لقد نجح المؤتمر الحادي عشر لمركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية الذي انعقد في ابو ظبي للفترة 12 – 14 مارس 2006 ، وكان نجاحه باهرا سواء على مستوى المشاركات أو النقاشات للموضوعات الحيوية التي عولجت في جلساته الموسّعة وكلها دارت حول التحولات العربية التي تشهدها منطقتنا اليوم .. لقد كانت مسألة الاصلاح والاوضاع السياسية العربية احدى ابرز المعالجات ناهيكم عن تجربتي العراق وفلسطين ، فضلا عن مشكلات امنية وتعليمية واقتصادية وعولمية .. ولعّل القاسم المشترك في عملية التحولات العربية انما يتمثّل بما يروج حاليا بـ ” الاصلاح ” ( او : مشروع للاصلاح ) ..
ولما كنت مشاركا في المؤتمر ، فلقد سجّلت بعض افكاري المتواضعة التي تتمحور حول السؤال الحقيقي الذي يقول : هل تصح فكرة الصديق الدكتور برهان غليون التي طرحها في المؤتمر بضرورة إعادة الإصلاح ؟ أي مطالبته ـ كما قال ـ بـ ” بيروسترويكا عربية ” ؟
للجواب : لابد لنا ان نعرف ما ” الاصلاح ” ؟ وهل العرب بحاجة الى مجرد مشروع اصلاح ؟ ام انه بحاجة الى ” اعادة اصلاح ” وكأن خلله بسيطا او انه قد حاد عن الطريق والمطلوب منه مجرد ان يعيد اصلاحه !! والحقيقة ان العرب ليسوا بحاجة لا الى اصلاح ولا الى اعادة اصلاح . انهم بحاجة الى عملية تحديث حقيقية ، أي : برامج تغيير شامل في كل مرافق العرب ومؤسساتهم التشريعية والتنفيذية والقضائية وكل ما تحفل به الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والثقافية .
ان تحولات العالم العربي التي بدأت مع بدايات هذا القرن الجديد لا تستقيم وضروراته من ركائز حقيقية في التغيير .. وربما كان مصطلح ” التغيير ” يثير هلع البعض وتخوفاتهم ، اذ يعتقدون ان تحديث حياتنا ومصالحنا سيغير ثوابتنا وقيمنا من دون ان ينتبهوا ابدا الى تحولات جذرية جرت عبر تاريخنا في كل مرافق الحياة . ان حياتنا المعاصرة باتت تثوي في غابة من التناقضات المريبة التي تثير القلق والخوف لما ستلاقيه اجيالنا مستقبلا .. بل وان حياتنا العربية اخذت في تراجعاتها عن انطلاقاتها التي رسمها عصر النهضة ، وباتت متخلفة عن ركب الشعوب الاخرى .. فالمطلوب : التفكير في كوابح الانطلاق والتحولات والتقليل من تناقضات التفكير ومن الذهنية المركبة المنغلقة على الذات والواقع المؤلم .
ان العرب اليوم بأمّس الحاجة الى تغيير واقعهم المرير باحداث اجراءات عملية لترسيخ قيم جديدة في الحياة ، اذ لا يمكن ان يبقوا على ما هم عليه يستهلكون منتجات العالم وليس بمقدورهم انتاج حتى الضرورات الاساسية .. واذا كان هناك من يجتر نفسه بدعوة النخب والمثقفين والكتبة والاعلاميين العرب لفعل شيئ معين لاصلاح الاوضاع ، فأنني اقول بأن اكثر من مائة سنة مّرت وكل النخب المثقفة والمفكّرة تعمل وتنادي من دون أي نتيجة تذكر ، فالتغيير لا يصنعه الا صاحب القرار .. ولقد اثبتت الاحداث التاريخية المعاصرة ان صاحب القرار العربي اما ان يأخذ بلاده الى مصاف التقدم او ان ينزلها اسفل سافلين !
ان العالم العربي بحاجة ماسة الى ان تأخذ الركائز الاساسية سلّم الاولويات وان الانسان والمجتمع ينبغي ان يأتي في المقدمة من اجل ان يغدو واعيا بالمصالح العليا للتحديث وبالمخاطر والتحديات التي ستواجهه مستقبلا .. بمعنى ان يكون هناك ثورة حقيقية في تغيير المناهج التربوية والدراسية تغييرا جذريا ، وان لا يقتصر الامر على الاصلاح او اعادة الاصلاح .. فالاشياء المهترئة لا يمكن اصلاحها ابدا ، بل لابد من تغييرها ، وعلى كل الذين يعترضون على ما اقول ان يقدّموا مشروعات بديلة ان استطاعوا الى ذلك سبيلا .
الركيزة الاخرى التي يحتاجها عالمنا تتمثّل بتغيير كل التشريعات الدستورية والقوانين القضائية والمدنية والتجارية والاجرائية والجنائية والادارية والعامة .. فلقد مضى على سنّ القوانين المعمول بها بين مائة الى خمسين سنة ونحن نعلم بأن الحياة العربية قد زادت مشكلاتها وتعّقدت مضامينها في المدن والارياف وينبغي ان تتلاءم القوانين مع متطلبات الحياة الجديدة .. وكنت أتأمل من الاخوة المفكرين الذين تعّرضوا لمسألة التحولات العربية ان يضعوا النقاط فوق الحروف والمناداة بما تحتاجه مجتمعاتنا من ضرورات دون البقاء في دوامة مفرغة حول الاصلاح السياسي وكأن حياتنا لا يمكنها ان تتجدد الا بالتغيير السياسي .. في حين ان التحولات الدستورية والقانونية ستغّير بالضرورة الحياة الدستورية او تطوّر اساليبها ومناهجها لبناء علاقات جديدة بين الدولة والمجتمع .
ان انجع وسيلة في تحولات العالم العربي الاستفادة من تجارب الاخرين وخصوصا في ادارة الازمات العربية مستقبلا .. وان عمليات التحديث بحاجة الى كوادر لها نزاهتها وشفافيتها ، اناس براغماتيون يخلصون ولا يتكاسلون ، يجمعون ولا يفرقون ، يسمعون ولا يخطبون ، يعملون ولا يتقولون .. يؤمنون بسيادة القانون .. يعترفون بالاخطاء امام الجميع لا يواربون ولا يخادعون ولا يتكبرون .. يعملون على خلق الانسجامات بلا مصالح شخصية ولا انوية ولا عشائرية ولا جهوية ولا طائفية ولا عرقية .. يحاسبون انفسهم قبل الاخرين وينقدون تجربتهم قبل ان يتناولهم الاخرون .. ان خلق آليات عمل يمارسها العرب جميعا من خلال نظام مدني وعملي وواقعي .. فهل سيتغير العالم العربي بمثل هذه ” السيرورة ” كما نتأمل ، أم ستأخذ ” التحولات العربية ” طريقا آخر ؟؟ هذا ما ستكشفه السنوات القادمة بحول الله .
البيان الاماراتية 22 مارس 2006
شاهد أيضاً
مطلوب لائحة اخلاق عربية
تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …