن لكي يبدأ الوعي بالبحث عن الحقائق والتأكد منها كيلا تتوهم الأجيال أن كل ما يكتب أو يقال من تواريخ ومعلومات هي صحيحة فتؤخذ الأمور على عواهنها .. وكثيرا ما نجد ان امور كبيرة قد التبست على مجتمع كامل ولعشرات السنين ، فكيف بامور جزئية كان لها اهميتها في احداث المزيد من الانحرافات والتشوهات التاريخية التي نحس اليوم بوطئتها الثقيلة .. وعليه ، فان بناء الوعي لا يتم إلا من خلال آليات فهم جديدة ومسح وثائقي شامل أو نقد في الحجج واقامة الأدلة والبراهين من اجل كتابة صفحات نظيفة متخلصة قدر الإمكان من الشوائب لتاريخ له تعقيداته وخفاياه يستوجب ألا تخفى أي من جوانبه ، ولا تهمش أي من مساحاته الحقيقية تحت دعاوى خاطئة أو مسميات وشعارات ماكرة أو مفبركات واكذوبات لم تعد تنطلي على أصحاب العقول من المؤرخين المتنورين المنتمين للجيل الجديد .
إن قوة بعض الأعمال والكتابات والمفاهيم ، هي التي تدحض جملة من تلك المعلومات المفبركة والأكاذيب المختلقة التي يريدها البعض من اجل تجميل صورهم أو تنميق تواريخهم الشخصية .. وتمر الذهنية العربية في الوقت الراهن في اصعب مراحلها إذ لابد أن تتخلص من الحالات التمجيدية والعاطفية التي ترعاها شعارات أيديولوجية وسياسية معينة .. أو تلك الحالات التقليدية المميتة التي لا تعرف من التاريخ إلا التراتبية والتجميعية للنصوص والأقوال وتقليد الآخرين والانغلاق على ظاهر النص بعيدا عن أي مزاولة نقدية لمعالجة مشكلات معينة أو اختلاقات ومفبركات خاصة أو التعمد في صنع اكذوبات بحد ذاتها بحجة الكشف عن خفايا جديدة .
وهنا ماذا علينا أن نفعل ؟
لابد من تأسيس رؤية منهجية وبعيدة النظر من خلال فلسفة فهم الموضوع بعقلية صافية ومن ثم إثارة الإشكاليات والانتقال منهجيا إلى باطن النص ومحاكمته ليس من خلال طور التركيب المعروفة آلياته ولكن من خلال نزعة التفكيك النقدي والمعرفي ضمن نسق من الحوار القائم على الأمانة والموضوعية وعدم التحيز لأي طرف من الأطراف . إن كل هذه الأمور التي اختزلها وأنا اقدم لأثارة إشكاليات اليوم ، كنت قد فصلت عنها كثيرا في اكثر من كتاب من كتبي وخصوصا تلك التي تناولت فيها النقد التاريخي ومكاشفات قوية لكتابات يعتمد عليها الآلاف من المثقفين والمسؤولين العرب وهي التي يعتورها خلل كبير لا يمكن السكوت عليه أبدا . ولابد من التذكير هنا بتجربتي في كتابة ونشر كتاب ” تفكيك هيكل ” الذي اختلف حوله الناس باختلاف مواقفهم الفكرية والسياسية لا مواقفهم المعرفية والتاريخية .. فمنهم من اعجب بتلك التجربة النقدية من اثارة المكاشفات كونهم يحملون فكرا حرا ، ومنهم من صعق بها وقاطعني لأنه لا يريد اجراء اي حوار حر نظرا لانغلاق تفكيره على يوتوبيا الشعارات القديمة التي لم تتحقق ابدا منذ أكثر من خمسين سنة ! والمسألة ليست شخصية ابدا كما يتوهم البعض ، ويلقي بالتهم جزافا ، اذ يشيع البعض بانني ضد مصر وضد رجالات الرئيس عبد الناصر ! والحقيقة ، هي عكس ذلك تماما اذ ان لمصر مكانة كبرى في صدري ، ولم اكن يوما ضد تاريخ عبد الناصر او ضد رجالاته ، بل اسعى لكشف حقائق تاريخية لا أكثر ولا اقل من اجل اغناء المعرفة العربية ، وليس لي الا انبل الغايات بالبحث عن حقائق الامور كي لا تبقى الاخبار مشوّهة من دون اي رد عليها ، فالساكت عن الحق شيطان أخرس .. ويدرك العدد الكبير من اخواني واصدقائي المصريين ذلك ، فلا حاجة ابدا لتبديل الموضوع الى عنعنات ومهاترات سياسية بليدة او مبارزات شخصية عنترية لا معنى لها !
مصر والعراق مرة أخرى : الادوار الخفية !
يعد موضوع مصر والعراق في القرن العشرين من اخصب الموضوعات المشتركة بين الجانبين ، ولابد من دراستها بشكل تحليلي دقيق ، ولقد قمت قبل اشهر عدة بنشر مقالات في نقد إنتاج ثقافي حديث اختص في تاريخ العلاقات العراقية المصرية على صفحات بعض الصحف العربية نظرا لأنني وجدت في ما قدمه بعض الاخوة من مصر والعراق تحريريا وشفويا ، تاريخيا وسياسيا واعلاميا بحاجة إلى إثارة جادة ورد دقيق ومعالجة نقدية بارعة ومحاكمة نزيهة وتقويم أمين ، وطالبت بالذات من مسؤولين عرب سابقين أن يدلوا بدلوهم وان يفصحوا عن ذكرياتهم وآرائهم وبشكل صريح وحقيقي ، وخصوصا من كان له شأن في العراق منذ الأيام الأولى لولادة النظام الجمهوري فيه العام 1958 ، وعما شهده أولئك الناس في العراق من أحداث ومعلومات تعد اليوم من الاسرار الخفية ، نظرا لاضطراب المواقف ازاءها ، ونحن بأمس الحاجة إلى المعرفة الدقيقة بها وكشف الحقائق المغيبة عنها . ولكنني طالبتهم في الوقت نفسه ، أن يكونوا أمناء صادقين وصرحاء واضحين لأن كل ما مضى وقته وانقضى عهده وذهبت حالاته مع الذاهبين قبل عقود من الزمن قد اصبح في عداد التاريخ . وكان من جملة الذين طالبتهم بالكشف عن معلومات واسرار يمتلكها ولابد من الكشف عنها : كل من الأخ الأستاذ عبد المجيد فريد الذي له حقائقه التي لم يبح بها حتى الآن عن الايام الاولى من العراق الجمهوري وخصوصا في الاشهر الاولى من عهد الزعيم العراقي عبد الكريم قاسم ، وكذلك الأخ الأستاذ أمين هويدي الذي شغل منصب مدير المخابرات العامة بمصر وسفير مصر في العراق على عهد الرئيس العراقي عبد السلام عارف وأيام الرئيس جمال عبد الناصر وغيرهما من المسؤولين المصريين الذين كانت لهم ارتباطاتهم بالعراق الجمهوري للفترة التاريخية 1958- 1968 .
نعم ، لقد طالبت الاخوة من المسؤولين المصريين السابقين أن ينشروا ما يعرفونه من المعلومات الخفية وبشكل جرئ وصريح بكل امانة ووضوح عن دور مصر في أحداث العراق الداخلية وخصوصا على امتداد عشر سنوات من القرن العشرين 1958- 1968 ، أي منذ الأيام الأولى للانقلاب التاريخي الدموي الشهير في يوم 14 يوليو 1958 وعلى امتداد عهود : عبد الكريم قاسم والبعث وعبد السلام عارف وعبد الرحمن عارف ، أي انتهاء بانقلاب 17 يوليو 1968 الذي سمي بالانقلاب الابيض ( انظر : كتابي تفكيك هيكل ، وأيضا مقالاتي في صحف عربية مثل : النهار البيروتية والزمان اللندنية والبيان الاماراتية ) .
مذكرات أمين هويدي : شبيه الشيىء منجذب اليه !
من حسن المصادفات ان حظينا قبل أيام بقراءة ذكريات الأخ أمين هويدي التي نشرتها جريدة البيان الإماراتية الغراء على حلقات ، فوجدت من الضرورة بمكان أن اناقشه فيها لما يخص ما نشره من ذكرياته عن العراق وان اكتب بعض ملاحظاتي النقدية ومكاشفاتي التاريخية ومقارناتي المنهاجية لجزء مما كتبه خصوصا أيام إقامته فيه سفيرا على عهد الرئيس الراحل عبد السلام عارف إبان عقد الستينيات من القرن العشرين ولمدة ثلاث سنوات قضاها معززا مكرما وهو يذكر بأنها كانت من أحلى أيام حياته وقد ذكرها فعلا بالذكر الجميل . ولكن ليكن معلوما لدى القارئ الكريم بأن ما سأكتبه من ملاحظات ونقدات في ادناه ، انما سيتناول بالتحليل والنقد والمساجلة بعض ما سجله الرجل في مذكراته من معلومات مهمة أصبحت اليوم تاريخية في عداد الزمن ، ولابد من مناقشتها باستقلالية تامة بعيدا عن أية ضغوط شخصية أو عواطف قومية أو انتماءات سياسية وايديولوجية من اجل التوصل إلى مقاربة للحقائق التاريخية بدل البقاء في حالة من التهويم والاكاذيب وإيجاد المبررات والمسوغات التي لم تعد تنطلي سذاجتها على جيل اليوم خصوصا ونحن نعلم بأن العراق كانت له علاقاته المتأزمة دوما مع مصر على امتداد القرن العشرين ، ونريدها اليوم وفي المستقبل أن تكون علاقات يسودها الاحترام والتكافؤ والانسجام بين مجتمعين عريقين ومتحضرين لهما شراكتهما التاريخية والثقافية والحضارية بعيدا عن التدخلات السافرة في الشؤون الداخلية التي أضرت كثيرا بشؤوننا العربية خصوصا عندما كانت تجري بها الأهواء البطولية وكما كانت تلهبها العواطف الساخنة في القرن العشرين باسم ” القومية العربية ” ، علما بأن المبادىء القومية بشكل عام كما قرأناها في التاريخ الحديث لم تسمح بحدوث مناورات ومؤامرات وتدخلات سافرة !!
والحق يقال وكلمة لابد من تسجيلها هنا ، أنني كنت ولم أزل اكن احتراما ومحبة وتقديرا كبيرا للأخ الأستاذ أمين هويدي الذي وجدت سواء في شخصيته أم في علاقاته أم في كتاباته ومداخلاته الصحفية والتلفزيونية .. انه من اكثر الناس مقاربة للحقائق وعرض الأمور بصراحة وجدية وجرأة من دون أية مواربات أو مفبركات واكذوبات وعدم اعتراف بالجميل كما يفعل الآخرون . واعتقد انه يدرك ذلك بحيث يذكر في اكثر من مكان وزمان بأن أولئك الذين يخالفونه هم كثر منذ أن كان يتولى المسؤولية في اكثر من منصب أيام الرئيس جمال عبد الناصر .. وما زال بعضهم يناصبه العداء حتى الآن بسبب جهره بالحق . ولابد لنا أيضا أن نعرف بأن الأستاذ هويدي قد تولى الوزارة وكان جمال عبد الناصر يؤثره ويبرّه كثيرا ، أما عمله سفيرا فلابد أن نذكر بأنه لم يكن سفيرا عاديا ، بل كان سفيرا له استثناءاته من نوع خاص في العراق . ولما كنت احتفظ بمعلومات تاريخية وشخصية نادرة عنه غاية في الأهمية أيام وجوده في العراق ومن خلال معرفته العميقة بأصدقاء بغداديين لي كانوا من اعز الناس اليه وانه كان يسرّهم اخباره واسراره ، وانهم كانوا يسرّونه اخبارهم وأسرارهم ، فلابد لي أن أقول ويشهد الله على ذلك بأن الاخ أمين هويدي كان من ضمن نخبة سفراء عرب عاشوا في العراق سنوات قليلة ولكنها مفعمة بالحيوية والنشاط وكان واحدا من أولئك السفراء العرب الذين عشقوا العراق وأحبوا أهله من أعماقه ، اذكر منهم : عبد الهادي التازي من المغرب وعثمان سعدي من الجزائر وغيرهم .
العلاقات العراقية – المصرية : ميراث صعب جدا !
العلاقات المتموجة وتداعياتها المريرة
بادئ ذي بدء ، أقول بأن العلاقات السياسية بين البلدين مصر والعراق مرت خلال عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين بأسوأ الظروف والتعقيدات والمشاكل والحرب الباردة ، وشغل ذلك عهد الرئيس جمال عبد الناصر ، وبالرغم من سوء العلاقات في عقد السبعينيات على عهد الرئيس أنور السادات ، ولكن بوادر التحسن السري بدأت مذ انفجرت الثورة الإيرانية العام 1979 ، إذ أخذت العلاقات العراقية – المصرية تأخذ لها مسارا من نوع آخر وصولا إلى عهد الرئيس محمد حسني مبارك ، وتجسد ذلك في شراكة مصرية عراقية اردنية يمنية تحت اسم ” مجلس التعاون العربي ” الذي مات مباشرة بعد اجتياح العراق للكويت العام 1990 ، وما حدث بعد ذلك من تداعيات .
إن ما يعنينا بالذات هو مغزى التموج والتبدل في العلاقات الثنائية العلنية والخفية على عهد جمال عبد الناصر . لقد مرت العلاقات الثنائية بأزمات ساخنة بين البلدين في العهدين العراقيين الملكي والجمهوري ، فلقد راهن الرئيس عبد الناصر على سقوط النظام الملكي في العراق منذ تسلمّه السلطة وليس بعد العام 1956 كما تثبت الوثائق التي كشفت قبل سنوات ، وكانت هناك حرب باردة سياسية وإعلامية ونجح عبد الناصر في رهانه على أمل أن يقوم نظام حكم عراقي ناصري منسجم مع طموحاته القومية .. ونجح انقلاب عسكري ولحقت به ثورة شعبية يوم 14 تموز / يوليو 1958 ببغداد بقيادة كل من الزعيم الركن عبد الكريم قاسم والعقيد الركن عبد السلام عارف .
وكان يوما عصيبا اثار العالم كله على اخبار العراق اذ جرى تصفية العائلة المالكة بكاملها اذ قتل الملك الشاب فيصل الثاني وجرى سحل كل من الامير عبد الاله ولي العهد ونوري السعيد رئيس الوزراء ورجالات آخرين ومثل بهم وباجسادهم ابشع تمثيل .. ولم نسمع من مصر أية أدانة او استنكار لما حل بخصوم عبد الناصر الملكيين أبدا ، بل جرى العكس اذ هللت اذاعة صوت العرب وكبرت وشمتت بهم شماتة لا ترحم ، وأذكر اننا كنا نستمع اليها والى التعليقات الصارخة والملتهبة ونستمع الى الاناشيد والاغاني الوطنية التي جرى تأليفها وتأديتها خصيصا للثورة العراقية من قبل ابرز الفنانين المصريين .. سمعنا ام كلثوم تغني قصيدة ” بغداد يا قلعة الاسود ” ، وفائدة كامل تغني : ” يا شعب العراق .. ” وتصدح المجموعة بنشيد ” الله اكبر فوق كيد المعتدي ” ، ونشيد ” يا ويل عدو الدار من ثورة الاحرار .. ” !
وكان الرئيس جمال عبد الناصر اول المعترفين بالنظام العسكري الجديد الذي اعلن العراق جمهورية شعبية ، ولكن الشيىء بالشيىء يذكر ، ذلك ان الرئيس عبد الناصر كان قد ارسل للملك فيصل الثاني برقية تهنئة طويلة جدا يبارك له من صميم قلبه قيام الاتحاد الهاشمي بين العراق والاردن قبل عدة اشهر فقط من حدوث الانقلاب في 14 تموز/ يوليو 1958 ، وأجابه ملك العراق ببرقية جوابية مطولة ايضا يشكره فيها على عواطفه . كل ذلك حدث والعلاقات بين الطرفين لم تكن متوترة حسب ، بل كانت ساخنة ومحتدمة .. هكذا ، بدأت حياة العراق التاريخية الجديدة على عهد جمهوري جديد كسب ولاء الملايين من ابناء الشعب العراقي الذين تأملوا فيه خيرا بأن يحقق ما كانوا ينتظرونه منذ زمن بعيد .. ولكنه ويا للاسف لم يتحقق حتى اليوم !
رهان مصر وعهد الثورة العراقية :
وفي الأيام الأولى للانقلاب الدموي العراقي في 14 يوليو 1958 تّعرف جمال عبد الناصر على عبد السلام عارف أحد زعيمي الانقلاب منذ اجتمعا في دمشق اذ وصل وفد الثوار العراقيين الى دمشق برئاسة عارف وتوثقت العلاقة بين عبد الناصر وعارف في العلن كصديقين شخصيين ، يحفظ كل منهما الود للاخر ، ولكن بدا بكل وضوح بأن أحدهما لم يكن يثق بالآخر أبدا ، ويقال ان عبد الناصر استخف بعارف منذ اللقاء الاول ! ومضت الايام والعلاقات بين القاهرة وبغداد مثل العسل .. ولكن بعد اقل من ثلاثة اشهر ، اختلف زعيما الانقلاب العراقي عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف اختلافا أوصلهما إلى حالة الصراع نتيجة ما سمي بمؤامرة عبد الناصر على قاسم ، فاقصي عبد السلام عن السلطة وحوكم وتقرر إعدامه ولكن لم ينفذ الحكم به فبقي مسجونا .. حتى اطيح بالزعيم قاسم ، فجيىء به رئيسا للجمهورية العراقية ، وهو اول رئيس جمهورية في تاريخ العراق ومنحوه رتبة المشير الركن .
نعم، كانت العلاقات بين مصر والعراق قد ساءت بعد مضي اشهر معدودة علي الانقلاب الثوري العراقي العام 1958 وبدأت حرب إعلامية وسياسية بين الطرفين وكانت إذاعة صوت العرب قوة إعلامية جامحة ومؤثرة جدا وقت ذاك في عموم المنطقة، وراهن عبد الناصر مرة أخري علي سقوط نظام قاسم وفشل في رهانه من خلال دعمه حركة انقلابية فاشلة قام بها العقيد الركن عبد الوهاب الشواف في مدينة الموصل شهر اذار (مارس) 1959 وكان قد مّدها جمال عبد الناصر بواسطة عبد الحميد السراج بإذاعة خاصة من سوريا التي كانت تسمي بالإقليم الشمالي من الجمهورية العربية المتحدة التي يتزعمها عبد الناصر وكان نتيجة تلك الحركة من العصيان وتمرد القطعات والصراع الدموي بين الشيوعيين والقوميين أن استبيحت مدينة الموصل وعاشت احلك أيامها السود، اذ سحل الناس في الشوارع وعلقوا علي اعمدة الكهرباء ودام السلب والنهب اياما.
ومر عهد عبد الكريم قاسم والعلاقات سيئة جدا بين الطرفين ولما حدث انقلاب عسكري دموي آخر في العراق يوم 8 شباط (فبراير) 1963 أطيح فيه بحكم الزعيم عبد الكريم قاسم، وكان الانقلاب بعثيا هذه المرة واشد قسوة ودموية من الانقلاب الاول واعدم فيه عبد الكريم قاسم وجماعته. وكان عبد الناصر يراهن علي حدوث أي انقلاب علي أمل ليس لعودة العلاقات بين الطرفين إلي مجاريها، بل لكي تكون بغداد منسجمة جدا مع سياسة الرجل العربية خصوصا.. وتؤكد الوثائق السياسية المصرية التي درسناها وأشرنا اليها في كتابي الموسوم (تفكيك هيكل) بأن عبد الناصر احبط إحباطا شديدا نتيجة مجيء البعثيين للسلطة في العراق العام 1963 وعدم تسلم الناصريين لها وكان الصراع مشتدا بين البعثيين من طرف وبين الفئات القومية الأخري كالناصريين والحركيين.
نعم تنبئنا الرسائل التي كتبها جمال عبد الناصر بخط يده إلي المشير عبد الحكيم عامر، وكان الأخير في رحلة طويلة بأن أمله قد خاب من مجيء البعثيين إلي السلطة في العراق واعدامهم المئات من الشيوعيين العراقيين، وبرغم تنصيبهم عبد السلام عارف رئيسا للجمهورية العراقية من دون أي انتخابات تشريعية، ولأول مرة يتسلم ضابط عراقي مقاليد الرئاسة الجمهورية من دون اية انتخابات ليغدو ذلك عرفا سياسيا في العراق وعلي الأسلوب نفسه الذي جري في مصر بعد العام 1952. فلقد غدا اللواء محمد نجيب رئيسا والبكباشي عبد الناصر نائبا ووزير الداخلية والصاغ صلاح سالم للخارجية والصاغ عبد الحكيم عامر القائد العام للقوات المسلحة ! وانتهى البيان المصري الذي صدر في يونيو 1953 بان الحكومة انتقالية الى حين يقول الشعب كلمته في انتخابات تشريعية بعد ان بدأ بازالة شرعية حكم اسرة محمد علي .. ومنذ خمسين سنة اي منذ العام 1953 لم ينتخب الشعب المصري رئيسه انتخابا تشريعيا .
عبد الناصر لم يكسب الرهان بين عارف والبعثيين
لقد تبين لعدد من المؤرخين بأن عبد الناصر لم يكن مستعدا أبدا للانسجام مع البعثيين في مباحثات الوحدة العربية (يرجي من القراء الكرام مراجعة المجلدين الوثائقيين بمحادثات الوحدة التي جمعت عبد الناصر بالبعثيين السوريين والعراقيين في: محاضر محادثات الوحدة اذار (مارس) ــ نيسان (ابريل) 1963، مجلدان، مقدمة: عبد الوهاب الزنتاني، بيروت: دار المسيرة ، ط 1، 1978) خصوصا وان البعثيين العراقيين قد ناصبوا عبد الناصر العداء أيضا اسوة بالبعثيين السوريين.. ومرة أخري يراهن جمال عبد الناصر علي سقوطهم في العراق، ولكن خاب ظنه مرة أخري في الحركة الانقلابية التي نجح فيها عبد السلام عارف ضد البعثيين وإقصائهم في 18 تشرين الثاني (نوفمبر) 1963 اثر استغلال عارف الانقسام والانشقاق الذي حدث بين البعثيين في واحد من مؤتمراتهم القومية!
اصبح العراق الان بيد عبد السلام عارف فغدا السيد الناهي له، وبالرغم من صداقة عبد الناصر وعبد السلام الشخصية، إلا أن عارفا لم يكن ناصريا ولكنه اعتمد في حكمه بعد اقصائه البعثيين علي عناصر قومية متنوعة كان الناصريون من أقوي تلك المجموعات والعناصر. ولما دخل العراق علي عهد عبد السلام في مجموعة صراعات سياسية وشخصية، فقد راهن عبد الناصر مرة أخري علي الناصريين العراقيين في الوصول إلي السلطة مرة اخري وإزاحة عبد السلام عارف، فجرت محاولة انقلابية من قبل الناصريين ضده قادها عارف عبد الرزاق، وقد فشلت واتهم عبد الناصر بتدبيرها، إذ لا يعقل أن يعمل الناصريون في العراق من دون علم جمال عبد الناصر نفسه وانه حماهم بعد الفشل..
ومضت الأيام، وفجأة يأتي مصرع عبد السلام عارف اذ تسقط طائرة الهيلوكوبتر التي كان يستقلها في ظروف غامضة لم يكشف النقاب عن أسرارها حتي اليوم بدليل هبوب عاصفة علي طائرة الرئيس وحدها ووصول الطائرتين المرافقتين من دون أي أذي!! ويكشف أمين هويدي بأن جمال عبد الناصر كان أول من عرف بسقوط الطائرة فأرسل وفدا علي عجل برئاسة المشير عبد الحكيم عامر ومعه كل من أمين هويدي وعبد المجيد فريد وعبد الحميد السراج. ( ويتعجب هويدي من وجود السراج برفقة الوفد ). ليكون للوفد دور في مستقبل العراق، إذ بدا واضحا من خلال ما كتبه هويدي أن ثمة خطة لمصر عبد الناصر كانت ترمي للإتيان بعارف عبد الرزاق الذي كان لاجئا في مصر رئيسا للبلاد، ولكن آثر الوفد تنصيب عبد الرحمن عارف أخو عبد السلام في حكم البلاد، وأيضا من دون أي انتخابات تشريعية!! في حين بقي عامر يصر على عارف عبد الرزاق !!
وهنا يثار السؤال: ما الذي اعطي لمصر الحق في اجراء كل تلك التحركات الخطيرة؟ يبدو فعلا ان فراغا سياسيا قد حدث نظرا لضعف في المؤسسات العراقية ازاء ما كان يفرضه اسم جمال عبد الناصر وقت ذاك، وخصوصا في الانظمة السياسية العربية التي حدثت فيها انقلابات عسكرية ودخلت في علاقات ايديولوجية وتفاوضية وسياسية من نوع ما مع الرئيس جمال عبد الناصر في مصر حتي ذلك الوقت، وهي: سوريا والعراق واليمن والجزائر.. اما بقية البلدان العربية فلم يعول عبد الناصر علي انظمتها السياسية، اذ كانت تدور رهاناته ازاءها علي ما ينتظر حدوثه من انقلابات وثورات عسكرية فيها واقتلاع الرجعية وعملاء الاستعمار منها.. اذ سيحدث ذلك لاحقا في كل من ليبيا والسودان.
وتستمر الرهانات الناصرية في العراق!
وهنا كما سنري يراهن الرئيس جمال عبد الناصر علي الناصريين العراقيين ويصاب بالفشل الذريع ولكن عمل وفده برئاسة عبد الحكيم عامر المستحيل من اجل أن يأتي عبد الرحمن عارف للسلطة بدلا من مرشحين آخرين عراقيين قويين اولهما مدني وثانيهما عسكري لم يكن عبد الناصر يرتاح إليهما مطلقا، وهما: د. عبد الرحمن البزاز وعبد العزيز العقيلي.. وكانت لكل منهما تجربته السالبة مع عبد الناصر.
أي بمعني أن مصر جمال عبد الناصر راهنت مرة أخري علي ابقاء العراق ضعيفا من خلال ضعف هذا الرئيس الجديد، إذ لم تمض فترة من الزمن حتي يدبر انقلاب ناصري جديد بقيادة عارف عبد الرزاق (من خلال عودته السرية إلي العراق من مصر)، ويفشل هذا الانقلاب الذي احدثه في الموصل وتتهم مصر به أيضا. ومن غريب الصدف، أن اكثر من محاولة انقلابية يقوم بها الناصريون العراقيون خلال حكم الرئيسين العارفيين ولم يصب زعيم تلك المحاولات عارف عبد الرزاق بأذي إذ يصل مصر سالما معافي بعد أن يقبض عليه، ونحن نعرف تماما كيف يصفّي العراقيون حساباتهم السياسية علي طريقتهم الخاصة التي تعرفنا عليها في انقلاباتهم العسكرية منذ أن خلقوا واوجدوا تلك الانقلابات في المنطقة لأول مرة، ويعرف الجميع سجلها الذي له تاريخ دموي متسلسل من العنف اللامحدود بدءا بمؤسس الجيش العراقي الفريق اركان حرب جعفر العسكري وبكر صدقي وصلاح الدين الصباغ وبقية العقداء ومرورا بالملك فيصل الثاني وأركانه الأمير عبد الإله ونوري باشا، ثم بالضباط العسكريين عبد الوهاب الشواف وناظم الطبقجلي ورفعت الحاج سري وجماعتهم في ام الطبول ومن ثم الزعيم عبد الكريم قاسم وبقي الحبل بقي علي الجرار من عسكريين ومدنيين علي امتداد السنين..
نعم إننا نسأل: ما معني أن يبقي عارف عبد الرزاق حيا يرزق، ذلك أن تأثير عبد الناصر كان واضحا جدا في تدخله لصالحه وجماعته الذين سرعان ما تحتضنهم مصر وتمنحهم حق اللجوء السياسي بهروبهم إليها أو تسفيرهم نحوها.. ضمن تنسيق خفي يجري بين العاصمتين وبتدخل سافر من قبل جمال عبد الناصر نفسه!
نقد للكتابات وتوضيح للحقائق :
لقد توضحت لدينا الآن الصورة المختزلة من العلاقات التي سادت بين الطرفين في أجواء سادت فيها الصراعات السياسية ووصلت إلي أقصي مدياتها نتيجة المغالاة في الأيديولوجيات التي كانت قد سيطرت علي الواقع السياسي العربي المتأزم والمشحون بالحرب العربية الباردة وبالشعارات والهتافات والعواطف الساخنة.. إننا نتمني من أولئك الذين يكتبون لنا مذكراتهم السياسية أن يتخلصوا تماما من ترسبات تلك المرحلة الصعبة، ويحاولون ان يكونوا أمناء في نقل الحقائق من دون أي انحيازات، إذ لا يمكن أن نقف بجانب طرف من الأطراف علي حساب طرف آخر، فلم يكن أحدا أبدا معصوما من تلك المثالب. وكنت قد ناديت منذ عهد بعيد أسوة بزملاء مؤرخين وكتاب ومفكرين عرب آخرين سواء من خلال ما نشرته في منهجية البحث التاريخي، أو ما قمت بإلقائه من محاضرات علي طلبتي في الجامعات العربية خصوصا سواء في المشرق ام المغرب العربيين.. نعم ناديت بالاحتراس جدا من المذكرات السياسية الشخصية وان لا يعتمد عليها الباحثون والمؤرخون الجدد وخصوصا طلبتنا في الدراسات التاريخية العليا إلا بعد توثيق أخبارها وتمحيص معلوماتها بدقة شديدة وخصوصا تلك التي يكتبها الزعماء والسياسيون والدبلوماسيون واصحاب المناصب القديمة والذين ينشرونها من دون أي وثائق دامغة او تسجيلات رسمية من اجل التشويش وقسم آخر منهم من اجل التشويه.
إنني أطالب كما كنت أطالب القارئ العربي وغير العربي من قبل بأن من يقرأ تلك المذكرات السياسية، عليه أن لا يصدق كل ما يقرأه منها. وعليه أن يحاول مقارنة ما يقرأه بما كتبه المؤرخون الحياديون علي الاقل، فضلا عن عدم التصديق بكل ما ينشره أصحاب تلك المذكرات إلا بعد التأمل والمقارنة والتوثيق وغربلة المواقف وتفكيك العبارات واختراق النصوص لمعرفة ما يختبئ وراءها من أفكار ونيات ومخططات واسرار.. ذلك لأن تاريخنا العربي العلني المعاصر الذي نعرفه هو غير تواريخنا السرية الخفية التي صنعت اغلب الأحداث والوقائع الخطيرة من وراء الستار أو في الكواليس المجهولة!
دعوني أتوقف الآن لمناقشة بعض المسائل التي نشرها مؤخرا الأخ أمين هويدي في مذكراته، وكنت منتظرا إياها بفارغ الصبر لأن الرجل بقي سفيرا لمصر عبد الناصر في العراق إبان عهد المشير الركن عبد السلام عارف وشهد بأم عينيه تنصيب عبد الرحمن عارف، فهو مستودع أسرار تلك العلاقات بين البلدين ويعرف المزيد من خفاياها.. ونحن أيضا بانتظار مذكرات الأخ عبد المجيد فريد عن تلك العلاقات نفسها، باعتبار أن الرجلين كان قد اعتمد عليهما الرئيس جمال عبد الناصر في العراق الجمهوري، وكنت قد طالبت الأخ عبد المجيد فريد للإجابة علي أسئلة متنوعة ودامغة فرضتها عليه قبل ثلاث سنوات في كتابي ( تفكيك هيكل ) ولم يستجب حتي الآن خصوصا تلك التي تتعلق بالمعلومات التي كتبها محمد حسنين هيكل عن العراق في بعض من كتاباته التسجيلية غير الموثقة والتي ادّعي فيها معلومات منقولة من اوراق جهاز المخابرات المصرية! وهنا اجدد مطالبتي باسم المهتمين العراقيين ان ينشر عبد المجيد فريد مذكراته عن العراق ابان عهد الزعيم عبد الكريم قاسم وعهد عبد السلام عارف .. وليكتب لنا ما يختزنه في ذاكرته وسنتأكد نحن العراقيين من معلوماته مع مطالبتنا له ان يكون منصفا وان يبعد عواطفه السياسية والقومية جانبا ..
مناقشات وتوضيحات
أولا : القوات المصرية في العراق :
ذكر الأخ أمين هويدي تحت عنوان ” أيام في بغداد ” بأن العراق قد طلب وجود قوات عربية في بغداد ، وان الطلب قد جاء على لسان عبد السلام عارف رئيس الجمهورية العراقية ووزير خارجيته صبحي عبد الحميد . وقد قدم إلى جمال عبد الناصر في النصف الأول من ديسمبر 1963 ، أي بعد أن انقلب عبد السلام عارف على حكم البعثيين في 18 نوفمبر 1963 ( جريدة البيان الإماراتية ، العدد 8213 في 13 ديسمبر 2002 ).
وتعليقي هنا على رسالة الأخ هويدي إلى عبد الناصر مقدما له خمسة عوامل من اجل إبعاد القوات المصرية عن شمال العراق وان تتمركز في بغداد ، أو في أي مكان آخر خلاف التمركز في الشمال ! وقبل أن أناقش العوامل الخمسة ، لابد أن أوضح للقراء الكرام أن مسألة تواجد قوات عربية ( أي : مصرية) في العراق قد جاء بناء على المباحثات التي دارت بين العراقيين والمصريين كي تحل قوات مصرية بديلة عن قوات سورية كانت سورية قد أرسلتها إلى العراق أيام حكم البعثيين من اجل المشاركة إلى جانب القوات العراقية في قمع التمرد الكردي الذي كان قد أشعله الزعيم الكردي الملا مصطفى البارزاني ، ولما اختلف نظام الحكم في العراق واصبح عبد السلام عارف هو السيد المطلق للعراق ، سحبت سورية البعثية قواتها من الشمال العراقي ، فجاء الطلب العراقي للقوات المصرية كي تحلّ بديلا عن القوات السورية ، وكان موقف مصر حرجا للغاية ، فهي لا تستطيع رفض الطلب العراقي وإنها فرصة ممتازة لوجود قوات مصرية في العراق ، ولكنها من طرف آخر لم تكن تود التورط في زج قواتها المصرية في أتون حرب عصابات جبلية وفي طبيعة تضاريسية صعبة المراس للغاية تجعل موقف جمال عبد الناصر حرجا أمام الأكراد . ولهذا قدم السفير أمين هويدي أسبابه التي يمكنني تفنيدها على ضوء ما قدمته في أعلاه من سببين رئيسيين هما :
1/ لم يوضح لنا الأخ هويدي الأسباب الحقيقية لطلب العراق قوات مصرية سماها بـ ” العربية ” تتواجد على ارض العراق .. وكما أوضحت قبل قليل ، أن الطلب قد جاء كي تحل القوات المصرية بدلا للسورية من اجل معاونة القوات العراقية في حربها ضد التمردات الكردية – كما كانوا يسمونها – .
2/ لقد اعتبره موضوعا خطيرا في مذكرته التي رفعها للرئيس عبد الناصر ، يقول بأنه أراد أن يضع أمامه النقاط التالية : بأن الرئيس عارف أخطره انه انذر قائد الجبهة الشمالية باحتمال التحاق القوات المصرية وانه يرى بأن تلك القوات ستكون فجأة على الحدود التركية والحدود السورية ( عند زاخو ) مما سيترتب عليه ردود فعل حادة من كلتا الدولتين . وان التعاون بين إيران وتركيا والعراق ما زال قائما ، وان ضباط الارتباط من تركيا وإيران ما زالوا موجودين في بغداد . ومعنى ذلك : أننا سنجد أنفسنا في تعاون غير مباشر مع حلف ” السنتو ” . وان المشكلة الكردية ما زالت على حدتها ، وان الموقف المصري منها – كما يقول هويدي – هو عدم التحيز لأي من الطرفين .. وقد يخرجنا وجود قواتنا بالعراق عن هذه السياسة . واخيرا يقول : ما الموقف لو تغير الوضع في العراق ؟ – وهذا احتمال قائم – فما زال الموقف بعيدا عن الاستقرار . ونظرا لهذه الأسباب ، طلب هويدي باعتذار القاهرة عن إرسال القوات مع إيجاد التبريرات أو أن تتمركز القوات المصرية في بغداد . وبرغم أن القاهرة أخذت – كما يقول هويدي – بنصف وجهة النظر التي طرحها ، إذ أنها وافقت على إرسال قوات مصرية إلى العراق ، ولكنها حصلت على موافقة العراقيين في تمركز تلك القوات في معسكر التاجي الواقع في ضواحي بغداد .
أريد القول أن مثل هذا ” الموضوع ” الخطير لا يمكننا أن نقبل التبريرات التي قدمها لنا الأخ هويدي على أساس أن سوريا وتركيا ستكون لهما ردود فعل إزاء مصر ، علما بأن العلاقات العلنية بين مصر من طرف وبين سوريا وتركيا من طرفين آخرين لم تكن وطيدة أبدا ، بل كان التنافر السياسي قد وصل أقصى مداه وقت ذاك . كما أريد أن أصحح بأن العلاقات التي كانت تربط العراق بكل من إيران وتركيا لم تكن قوية بالشكل الذي يتواجد هناك ضباط ارتباط لكل من البلدين ببغداد ، ولم يكن لبغداد وقت ذاك أي علاقة بحلف السانتو . وعليه ، فان ما سجله الأخ هويدي هو محض افتراء عار عن الصحة ، إذ كيف سيجد المصريون ضباطا ومراتب وجنود في تعاون غير مباشر مع حلف السانتو ؟؟؟ إن مجرد طرح مثل هذا التوهم من قبل الأخ هويدي يجعلنا نعيد التفكير والبحث والتدقيق في صفحات العلاقات بان تلك المرحلة الصعبة ، والتي تجعلنا نقول أن تلفيقا كهذا ما هو إلا وهم من الأوهام وإنني أطالب الأخ هويدي أن يثبت ذلك للجميع وثائقيا ! والحقيقة التي كان على الأخ هويدي تسجيلها بمنتهى الصراحة أن مصر عبد الناصر بكامل ثقلها لم تكن مطمئنة ولا مرتاحة من السياسة العراقية التي لم يكن لحلف السانتو أي دور مباشر أو غير مباشر معها !
ثانيا : رسالة الرئيس جمال عبد الناصر
إن أهم ما يميز الرئيس جمال عبد الناصر – وخصوصا عند أولئك المؤرخين الذين يتدارسون عهده وسيرته ومؤثراته في القرن العشرين – كتابته للرسائل التحريرية المطولة بخط يده ، إذ لا يكتفي بإرسال رسائله شفويا من قبل مندوبيه وسفرائه ، ولقد وجدت من خلال دراستي أدبيات الرئيس جمال عبد الناصر السياسية وتحليلي مضامينها ومقاصدها انه لا يكتفي بكلمات قليلة ، بل انه يمضي في التفاصيل طويلا حتى في إرساله التهاني والتبريكات إلى زملاء له من ملوك ورؤساء وامراء إبان المناسبات. انه هنا يمتلك نفس الخصائص التي نتلمسها في خطبه الطويلة التي اشتهر بها بصوته الرخيم الذي كان يصر على أن يجعله صادحا عبر المايكروفونات يرن في الأسماع من خلال الإذاعات واستخدامه لغة مبسطة جاذبة لكل الجماهير وبالعامية المصرية الجميلة في اغلب الأحيان والتي بدأ يهواها الجميع من خلال استماع الملايين من المواطنين العرب إلى خطبه الطويلة تلك والتي يتنقل بها من موضوع إلى آخر .
لقد أرسل عبد الناصر رسالة مطولة إلى الرئيس عبد السلام عارف من اجل أن تتمركز القوات المصرية في الموصل شمالا أو في الحبانية وسطا ( أي : قريبا من بغداد ) ويطالبه أن لا يزج بتلك القوات في أتون الصراع ضد الأكراد ، إذ يقول : ” وافقت على إرسال القوة على أساس ألا تشترك في أي معارك .. إن اشتراك قواتنا المسلحة في هذه المعركة يتعارض مع خطنا السياسي ، ويتنافى مع مصلحتنا بل والمصلحة العربية عامة ” .
يبدو لأي مؤرخ ومحلل خبير بتلك المرحلة أن الرئيس جمال عبد الناصر كان له هدف خفي في إرسال قوات مصرية إلى العراق ، والتي أرادها أن تكون في منأى عن حركات الشمال في كردستان العراق ، واختار لها أما أن تكون في الموصل أو الحبانية نظرا لخطورة كل من الموقعين . ولنا أن نسأل اذن : لماذا ارسلت مصر تلك القوات إلى العراق ؟ وكان عارف يرمي من وجود القوة المصرية كما حددت رسالة عبد الناصر ذلك : 1) تشكيل ضغط على الأكراد بقبول حل القضية 2) القضاء نهائيا على أي فكرة لدى البعثيين في سوريا والعراق للقيام بعمل مناوئ 3) تشجيع القوميين ( ويقصد بهم : الناصريون ) في سوريا للإطاحة بالبعثيين خصوصا إذا كانت تلك القوة موجودة في الموصل .
إذن كان كل من عبد الناصر وعارف يرميان إلى ابعد من وجود قوة عسكرية مصرية للزج بها في قمع التمردات الكردية – كما كانت الحكومة العراقية تسميها – في الشمال . وتتضح هنا أيضا الأسباب الحقيقية غير المباشرة وراء كل هذه العملية التي أرادت مصر فيها التحكم في عسكرة قواتها اللوجستية في أماكن محددة ومسماة من العراق وبطلب شخصي من قبل عبد الناصر نفسه . وقد وافق العراق على ذلك في بداية العام 1964 . وصلت تلك القوة إلى بغداد وكانت بقيادة المقدم إبراهيم العرابي الذي يعجب بخصاله الاخ هويدي .. ويستطرد هويدي قائلا : ” وقد بذلت محاولات كثيرة – حينما بدأ الصراع داخل الصف القومي – لضم قواتنا إلى هذا الجانب أو ذاك ، إلا أننا التزمنا بمبدأ الحيدة الكاملة ، فقواتنا وجدت لتدعيم نظام قائم وليس لمعاونة فرد أو أفراد ” ( المصدر نفسه ) . وهذا كشف من نوع غريب عن محاولات عراقية – بطبيعة الحال – كثيرة ومتصارعة في صفوف القوميين ، والناصريين في مقدمتهم ضد حكم الرئيس عبد السلام عارف .
ولكن متى تبلور ذلك ؟
لقد تبلور بعد مرور فترة زمنية على حكم عبد السلام عارف ، ولكن إن كانت مصر تعلم بذلك وتستبق الأمور فمعناه أنها كانت تخطط ضد حكم عبد السلام ، وليس من المعقول أن يعمل الناصريون في العراق من دون معرفة الدوائر المصرية بما يعملون ، وخصوصا الدائرة الرئاسية ودائرة المخابرات العامة ! وهل هناك عاقل واحد يقول بعكس ذلك ؟ وأنا بدوري أسأل : هل كان التزام مصر الحياد بين الأطراف استراتيجية ثابتة اعتمدها الرئيس جمال عبد الناصر نفسه أم تكتيك زاوله في الوقوف مع الأقوى حتى تحين ساعة الخلاص من المناوئين السياسيين .. وعليه ، فلقد بقيت تلك القوة متمركزة في العراق طوال سنتي : 1964 – 1965 .
ثالثا : المذكرة المصرية عن التجربة العراقية : أزمة مايو 1965
يحلل الأخ أمين هويدي أوضاع العراق للعام 1965 وأزمة نظام حكم عبد السلام عارف ضمن التغيرات السريعة ، ويعلق بأنه قد تكون تلك الأزمة والظروف الضاغطة عاملا في إجبار مصر تغيير سياستها الحيادية . معنى ذلك أن تساعد مصر أعوانها من الناصريين العراقيين في الانقضاض على السلطة في العراق وهذا ما كان عبد الناصر ينتظره بفارغ الصبر منذ زمن طويل ، وعمل من اجله ضد كل من : نوري السعيد وعبد الكريم قاسم وضد البعثيين .. وها هو ينتظر ما ستسفر عنه الظروف الضاغطة التي صنعها الناصريون العراقيون ضد عبد السلام عارف وهم تحت أسماء وواجهات مختلفة . ومهما قال الأخ هويدي واعاد وكرر بأن مصر كانت حيادية إزاء الشؤون العربية وبالأخص في العراق ، فلا يمكننا أن نطمئن أبدا بدليل كل ما حدث على عهد الرئيسين الأخوين العارفيين . يقول أمين هويدي انه اجتمع بطاقمه في السفارة المصرية ببغداد واقترحوا على القاهرة سحب تلك القوة العسكرية لاسباب أوضحها هويدي في مذكرة رفعها إلى الرئيس عبد الناصر . وهنا دعوني أتوقف قليلا عند مضمون تلك المذكرة من اجل تحليلها ( كما أرجو من الاخ هويدي أن يطلعنا على نص اصل هذه المذكرة إن طبع مذكراته في كتاب مستقبلا ، مع رجائي من القراء الكرام ومن زملائي المعنيين والمؤرخين الكشف عن أصول هذه المذكرة وثائقيا في القاهرة نظرا لأنها تتضمن معلومات مهمة جدا عن أوضاع العراق خلال العام 1965 ) ، فان صح وجود الوثيقة بكل ما ضمنه الأخ هويدي هنا فسيكون كلامه صحيحا لا غبار عليه من قبل العراقيين خاصة لأنهم أصحاب شأن تلك الأحداث ، أما إن لم يثبت وجود اصل وصحة المعلومات فيها ، فإنني اشكك في كل ما سجله الأخ هويدي من معلومات ، واعتبر كل ما كتبه بمثابة تبريرات لسياسات خاطئة جنت على مستقبلنا نحن العرب ليس في العراق وحده ، بل في مصر أيضا وبقية الأرجاء من وطننا العربي الكبير !
إن أهم ما تضمنته المذكرة من معلومات :
1/ انشقاق الصف القومي الذي كان يتولى السلطة في العراق بعد الأحداث الأخيرة قد زاد من احتمال قيام الأطراف المختلفة بالتخلص من بعضها البعض .. وأسأل هنا من باب تحصيل حاصل : إذا كان عبد السلام عارف قد تخلص من حكم البعثيين في حركته السريعة ( وليست الحاسمة ضدهم بتدخل لحماية زعمائهم من قبل الرئيس جمال عبد الناصر نفسه ) يوم 18 نوفمبر 1963 وشكّل حكومته وقاد السلطة .. فممن كان يتكون الصف القومي الذي كان يشارك بفعالية في السلطة سواء من المدنيين أو العسكريين ؟ اللهم إلا إذا كان الأخ هويدي يرى بأن عبد السلام عارف لم يستسلم لارادة الناصريين علما بأن وزارته وأركان دولته قد ضمت العديد منهم ، وان أجهزة حساسة في الدولة العراقية كان يتولاها عدد من المسؤولين الناصريين أو من ذوي الميول الناصرية القوية !
2/ وضع الأخ أمين هويدي أمام زعيمه عبد الناصر ثلاثة احتمالات يمكن أن تحدث في المستقبل القريب . ويبدو هنا رهان القاهرة على الجماعات الناصرية في العراق واضحا ، وهي :
أولا : احتمال تخلص عبد السلام عارف من جماعة صبحي عبد الحميد مدنيين وعسكريين .
ثانيا : احتمال التركيز من قبل الرئيس عبد السلام عارف للتخلص من عارف عبد الرزاق !
ثالثا : احتمال قيام عارف عبد الرزاق بمواصلة سعيه للتخلص من عبد السلام عارف مهما كانت النتائج !
وهنا أتساءل : هل يعقل أن يتخلص زعيم دولة من أحد الذين يشك في ولائهم اليه فينصبه رئيسا للوزراء ؟؟ أتساءل أيضا : كيف قرأ الاخ امين هويدي المستقبل ليضع هذا الاحتمال أمام عبد الناصر في مذكرة يقول انه ضمنها ذلك قبل حدوث انقلاب عارف عبد الرزاق على رئيسه المشير الركن عبد السلام ؟؟ . يبدو واضحا للعيان ولكل من يفكر ويتأمل في النصوص أن رهان القاهرة كان على الاحتمال الثالث الذي سيبدأ العمل به ، وستتهم القاهرة بتنفيذه . وهذا ما سيفرد له الأخ هويدي اهتماما كبيرا به في الدفاع عن تدخل سافر من قبل جمال عبد الناصر في الشأن العراقي ودورها في أزمة مايو 1965 ، وكأن الأخ هويدي قد كتب مذكراته هذه التي جاء لينشرها اليوم من اجل الرد على هذه التهمة ، ولكنني اعتقد انه لم يوفق أبدا في مهمته بقدر ما كان عليه أن يفتح أوراقه كاملة ويتحدث بكل صراحة وجرأة عن حقيقة علاقة مصر وقت ذاك بأحداث عقد الستينيات التي شهدها هو نفسه في العراق . وانني اقول ، بأنه مهما حاول ان يغطي على جملة الاتهامات ، فالحقيقة ساطعة سطوع الشمس ، ولا يمكن لأحد ان يحجبها ابدا .
رابعا : تحليل المذكرة الدبلوماسية :
ونبقى مع ” المذكرة ” التي أعيد واكرر حاجتنا الماسة اليها نحن ، كمؤرخين ومحللين وقراء مختصين مهتمين من كلا الطرفين عراقيين ومصريين ليسوا بسياسيين متنافرين ليس لهم إلا مقاربة الحقيقة أن يطلعوا على مضامين المذكرات الدبلوماسية السرية الأصلية التي كان ترسلها سفارة القاهرة ببغداد أيام حكم كل من الرئيسين الأخوين العارفيين . أقول ، بأن صاحب المذكرة الأخ هويدي يحاول أن يقدم لنا عوامل أخرى يفترض من عنده حدوثها ، مثل : ” اشتباكات قوات عراقية بقواتنا أو تحرش تجمعات شعبية بقواتنا .. ” وكأنه يريد القول أن تلك القوات المصرية لم يعد مرغوبا بها ليس من قبل الجيش العراقي بل من قبل الشعب العراقي نفسه . ويعلق قائلا : ” وبدون شك فان النتائج المترتبة على ذلك لن تكون في صالحنا سواء نجحت قواتنا في السيطرة على الموقف أو العكس ” ( جريدة البيان ، العدد 8214 ، في 14/ 12 / 2002 ) . وهنا يعطينا ويمنحنا هذا ” النص ” انطباعين اثنين : أولاهما أن القوة المصرية هي من المكانة والقوة والحجم بحيث تشكل قوة معادلة للقوات العراقية في العراق نفسه ، وهذا لا يمكن تخيله أو تصديقه طبعا ، فهي قوة رمزية إزاء الجيش العراقي . وثانيهما أن مصر كانت فعلا تعّول على تلك القوة في السيطرة على الموقف لصالحها طبعا ، وهذا ما فات تقديره ربما حتى على الزعماء العراقيين . لا ادري !
ويستطرد الأخ هويدي قائلا في مذكرته : ” إذ ستستغلها كافة الفئات المعادية – وما أكثرها – أسوأ استغلال ، بل ستفقدنا تأييد الكثيرين من العناصر القومية التي أصبحت تجاهر بنقدها للرئيس عارف واعلان سخطها عليه ” ( المصدر نفسه ) !! وكنت أود من الأخ هويدي أن يكون واضحا تمام الوضوح هنا في النص الذي كتبه ، لأنه أمانة تاريخية ، وقد أصبحت الأحداث وشخوصها والناس والظروف كلها في عداد التاريخ ، فليدعني أسأله : من هي تلك الفئات المعادية لمصر في العراق ؟ لابد أن نحددها لكي يعرفها القارئ الكريم ؟ هل تقصد بها جماعات وأحزاب الشيوعيين أم البعثييين أم الرجعيين أم الحركيين أم العارفيين أم العسكريين أم الاكراد البارتيين ام غيرهم .. ؟؟ بدليل قولك ( وما أكثرها ) في العراق . سؤالي الآخر : من هي العناصر القومية التي ستفقدون تأييدها لكم في العراق ؟ لابد أن نقول إنها الجماعات الناصرية العراقية التي كانت تراهن على تسلم السلطة من يد الرئيس عبد السلام عارف بأي ثمن كان ، وربما تآلف الحركيون معهم ، ولكنني اشك في ذلك بدليل انشقاقات الناصريين العراقيين حتى على أنفسهم !
وهنا أستطيع أن أقارن وضع الناصريين في العراق أيام حكم عبد السلام عارف 1963 – 1966 بوضع الشيوعيين في العراق أيام حكم عبد الكريم قاسم 1958 – 1963.. فكل من الزعيمين العسكريين اعتمد على مؤيدين مدنيين وحزبيين له من هذا الطرف أو ذاك .. وكلا من التيارين كان يعمل في وقته من خلال نفوذه في السلطة على تقويض زعامة السلطة العسكرية العليا من اجل تسلمّها .. ولكن لم يفلح الاثنان على كلا العهدين برغم دعم الاتحاد السوفييتي للشيوعيين العراقيين وبرغم دعم الجمهورية العربية المتحدة للناصريين العراقيين .. وكما انقسم الشيوعيون العراقيون على أنفسهم إلى اكثر من تيار وحزب ، انقسم الناصريون العراقيون على أنفسهم أيضا إلى اكثر من تيار وجماعة !
خامسا : مصر والعراق : مقاربة للحقائق بعيدا عن تصفية الحسابات
لقد قدم الأخ أمين هويدي آراؤه التي أظنها صائبة في الرئيس العراقي عبد السلام عارف ، كما قدم ملخصا لوضعية نظام الحكم وظروفه عهد ذاك .. ولكن لا ادري هل كان هذا رأيه في الرجل خلال أيام العمل معه سفيرا لبلاده عنده ، أم جاء رأيه متبلورا بعد مضي هذه السنوات الطوال من تجارب السفير هويدي السياسية . يقول الرجل في عبد السلام عارف : ” كانت التيارات السياسية في العراق جارفة وعاتية ، والرجل لم يعمق جذوره بعد في دهاليز السلطة ودروبها . والقتال مع الأكراد في الشمال كان لا يزال مستعرا يمتص ويشتت طاقة الحكومة المركزية ويشكل استنزافا للجهود والأموال ، وإيران تحرك أنصارها في بعض أوساط الشيعة في الجنوب وتغذي الأكراد في الشمال ، وحكم البعث في سوريا يتآمر بإصرار على الحكم في بغداد في محاولات متتابعة لعله ينجح في إسقاطه ” ( البيان ، العدد نفسه ) .
ويمكنني أن أضيف ما كان السفير هويدي قد تناسى تسجيله : الانشقاقات في التيار القومي وولادة جماعات وكتل من العسكريين والمدنيين في الداخل ، وأيضا ، فشل السياسة الاقتصادية التي جازفت بإصدار القرارات الاشتراكية في العراق على النسق المصري تماما من دون معرفة أخطار ذلك ومن دون معرفة اختلاف الأوضاع الاقتصادية في العراق عن مصر .. وقد سببت تلك القرارات والتطبيقات أزمة سياسية حادة في كل من الدولة والمجتمع ، فقادت إلى تباينات واسعة في التيار القومي ، أو بالأحرى بين الناصريين من طرف وبين القوى القومية الأخرى ! ولا ادري لماذا استثنى الأخ هويدي دور مصر في الأحداث العراقية السياسية والاقتصادية .. وصولا إلى قيام محاولة انقلابية فاشلة سيقوم بها الناصريون كما سيأتي تحليل ذلك بعد قليل .
المهم أن الأخ هويدي يبرر دور مصر وسياستها في العراق بقوله : ” كان الموقف صعبا رهيبا يحتاج إلى إسناد ، والقاهرة بدورها تنظر إلى أمنها في إطار سياسة عربية متكاملة بوجود نظام صديق في العراق يؤيد موقفها في الساحة العربية ويقفل بابا يمكن أن يفتح وهي مشغولة في مسرح اليمن . ويحد من عداوة النظام البعثي في سوريا ، ويجنب حركة القومية العربية الانحسار . وبهذا كان التجاوب مع طلب العراق أمرا تقتضيه ظروف الجمهورية العربية المتحدة .. ” ( البيان ، العدد نفسه ) . وهنا لا ادري ماذا يقصد الأخ هويدي بالنظام الصديق لمصر في العراق : هل هو نظام عبد السلام عارف نفسه الذي بدا واضحا انه لا يؤيد عبد الناصر في سياسته ، أم نظام سياسي عراقي ناصري يؤمن موقف مصر وحدويا ( سياسيا واقتصاديا ) في الساحة العربية والدولية ؟ واعتقد أن أي عاقل سوف لا يقبل بكل التبريرات التي تقول بحيادية مصر إزاء القضايا العربية على عهد عبد الناصر ! وكنت أود من الأخ هويدي أن يضع النقاط فوق الحروف ، وخصوصا بالنسبة للأجيال والمستقبل وللمؤرخين والدارسين لا بالنسبة للساسة أو المتحزبين من اجل إرضاء العواطف وكأننا لا نعرف مكانة مصر وقت ذاك وادوارها في كل مكان من الأرض العربية . نريد أن نعرف موقف مصر الحقيقي إزاء أزمة عبد السلام عارف والتيار الناصري في العراق !
سادسا : ما أشجع السياسي عندما يقول الحقيقة للأجيال والتاريخ ؟
إنني افهم جيدا واعتقد ان القراء الكرام جميعا يدركون أيضا لماذا لا يستطيع الأخ امين هويدي أن يقدم التبريرات ويخالف حقائق الأمور بعض الأحيان .. انه يفعل ذلك أساسا كونه جزء من نظام سياسي ناصري لا يريد أي أحد أن يكيل ضده الاتهامات .. وأنا بدوري أقول : ما أشجع السياسي عندما يقول الحقيقة ويعترف بها ، والرئيس جمال عبد الناصر نفسه كان قد اعترف بالخطأ بعد الهزيمة العام 1967 وتنازل عن السلطة مسجلا موقفا رائعا للتاريخ . وعليه ، فلابد أن تتعلم طواقم عبد الناصر من معلمها درسا وتكتب الحقائق مهما كانت ! وعليه ، فإنني اختلف والأخ هويدي عندما يقول : ” لم تنس القاهرة ما لاقته من نظام الحكم المعادي في العراق أيام نوري السعيد وعبد الكريم قاسم ، فلم تنس أن الحكم المعادي في بغداد اجبرها على خوض معركة ضد حلف بغداد . وكان المحرك والمؤيد للعدوان الثلاثي على مصر عام 1956 بعد تأميم قناة السويس ، ولم تنس أن الحكم المعادي في بغداد اجبرها على أن تواجه موقفا صعبا بعد حدوث الانفصال إذ أن حكم عبد الكريم قاسم ساعد الانفصال وأيده بل اسهم في التخطيط لحدوثه .. ” ( البيان ، العدد نفسه ) .
أقول للأخ هويدي : لابد أن نتقي الله في الذي نطلقه من أحكام تاريخية كبيرة ! ولابد أن نتذكر كلمة حق لابد أن تقال في رجال مضوا إلى دار الحق ! ولابد أن نتثبت مما نقول ونكتب ونسجل وننشر على الناس ! ولابد لنا ان لم نعرف الحقائق والأحداث ، أن نتعمق في قراءة التواريخ ومواقف الشخوص واوضاع الدول .. ومن ثم نحاول أن نطلق الأحكام من دون أن نجازف هكذا وبسهولة بتشويه الحقائق وكأن الأمر سهلا كالذي ألفناه جائرا سابقا في المانشيتات الصحفية والحروب الإعلامية والبيانات السياسية وهياج الإذاعات الكاذبة ! أقول هذا وأنا اسأل الأخ هويدي : إذن هي تصفية حسابات قديمة أم تغطية الشمس بغربال ؟؟ لابد أن نكون واثقين ومتأكدين من إطلاق التهم السريعة الجاهزة وارضاء لمن ؟ لقد مضى الزعماء القدماء إلى دار الخلود .. متأكدين أن نكون وخصوصا في مسائل تاريخية حساسة مضى عليها قرابة نصف قرن من الزمن .. علينا أن لا نسقط كل التبعات السياسية في الماضي ونصوغها في أحكام تاريخية قاطعة اليوم لكي نربي أولادنا على معلومات مشوهة . ربما كنت مؤيدا لك في العديد من ذاك الذي قدمته من معلومات ، ولكن اختلف معك كثيرا في النتائج التي كتبتها .. ولا أريد أن ابرر أبدا ما فعلته الأنظمة السياسية العربية قاطبة ليس في العراق وحده ، بل في كل أرجاء الوطن العربي الكبير في القرن العشرين .
ولكن إذا كنا ندين أنظمة الحكم السياسية السابقة في العراق باعتبارها كانت ( معادية ) لمصر على عهدي الزعيمين نوري باشا وعبد الكريم قاسم ، فالنظام في مصر لم يكن أقل عداء لهما ، والمؤرخ الحصيف الذي لا يتأثر بعواطفه يدرك من الذي أثار العداء ومن الذي أذكى الحروب العربية الباردة ! ومن هو ذاك الذي فتح النار واشعلها ؟ ان الوثائق التاريخية المتنوعة تشير بمعلوماتها إلى أجوبة صريحة .. وقبل أن نشرع بإدانة نوري السعيد كونه اجبر مصر على خوض معركة ضد حلف بغداد ، علينا أن ندرك لماذا اتبع العراق سياسة مستقلة عن مصر والتي أثبتت الأيام مدى نجاحها أو فشلها ! وقد عرف الجميع بعد هذه السنين ما هي ظروف العراق الداخلية والإقليمية قبل ظروفه العربية عندما اختار له سياسة عاداها من لم يدرك طبيعة العراق الجغرافية ومصالحه السكانية والإقليمية والدولية ! وكان العدوان الثلاثي على مصر العام 1956 قد سببه تأميم عبد الناصر لقناة السويس . فما علاقة العراق بالعدوان ؟ . أما مصر من طرف آخر لا تنس أن الحكم ( المعادي ) في بغداد على عهد عبد الكريم قاسم قد اجبرها على أن تواجه موقفا صعبا بعد حدوث الانفصال بينها وبين سوريا .. فإنني اسأل : ما دخل العراق في ذلك وان عبد الكريم قاسم كان مشغولا إلى حد أذنيه بمشاكل العراق الداخلية .. إنني كمؤرخ متواضع أتحدى من يأتيني بوثيقة رسمية واحدة تثبت ضلوع عبد الكريم قاسم في حركة الانفصال الذي حدث بين سوريا عن مصر .. علما بأنني لم اكن مؤيدا يوما لا لعبد الكريم قاسم ولا لغيره من حكام العراق في سياساتهم التي اتبعوها في حكم العراق المعاصر ، ولكن لابد أن يدافع المرء عن الحق ويقول قولته ، خصوصا وانني ابن العراق عشت ظروفه المتنوعة في العهد الجمهوري وقد سمح لي تخصصي ان اقرأ جملة هائلة من ادبياته التاريخية ووثائقه السياسية .
وليكن معلوما للتاريخ والأجيال بأن قاسما ليس له أي ضلع في عملية الانفصال بسوريا ولم يسهم في التخطيط لحدوثه – كما ذكر الأخ هويدي – ، فلماذا يتم إلقاء التهم جزافا ؟ وان هذا آخر ما كنت أتخيل قراءته وسماعه ! ولنسأل الأخ هويدي : بربك الكريم من اسهم وساعد وخطط وتآمر على نوري السعيد وعبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف وأخيه عبد الرحمن ؟ من الذي دعم وساعد عدد من الانقلابيين العسكريين أمثال : عبد الوهاب الشواف وعارف عبد الرزاق وغيرهما ؟ هل سمعنا أو قرأنا في يوم من الأيام أن نوري باشا أو عبد الكريم قاسم أو عبد السلام عارف قد خططوا لإحداث انقلاب عسكري أو دعم تآمر مدني في مصر ضد الرئيس جمال عبد الناصر ؟؟
علينا أن نترفع قليلا عن إلقاء التهم جزافا ، وليكن زعماؤنا السابقين مهما كانت توجهاتهم وأنظمة حكمهم ومهما كانت إيجابياتهم وسلبياتهم ونحن نقرأها ونحللها ونطلق الأحكام عليها بعيدة عن الهوس العاطفي أو السياسي أو الأيديولوجي .. علينا أن نكون حياديين وان نعطي لكل ذي حق حقه في التاريخ سواء أحببنا هذا القائد أم كرهنا ذلك الزعيم !
سابعا : المواقف التي لم ينساها الرجل !
ارجع لأقول برغم كل نقداتي في أعلاه ، فالحق يقال بأن الأخ أمين هويدي رجل يذكر المعروف في أهله وليس كغيره من الذين يتكتمون على الحقائق وجميل الأعمال . إنني أشيد به لما ذكره في مذكراته من فضل للعراق على مصر عندما احتاجت إلى رصيد من العملة الصعبة ، وبادر العراق لإنقاذ الشقيقة الكبرى . ويقول بأنه فاتح محافظ البنك المركزي العراقي وقت ذاك وهو د. خير الدين حسيب وكان واحد من ابرز الاقتصاديين الناصريين ، فاتم الأخير الإجراءات بعد أيام قليلة بدفع الملايين من العملة الصعبة لمصر .. ولكن هويدي يستطرد قائلا بأن العراق لم يطالب برد هذا المبلغ إلا بعد أن توّلى شكري صالح زكي وزارة المالية في وزارة د. عبد الرحمن البزاز ، اذ جعل إلغاء هذا الاتفاق من الموضوعات ذات الأسبقية الخاصة . وهنا يتوقف الأخ هويدي ويكتفي من دون أن يشرح للقارئ الأسباب الحقيقية التي حدت بالعراق أن يجعل ذلك الموضوع له أولويته ، علما بأن العراق لم يستوف ما طالب به أبدا !
أقول : بأن العراق لم يبخل بالمال وبغيره لا على شقيقته الكبرى ولا على غيرها من أشقائه وشقيقاته ، ولكن لابد من توضيح التالي : أولا ، لا يجوز أبدا لأي مسؤول في أي دولة أن يتصّرف بأموالها من دون استئذان من الشعب عبر ممثليه ! ولكن هذا لم يحدث أبدا على أيام الحكم الجمهوري في العراق . ثانيا ، واقول أيضا بأن العراق لم يطالب مصر بأمواله ويجعلها من أولوياته إلا بعد أن أدرك عبد السلام عارف وطاقمه الجديد برئاسة د. عبد الرحمن البزاز بأن مصر كانت تقف وراء انقلاب عارف عبد الرزاق الفاشل ! وعليه ، فيا أخي هويدي لا يمكننا أن نلقى بالتهمة جزافا على البزاز وشكري صالح زكي انهما أرادا استرداد الأموال من دون أن يأذن لهما الرئيس عبد السلام عارف الذي شعر بأنه خدع خدعة كبرى لا يمكن نسيانها ، فهو ينقذ مصر بتخليصها من أزمة مالية حادة ، ومصر تحيك ضد نظام الحكم في العراق انقلابا لتأتي بالناصريين إلى السلطة العليا ؟ ومن دون شك ، كان رأي البزاز وجماعته ضد الإجراءات الاقتصادية والاشتراكية خصوصا على الطريقة المصرية والتي كان وراء هندستها د. خير الدين حسيب ، فكان هناك خلاف جذري حاد بين الطرفين لا أريد أن ادخل في تحليله الآن ، فلكل من الطرفين تبريراته .. ولم ينس الرئيس جمال عبد الناصر موقف د. عبد الرحمن البزاز وجماعته كي يرد الصاع صاعين له اثر مصرع عبد السلام عارف – كما سنرى لاحقا – . ونرجع إلى مذكرات الأخ هويدي لنرى الرجل يذكر بأن مساعدات العراق على عهد عبد السلام عارف لم تكن مالية فقط ، بل يقول بأن حكومة طاهر يحي في العراق بادرت لإرسال 50 ألف طن من القمح إلى القاهرة وبسرعة بالغة لأن القاهرة كانت بحاجة ماسة إلى الخبز من دون انتظار الموافقة على الأسعار ناهيكم عن فتح أبواب العراق أمام تسويق منتجات مصر المختلفة ومنها العربات والأتوبيسات وغيرها .
ثامنا : الانشقاقات العراقية من كان وراءها ؟
والانقلاب الناصري لماذا كان مبتورا وليس فاشلا ؟
يحلل الاخ هويدي طبيعة الانشقاقات السياسية التي ولدت في العراق من قبل التيارات القومية والتي أدت الى هزات متعددة ، واتساع هوة الخلافات والتي انتهت بأزمة تهدد كيان الحكم . ويعلق قائلا : ” الى هذا الحد هانت امور الدولة وتهاوت حدود المسؤولية ، وتضاءلت مصلحة الشعب امام المصلحة الشخصية ” ( البيان ، العدد 8214 ، في 14/12/2002) وتدهور الوضع وبذل عبد الناصر – كما يذكر هويدي – محاولات عدة لتصفية الخلافات بين عبد السلام عارف وزملائه .. ولكن لم يذكر لنا هويدي اسباب تلك الهزات والخلافات المحتدمة التي وصفها لنا وزاد من تخوفاته منها .. وانه لم يقرنها لنا بوثائق رسمية يمكننا التأكد من حدوثها وبأي كيفية كانت تدخلات عبد الناصر من اجل حلها ؟ ومع من وقف ؟ هل وقف مع عبد السلام عارف ام وقف مع جماعاته من القوميين الناصريين ؟ صحيح ان ثمة ازمات داخلية كان يعاني منها نظام الحكم على عهد عبد السلام عارف ، ولكن لم تكن لكتلة او كتلتين تأثيرهما البالغ . وكان على الاخ هويدي ان يعلمنا عن طبيعة المحاولات التي بذلها عبد الناصر لرأب الصدع في العراق وبأية وسائط هل من خلال سفارته والسيد هويدي ام كانت مع العراقيين مباشرة ؟ هل كانت مع المدنيين ام مع العسكريين ايضا ؟
ان مجيء عارف عبد الرزاق لرئاسة الوزارة في العراق لم تكن وراءه اسباب قوية كتلك التي وصفها هويدي بانهيار السلطة وانشقاق الصف القومي وازمة رئاسة واحتدام قوى وحرص عبد السلام على تفتيت الكتل ! وهل هناك من كتل تنازعه السلطة في ذلك الوقت سوى الجماعات الناصرية ؟ ان عبد السلام عارف لم يكن من الغباء بمكان لو كانت الظروف محتدمة الى الدرجة التي تجعله يأتي بعارف عبد الرزاق على رأس الوزارة ويسلمه السلطة التنفيذية في البلاد وهو يعرف حق المعرفة من يكون عارف عبد الرزاق ، انه ناصري الهوى والارتباطات ؟ لقد كانت ثقة عبد السلام عارف حتى ذلك الوقت بمصر وبعبد الناصر كبيرة جدا ، ولقد تغلبت عاطفته الشخصية على تفكيره السياسي في هذه الناحية ونواح اخرى . وأيضا : ليس من المعقول ان يتظاهر عارف عبد الرزاق بانضمامه الى الرئيس عبد السلام لأن الاول كان حتى تلك اللحظة يحظى بثقة زعيمه !
ويمضي هويدي في توصيف محاولة انقلاب عارف عبد الرزاق بـ ” المبتور ” ولم يسمّيه بـ ” الفاشل ” ابدا ، ففي يوم 5 مارس 1965 ، استقال طاهر يحي من رئاسة الوزارة في العراق ، فكلف بتشكيلها عارف عبد الرزاق وكان قائدا للقوة الجوية شريطة ان يكون د. عبد الرحمن البزاز نائبا لرئيس الوزراء ، وكان يحتل منصب سفير العراق في لندن . ويعلمنا الاخ هويدي ان كلا من عبد السلام عارف وعبد الرحمن البزاز قد اتصلا به تلفونيا كل على انفراد ليعلمانه بالتغيير وبتكليف عارف عبد الرزاق قبل ان يصدر اي مرسوم جمهوري ؟! وهنا اسأل مرة اخرى الاخ هويدي : ما علاقة سفير الجمهورية العربية المتحدة بموضوع داخلي في العراق ؟
تاسعا : لابد من ثمة تساؤلات ؟
يتساءل الاخ هويدي نفسه : لماذا يتصل به الرئيس عارف ليخبره بتعديل لم يعلن عنه بعد ؟ ويبقى متسائلا : ما هذه الثقة المفاجئة بعارف عبد الرزاق بعد الشك المرير في شخصه والذي كنت المسه في حديث أبو احمد ( = عبد السلام ) على الدوام ؟ يتابع قوله : ” اقول الحق ، انني توقعت شرا في هذا التعديل ، صحيح كنت أتوقع احداثا واحداثا ولكن ليس بهذه السرعة . ولكن لماذا اختير ” ابو رافع ” ( = عارف عبد الرزاق ) بالذات رئيسا للوزراء ، وفي هذا الوقت غير المتوقع ؟ لابعاده عن قيادة القوة الجوية حتى يتمكن من ان يدخل باصابعه فيها وكان عارف يحول بينه وبين ذلك ، عزله عن الفئات القومية الاخرى ، التخلص من عارف عبد الرزاق نفسه بعد ان يكون قد اصبح معزولا عن كافة الفئات ، اذ يصبح حينئذ لقمة سائغة يسهل اكلها ” ( المصدر نفسه ) .
اجيب : لا انني اخالف السفير هويدي في هكذا تبريرات واهية ، اذ ما معنى اتصال كل من عبد السلام عارف وهو رئيس الدولة وعبد الرحمن البزاز وهو سفير العراق في لندن لابلاغه بتشكيل الوزارة العراقية قبل ان تصدر مراسيم التشكيل ؟ معنى ذلك ان مصر لها ضلعا في ذلك ! انني كمؤرخ ابحث عن العلل والمسببات ، كنت اريد ان يكون الرئيس عارف حيا ليسمع مثل هذا الكلام على لسان هويدي ، اذ لا ينفعنا اليوم اي تأييد او نفي من قبل السيد عارف عبد الرزاق وهو حي يرزق حتى اليوم كونه الحلقة الاضعف وثائقيا نظرا لأنه هو بالذات مشكلة الموضوع كله .. ويبدو انه كان على علاقة سياسية وشخصية غير عادية مع السفير المصري أمين هويدي عندما يسميه هذا الاخير بـ ” ابي رافع ” . ولكن لماذا اخالف الاخ هويدي هنا ؟
عاشرا : ملاحظات تحليلية : من قام باللعب على الاخر ؟
1/ لماذا يتوقع هويدي في هذا التعديل الوزاري اذا لم يكن قد اتخذ طرفا الى جانبه من الطرفين ، فهل كان هويدي الذي يمثل سياسة عبد الناصر في العراق الى الجانب الشخصي ممثلا بعارف عبد الرزاق ام كان يحترم الجانب الرسمي ممثلا بعبد السلام عارف ؟ يظهر جليا انه يتخذ الجانب الشخصي بدليل قوة العلاقات العائلية التي تربط الجانبين !
2/ كيف يتساءل الاخ هويدي عن اختيار ابو رافع بالذات رئيسا للوزراء وفي هذا الوقت غير المتوقع ؟ هل انه لا يدري ، فان كان لا يدري وهو سفير عبد الناصر في العراق فتلك مصيبة ، وان كان يدري فالمصيبة اعظم ! انه يحاول الاجابة على تساؤلاته بابعاده عن قيادة القوة الجوية حتى يدخل عبد السلام باصابعه فيها . وكان عارف عبد الرزاق – حسب الذي يراه هويدي – يحول بينه وبين ذلك .. وهذا كلام غير مقبول ابدا . فهل وصل نفوذ عبد الرزاق الى الدرجة التي تجعل عبد السلام يخشاه ؟ وهو تحت قيادته كقائد للقوة الجوية وتحت امرة القائد العام للقوات المسلحة ! ألم يستطع عبد السلام ان يقيل ايا كان من رجاله حتى وان كانوا محسوبين على عبد الناصر ؟ وما معنى يدخل اصابعه فيها ؟
3/ كيف يقبل اي قارىء ذكي في دراسة تاريخ العراق المعاصر ما سجله الاخ هويدي : من ان العملية هي مجرد لعبة سياسية لعزل عارف عبد الرزاق عن كافة الفئات وليصبح لقمة سائغة يسهل اكلها ! ومن قال أن عارف عبد الرزاق لم يكن اصلا معزولا عن بقية الجماعات القومية ؟ هل يمكننا ان نسجّل ذلك بمنتهى البساطة وان العملية هي مجرد لعبة سياسية من قبل عبد السلام عارف كي يولّيه اجهزة الدولة التنفيذية ، ويحل بدله نائبا عنه في حكم البلاد ليغيب عبد السلام فيلعب عارف عبد الرزاق لعبته ؟؟ طيب ، اذن : من ذا الذي حاول ان يلعب بالاخر ؟
4/ اما ما يكتبه هويدي من ان عبد السلام قد أخبره ” انه كان على علم تام بنيات عارف عبد الرزاق في القيام بانقلاب لصالحه اذا اصبح رئيسا للوزراء حيث يكون التنفيذ اسهل وايسر ، فاراد الرئيس عبد السلام بتكليفه بتشكيل الوزارة في ذلك الوقت تمهيد الطريق امامه للقيام بحركته بسرعة قبل ان يكمل استعداده وتتعمق وتتمكن خطته ” ( المصدر نفسه ، العدد نفسه ) . وهنا أقول مخاطبا الاخ هويدي : هل من المعقول تصديق ذلك ؟ هل من المعقول ان يفضح رئيس دولة مثل العراق اسراره امام سفير عبد الناصر وهو يعرف ما علاقة ذلك السفير بعارف عبد الرزاق ؟ هل ان عبد السلام عارف غبي الى هذه الدرجة التي تسمح له ان يكشف خططه وما سيتمخض عن تلك الخطط ؟ وكل ذلك قبل صدور اية مراسيم ! ان المعلومات التي عندي تشير الى عكس ذلك تماما وهي مأخوذة أساسا من اقرب المقربين الى الرئيس عبد السلام عارف .
حادي عشر : خطة انقلاب فاشل !
يقول هويدي : ” وكان من رأيي وقتئذ عدم قبول عارف عبد الرزاق رئاسة الوزراء مع بقائه في قيادة القوات الجوية ، اذ انني كنت على علم تام بحقيقة الموقف وبنيات عارف عبد الرزاق بالرغم من ان أحدا لم يفاتحني في ذلك .. واستقر رأي الجميع على موعد تنفيذ الانقلاب ليكون في اثناء وجود الرئيس عارف في مؤتمر القمة بالدار البيضاء .. ” ( المصدر نفسه ) .
انني أسأل فقط ، كيف كان الاخ أمين هويدي على علم تام بحقيقة الموقف وبنوايا رجل الانقلاب ، اذا لم يكن أحدا لم يفاتحه في ذلك ؟ ما هذا التناقض المريب ؟ لابد والحالة هذه ان يكون هو نفسه مهندس المحاولة الفاشلة ! بدليل ما قاله توا : ” وحان وقت التنفيذ تبعا للتخطيط الموضوع ، وكانت خطة الانقلاب – كما علمت بعد ذلك – في منتهى البساطة .. ” ( نفسه ) . طيب ، من كان وراء التخطيط الموضوع ؟ اذا لم يكن وراء الخطة ، فمن ذاك الذي اعلم هويدي من العراقيين ؟ ومن أين حصل الرجل على خطة الانقلاب التي نشرها وهي خطة هزيلة وغبية ؟! وكيف يعرف السفير المصري امين هويدي كل تفصيلات حركة عارف عبد الرزاق حتى مغادرته العراق . وهل كانت المغادرة هروبا ام ترتيبا ؟ اما عن قول هويدي بأن سفارته لم تخطر باتجاه الطائرة الى القاهرة ، وان الاخيرة لم تخطر بأن طائرة حربية تحمل الانقلابيين .. فهذا كلام لا يمكن تصديقه ابدا ! اننا سنقف بعد قليل على ما سجله هويدي من كلام يناقض كل ما سجله هنا ، اذ سيدّعي انه هو الذي بلغ القاهرة بانباء الانقلاب الذي قاده عارف عبد الرزاق ببغداد . لقد كنت اتمنى مخلصا على الاخ هويدي ان يراجع بدقة وعلى مهل شديد كل ما كتبه من معلومات ، وسيكتشف حتما عمق التناقضات التي احتواها كلامه عن المواقف المضطربة من الانقلاب الفاشل .
ثاني عشر : عبد السلام عارف والانقلاب الفاشل
يقول الاخ امين هويدي : ” كان ذلك يتم والرئيس عارف هناك في الدار البيضاء ، وقد علم بتفصيلات ما حدث من الرئيس جمال عبد الناصر ، اذ كنت قد ارسلت اليه بالتفصيلات قبل ان يتمكن احد في بغداد من اخطار الرئيس عارف بما حدث .. ولعل هذه المبادرة كانت سببا في الشكوك التي سيطرت على الرئيس عارف بعد ذلك والتي لم يكن لها اساس من الصحة .. ” ( نفسه ) .
أريد ان أشير قبل تحليل ملابسات المحاولة الانقلابية الناصرية الى ان الاخ هويدي أعاد وكرر بأن عبد الناصر هو اول من أخبر الرئيس عبد السلام عارف بتفصيلات ما حدث في بغداد .. اعادها وكررها خمس مرات ، وبالحاح شديد من اجل ان يؤكد بأن للناس تبرئة مصر من الاحداث وان لا علاقة لعبد الناصر بالموضوع كاملا . وهنا لابد ان اشير الى حكاية غير معروفة ابدا قّصها عليّ في عمّان بالاردن يوم 10/8/1999 صديقي القديم الاستاذ الدكتور احمد الحسو الذي كان يحتل منصب المستشار الصحفي للرئيس عبد السلام عارف ، وكان الرجل يرافق الرئيس في رحلته الى الدار البيضاء وقد عاد معه على متن نفس الطائرة المصرية التي أقلّته من المغرب الى العراق مرورا بمصر .. حكى لي ما حدث بكل تفصيلاته وماذا كان رد فعل الرئيس عبد السلام عارف ، قال : علمنا بما حدث في بغداد من محاولة انقلابية وبما كان يحدث في الساعات الاولى من فجر يوم 14 سبتمبر ومن قبل رجل نثق به كثيرا ، علما بأن فارق التوقيت بين العراق والمغرب قرابة 3 ساعات . وقمت توا باخبار مرافق الرئيس عبد الله مجيد ، فدخل توا الى غرفة نوم الرئيس عبد السلام عارف الذي كان يغط في نوم عميق ، فأيقظه من منامه ويخبره بما حدث في بغداد ، فنهض عبد السلام عارف سريعا ليستفهم المزيد من الاخبار من دون ان يصاب بأي ذعر ، وقد اخبرناه بأن المحاولة احبطت وان الوضع مستقر لصالحه ، فبدأ يمهد للعودة مباشرة . وفعلا ، عدنا على طائرة مصرية ، فطرنا الى العراق وهبطنا ليلا في احد مطارات مصر العسكرية وليس المدنية ، وكان الجميع في حالة من القلق باستثناء الرئيس عارف الذي لم يعرف طعم النوم .. كنا جميعا في حالة من الاعياء والجهد النفسي خصوصا عندما بقيت طائرتنا جاثمة في ذلك المطار الموحش وعبد السلام قوي الارادة وثابت الجنان ولكنه كان متألما جدا لما اصابه من خيانة وغدر القريبين منه والبعيدين عنه .
يقول هويدي : ” وقطع الرئيس عارف زيارته الى الدار البيضاء ، وعاد الى القاهرة اولا ليعمل ترتيب سفره الى بغداد . وقد تم اعداد خطة لعودته في سرية كاملة ، اذ ان الموقف لم يكن واضحا في بغداد بل كانت هناك طائرات في انتظاره في سمائها لاسقاطه بطائرته عند الوصول ” ( المصدر نفسه ) . كيف نرد على ذلك ؟
ثالث عشر : ذكريات صديق عزيز : صدق شاهد عيان
وأريد ان اعتمد ايضا على ما رواه لي الاخ الصديق العزيز الدكتور احمد الحسو الذي عرفنا بأنه كان من اقرب المقربين الى الرئيس عبد السلام عارف وكان بمعيته على نفس الطائرة :
1/ لم يعد عبد السلام عارف الى القاهرة اولا ليعمل على ترتيب سفره الى بغداد اذ نزلت الطائرة للتزود بالوقود في مطار مصري لا يعرف اين هو لأن المطار كان موحشا في الليل ولم يكن في القاهرة بأي حال من الاحوال .. ولم تبق الطائرة الا وقتا قصيرا بقي الجميع على متنها ، فلم ينزل احد منها الى ارض مصر .. وقد حدثني د. الحسو بأن هناك من كان يتوجس خيفة من التوقف في مصر . وكان عبد السلام ساكتا لم يتكلم ابدا !
2/ يقول الاخ د. احمد الحسو بأن الموقف في بغداد كان واضحا وان رجال عبد السلام هناك قد احكموا السيطرة على الوضع كاملا .. ولا ندري من اين اتى الاخ هويدي بخبر ان هناك طائرات في انتظاره بسماء بغداد لاسقاط طائرته عند الوصول ! ان هذا مجرد اختلاق لا اساس له من الصحة . فلقد قام سعيد صليبي الرجل العسكري القوي ببغداد والذي اعتمد عليه عبد السلام عارف ، وكان صليبي برفقة اخو عبد السلام واسمه عبد الرحمن عارف رئيس اركان الجيش وكالة بالسيطرة التامة على الموقف . ولم تكن تلك المحاولة الغبية الا مجرد مؤامرة لم يعرف منفذيها فن ادارتها السريع فسقطت منذ الساعات الاولى .. ويتهكم العديد من الكتاب والمحللين كيف ان رجلا مثل عارف عبد الرزاق بيده مقاليد البلاد وكالة ولم يستطع النجاح اثناء غياب رئيسه !
3/ يقول هويدي : ” واستقل الرجل طائرة من احدى المطارات الحربية بالقاهرة بتنسيق كامل معي في بغداد وحددت وقت الوصول ” ( المصدر نفسه ) . وارد على الاخ هويدي بأن هذا غير صحيح البتة ذلك لأن عبد السلام عارف والوفد المرافق لم يستقل اية طائرة ، بل بقي على متن الطائرة نفسها التي أقلته من المغرب . ولأن لم يكن هناك اي تنسيق رسمي او شخصي يذكر مع السفارة المصرية ببغداد ، ولم يكن لأمين هويدي اي شأن او فضل في تحديد وقت وصول الطائرة !
رابع عشر : الملابسات المؤسفة لمحاولة الانقلاب : لماذا ؟
يعلمنا الاخ هويدي انه قد انتوب السفر الى القاهرة للتشاور قبيل حدوث الانقلاب وحجز لمغادرة بغداد ظهر يوم 15 سبتمبر 1965 ، واتصل هاتفيا برئيس الوزراء عارف عبد الرزاق مساء يوم 12 سبتمبر 1965 ليعلمه بذلك وبرغبته في لقائه فرحب .. ولكن على حد شهادة هويدي انه فوجىء بقوله : ” في الصباح يفعل الله ما يشاء ” ، من دون ان يدرك هويدي ان المكالمات كانت تسجل !! ويقول هويدي : ” لم اكن اعلم حينما اتصلت بأبي رافع ان عجلة الانقلاب دائرة ، وانه كان في ذلك الوقت بالذات يقود عملية انقلاب خطيرة من مكتبه في رئاسة الوزراء ، وقد استغل هذا الاتصال المسجل اسوأ استغلال في الايام التالية في الوقيعة بين الرئيس عبد السلام عارف والقاهرة دون تقدير للمصلحة القومية ” ( المصدر نفسه ) . وأنا اقول لو لم تكن التسجيلات خطيرة والمحادثة بين الاثنين خطيرة لما كان هناك اي اتهام يوجه من قبل المسؤولين العراقيين الى السفير المصري ! فاذا كنا نحاكم ذلك يا اخي هويدي من وجهة النظر الرسمية ، فهل يحق لك وانت سفير ان تخاطب رئيس وزراء دولة من دون اية ضوابط مهنية او بروتوكولات دوبلوماسية ؟ وحتى ان هاتفته لأمر ما ، فلابد ان يكون لأمر سياسي خطير ! ولماذا لم تأت مكالمتك اثناء الدوام الرسمي وقد أتت مساء ، او بالاحرى والصحيح قد اتت بعد العاشرة والنصف ليلا ! اما اذا اردنا ان نحاكم النص يا اخي هويدي من وجهة النظر السياسية ، فانني لا اعتقد ابدا ان حدثا سياسيا مهما يتعلق بمصير العراق سيقوم في قلب العاصمة بغداد ومن قبل ابو رافع الذي يبدو ان الكلفة مرفوعة بين الاثنين من دون علم السفير المصري حتى وان لم تكن هناك اية تسجيلات او مكالمات هاتفية بين قائد المحاولة الانقلابية وبين السفير المصري عشية الانقلاب ! فمن ذا الذي هو بالفعل يقدر المصلحة القومية ؟
ونتابع معا .. دعونا نتابع ما كتبه الاخ امين هويدي ، يقول : ” وكان اول موعد علمت فيه بالانقلاب الساعة العاشرة من صباح يوم 15 سبتمبر عن طريق أحد الاصدقاء خاطر وحضر الى مكتبي في ذلك الوقت وأدلى لي بما يعرفه من معلومات . وألغيت سفري الى القاهرة لمواجهة المتغيرات الجديدة ، ثم ارسلت المعلومات الخطيرة الى القاهرة لتتولى ارسالها الى الرئيس عبد الناصر في الدار البيضاء على وجه السرعة حيث كان يعقد مؤتمر القمة . وهذا يفسر كيف ان الرئيس عبد الناصر أول من أخطر الرئيس عارف بحدوث الانقلاب ” ( المصدر نفسه ) .
خامس عشر : التفصيلات عن محاولة الانقلاب
1/ مفارقات التوقيت :
وأنني أسأل : هل عرف الاخ هويدي بالانقلاب الساعة العاشرة صباحا يوم 15 سبتمبر ؟ ومن هو ذلك ( الاحد) من الاصدقاء الذي خاطر بحياته وحضر الى مكتب السفير المصري ليخبره بما حدث ؟ ماذا لو كشف الاخ السفير عن اسم صديقه ( المغامر ) بعد مرور قرابة اربعين سنة على الاحداث من اجل ان نسأله نحن اهل العراق ونتثبت من صحة ما يقوله هويدي ؟ واذا كان الاخ هويدي يقول بأنه قد عرف بأمر الانقلاب ضحى يوم 15 سبتمبر ، فان عبد السلام نفسه كانوا قد ايقظوه من منامه فجر يوم 15 سبتمبر ، وبرغم فارق الوقت فان عملية الاتصال على حسب ما ادعاه هويدي سيستغرق وقتا طويلا ! وهنا اشكك جدا بما سجله هويدي من معلومات غير صحيحة ويكتنفها الغموض .
يقول الاخ هويدي ايضا : ” اتصلت بعبد الرحمن عارف رئيس اركان الجيش الذي لم يكن يدري حقيقة ما حدث ، اذ كان ما وصل الى علمه انها مجرد محاولة شيوعية امكن السيطرة عليها ، وابلغت ابا قيس بأن القاهرة وافقت على وضع قواتنا العربية في معسكر التاجي تحت تصرفه في اي من الاوقات ” ( المصدر نفسه ) . وهنا اريد ان اعلق على هذا ” الموضوع ” ، اذ يبدو واضحا هنا احد امرين لا ثالث لهما ، اما ان يكون الاخ هويدي يعرف ان ما يكتبه لنا مخالف للحقيقة التاريخية ، وهو بمثابة ذاك الذي يتضاحك على قرائه .. فالكل تعلم دور عبد الرحمن عارف اخو الرئيس عبد السلام في حسم الوضع لصالح حكم اخيه ، اذ كان له دوره الى جانب سعيد صليبي في وأد تحركات عارف عبد الرزاق وتطويقه مع جماعته ، وتسفيرهم الى القاهرة . ولم يزل الرئيس السابق عبد الرحمن عارف حي يرزق ببغداد ويمكن الاستفسار منه وسؤاله : هل حسمت المحاولة الانقلابية التي قام بها عارف عبد الرزاق ضد اخيك من دون علمك ؟ واللبيب بالاشارة يفهم انه ما دام كل من سعيد صليبي وعبد الرحمن عارف قد ذكرا للسفير هويدي انها مجرد محاولة شيوعية ، يفيدنا بأن الاثنين كانا على اتفاق في ان يستهزءا بسعادة السفير اولا ، وانها رسالة لابد ان يفهم منها ما يريدان ايصاله من رسائل اليه !
2/ لزوم ما يلزم فهمه :
يقول امين هويدي : ” واتصلت بعارف عبد الرزاق في منزله وكان يوالي عقد اجتماعاته مع انصاره لاتخاذ قرار . وحوالي الساعة الثانية بعد الظهر استقل عارف عبد الرزاق طائرة حربية ومعه عائلته وبعض ضباطه واتجه الى القاهرة . ولم تكن القاهرة قد علمت بما تم ، اذ لم تكن برقيتي قد حلت شفرتها بعد ، لذا فانه استقبل في المطار الاستقبال اللائق برئيس وزراء واستضيف في قصر الطاهرة ، ولكن حينما صرح لهم عارف بما حدث رجوه ان يقدر الموقف اذا ما اضطروا الى استضافته في فندق شبرد .. ” ( المصدر نفسه ) .
ونحن نسأل في باب لزوم ما يلزم فهمه واستدراكه تاريخيا بعد نقده ومقارنتنا للمعلومات المتوفرة :
1/ اذا كان عارف عبد الرزاق رئيس الوزراء قد قام بمحاولة انقلابية فاشلة ، فبمن اتصل السفير المصري ، هل اتصل بعارف عبد الرزاق كرئيس للوزراء ، ام اتصل به كقائد انقلاب ؟ ولا ادري ، هل قام بقية السفراء العرب والاجانب باتصالات هاتفية مباشرة مع عارف عبد الرزاق ؟؟ ام ان ثمة قنوات دوبلوماسية في وزارة الخارجية يمكن الاتصال بها من قبل السفراء ؟
2/ اذا كان السفير امين هويدي قد ذكر قبل قليل انه قد اعلم القاهرة عند العاشرة صباحا من يوم 15 سبتمبر باحداث العراق .. فهل يعقل ان القاهرة بقيت لم تعلم بما تم في العراق ؟ وهل ان حل شفرة البرقية الخطيرة بحاجة الى ساعات طوال كي تعلم القاهرة ؟؟ فسعادة السفير اتصل بعارف عبد الرزاق الساعة الثانية بعد الظهر ولم يزل الاخير في بيته بعد ، اي بعد مرور اربع ساعات على ارسال البرقية ، فكم احتاج عبد الرزاق يا ترى من ساعات اخرى لكي يصل القاهرة بطائرته العسكرية ؟؟ من المؤكد انه احتاج الى 4 ساعات اخرى . فهل يعقل ان القاهرة لم تعلم بما كان يجري في العراق والعالم كله قد بث اخبار الانقلاب ؟؟ وهل بقي يا اخي هويدي الرئيس عبد السلام عارف لا يعرف باحداث بلده المصيرية حتى ينتظر الرئيس عبد الناصر ليخبره ، وعبد الناصر – كما تدّعي – لا يعرف الاخبار الا من خلال مصر ! ؟
3/ اين الحقيقة التاريخية ؟
اعتقد ان السفير امين هويدي لم يقل الحقيقة التاريخية كاملة في مذكراته عن العراق ، اذ ان مصير عارف عبد الرزاق الذي ستحتضنه القاهرة بعد محاولته الانقلابية ، لا يمر من دون ان تقف عنده لتمحيصه قليلا :
1/ لا يمكن للقاهرة ابدا ان تستقبل عارف عبد الرزاق على اراضيها من دون ان تعلم ما قد جرى في بغداد .
2/ لا يمكن ابدا ان تجري هكذا أحداث خطيرة في بغداد وتحتضن القاهرة بطلها ، وتسكت بغداد الا في حالة من حالتين اثننتين ، اولاهما ان عارف عبد الرزاق قد هرب من بغداد بالتنسيق مع السفارة المصرية فيها . او ان القاهرة قد ضغطت على بغداد لتسفيره اليها من دون ان يحصل له اي أذى .. وفي كلتا الحالتين ، لا يمكن للقاهرة استقباله من دون علم وموافقة الرئيس عبد الناصر ، ولا يمكن لبغداد تسفيره من دون علم وموافقة الرئيس عبد السلام عارف ! ومحور كل هذه العمليات هو السفير المصري امين هويدي الذي يعترف بأن ” علاقاتنا العائلية قوية ” مع عارف عبد الرزاق وعائلته .
3/ ان اخطر ما اكتشفناه بين ثنايا النصوص ان تهمة عبد السلام عارف للمحاولة الانقلابية انها امريكية مصرية ، وهذه من مهمة المؤرخين القادمين للتحقق منها في المستقبل باكتشاف المزيد من الوثائق التاريخية التي تكشف عن اسرار غير معروفة، كما هي الاسرار التي تحف بمصرع عبد السلام عارف نفسه !
يتبع 2 و 3
الروابط
الرهانات المستحيلة 2
Check Also
الجامعة العربية.. اشتراطات التغيير في القرن الحادي والعشرين
سّيار الجميل جامعة الدول العربية أشتراطات التغيير في القرن الواحد والعشرين جامعة الدول العربية معلومات …