عهد فيصل الاول
بغض النظر لمّن بقي يعجب بالملك فيصل الاول مؤسس العراق المعاصر الذي حكم 1921 – 1933 ، او عمّن اختلف معه وعن اسلوبه، فالامانة التاريخية تقتضي بعد مرور 70 سنة على رحيله : استعادة ذكراه كواحد من ابرز القادة العرب الذين عرفهم التاريخ الحديث في القرن العشرين ولكنه غبن عند بني قومه غبنا شديدا ، وبرغم بعض اخطائه التاريخية ، والانسان غير معصوم عن الاخطاء ، الا ان تجربته في الثلث الاول من القرن العشرين كانت خالية من خطايا كالتي ارتكبها قادة عرب آخرون في ثلثيه الاخرين . نعم ، لقد كانت الحالة صعبة ومريرة في ظل اوضاع الهيمنة الفرنسية والبريطانية على العرب ، وان ايجابيات الرجل من دون شك اكبر بكثير من سلبياته .. وكان الوحيد الذي اعترف به دوليا ليمّثل العرب على رأس وفده في مؤتمر الصلح بباريس في العام 1919 ، وألقى كلمته بين المؤتمرين مطالبا بحقوق العرب السياسية .. ولقد تمتع بقدرة كاريزمية فائقة في الحكم والقيادة وتعامله المتوازن بين البريطانيين والعراقيين على عهده الذي استمر 12 عاما ولدت من خلاله دولة العراق المعاصر وبناء كافة مؤسساتها الدستورية والخدمية .. ومر عهده بسلسلة من المعاهدات مع بريطانيا ، ولم يرحل الرجل العام 1933 ، الا وكان العراق قد نال استقلاله رسميا ودخل عضوا اصيلا في عصبة الامم ، ودولة معترف بها لها سيادتها وكامل مؤسساتها ، واستطيع القول بأن عهد فيصل الاول هو العهد الدستوري والتأسيسي الاول الذي شهد لوحده عراقيا حرية في الصحافة وانبثاق الاحزاب وولادة الفكر الحديث والتيارات الجديدة ، ويعد عقد العشرينيات من اخصب حالات الاجهزة والمرافق السياسية والمدنية والعسكرية برغم فقر البلاد المدقع وارتباط العراق بمعاهدات ثقيلة مع البريطانيين ، وخروجه من تركة نظام عثماني طويل كانت له قساوته وسكونيته السياسية والاقتصادية .. كما وشهد عهد فيصل الاول حالة وفاق دبلوماسي وسياسي مع كل من الجارتين ايران وتركيا اذ توثقت علاقاته مع مؤسسين اثنين لهما : مصطفى كمال اتاتورك والشاه رضا بهلوي .. فضلا عن دور فيصل في نسيان الماضي الشخصي الاليم واعلاء مصلحة العراق العليا بترسيخ العلاقات مع الملك عبد العزيز آل السعود ..
أولويات العراق
انني ارى بأن فيصلا الاول كان يرى بأن ثمة اولويات للعراق لابد من ان تتقدم على متطلباته الاخرى ، فلا يمكن للعراق ان يغدو دولة محترمة من دون معالجة حالتين اساسيتين واستراتيجيتين كانتا ولما تزالا حتى اليوم تشكلان اخطر ما يواجهه مستقبل العراق ، وهما:
اولا : امن المجتمع الداخلي العراقي وانضباطه واستقراره وحيادية دولته ازاء تنوعات ذلك المجتمع العراقي صعب المراس . ولقد اثبتت تجارب ذلك القرن صحة هذه النظرية التي ضربها الاخرون عرض الحائط ، فلقد جمع فيصل الاول ولاء جميع تنوعات الداخل وكل ثنائيات ومزدوجات المجتمع وتناقضاته ، فلم يفضّل اي فصيل على آخر ولا اي مدينة على اخرى ولا قومية على اخرى ولا اي طائفة على اخرى ولا اي دين على آخر ، بحيث لم يتوان في القاء خطاب له في كنيس لليهود العراقيين ! وانصح كل العراقيين وخصوصا من ابناء الاجيال الجديدة ان تقرأ على مهل وبتفكير عميق وصيته التاريخية التي كتبها قبل رحيله لكي يعرفوا بأن فيصلا الاول هو الرجل الوحيد الذي نجح في فهم العراقيين فهما حقيقيا وهو يحكمهم ، وكنت اتمنى ان تبقى مدرسته الفكرية لا السياسية مستمرة حتى اليوم ، لكان وضع العراق افضل بكثير مما يعرفه التاريخ ، ولكن كلا من واصل مدرسة فيصل العراقية من بعده وخصوصا نوري السعيد وعبد الكريم قاسم كانا قد غلبا السياسة على الفكر بحكم ظروفهما برغم معرفتهما بحاجات المجتمع العراقي الاساسية والتي لم يدركها الاخرون ويا للاسف !
ثانيا : ثبات علاقات العراق الاقليمية مع جيرانه في النصف الاول من القرن العشرين .. ان اخطر ما يهدد العراق والعراقيين ذلك الوضع الاقليمي الذي يقع العراق في اساره وله اجندته القديمة في التاريخ وله صفحاته القاسية في الواقع . ولقد نجح فيصل الاول في تأسيس ركائز قوية في توثيق علاقات الاقليم وبني في ما بعد على قاعدته كل من ميثاق سعد آباد 1936 وميثاق بغداد 1955 .. هذان الميثاقان اللذان لم يفهمهما من ليس له بعد نظر تاريخي ، فتعرضا للهجوم الكاسح سياسيا واعلاميا عراقيا وعربيا .. وهذا ايضا بعيد جدا عن فهم اولئك القادة العرب والعديد من المثقفين والسياسيين العرب الذين لا يدركون ابعاده ولا يفكرون في عواقبه ابدا ، خصوصا وان لكل من تركيا وايران اطماعهما القديمة في العراق شمالا ووسطا وجنوبا .. ان هذا الذي فهمه وادركه فيصل الاول وعمل به 1921 – 1933 ومدرسته من بعده : نوري السعيد وعبد الكريم قاسم من اجل ترسيخ مكانة العراق الاقليمية على مدى ثلاثين سنة 1933- 1963 عجز عن ادراكه زعماء امثال : عبد السلام عارف واحمد حسن البكر وصدام حسين على مدى اربعين سنة 1963- 2003 بضربهم له عرض الحائط واللهاث وراء سراب لم يتحقق ابدا ، سراب السياسات القومية الفاشية التي عاشت عندنا طوباوية رومانسية مفعمة بالقتل والتدمير لكل الاحلام الجميلة التي تمتلكها العروبة الاصيلة وان تجاربها لم تخلف الا التدخلات السيئة والدمار الداخلي والتفكك الاقليمي والمؤامرات والانقلابات وعمليات النهب واشعال الحروب الاقليمية !
ما الذي تعلمنا اياه تجربة فيصل الاول ؟
وبرغم عروبة فيصل الاول الصلبة وتفكيره القومي النقي بدعوته الى مشروع ” الولايات العربية المتحدة ” ، وبرغم ارتكابه بعض الاخطاء القومية باعتماده على رجالات عرب امثال : ساطع الحصري ( الذي ناصب المثقفين العراقيين العداء السافر في مشروعاتهم امثال : فهمي المدرس وغيره ) ، الا انه استعان برجالات عرب آخرين كانوا من المع الرجال التكنوقراط الواقعيين الذين احبوا العراق وعشقوه وقدموا له كل جهودهم بل ودفع بعضهم حياته ثمنا لاعمالهم امثال : رستم حيدر ! اقول : ان فيصلا الاول كان عراقيا اكثر منه عربيا برغم كل دعواته الى اتحاد الامة ، ويبدو لي ان تجربته القومية في مملكته السورية العربية العام 1920 والتي نحرها الفرنسيون قد علمته الكثير من الايمان بأن الواقع شيىء والمثال شيىء آخر .. وهذا ما لم يدركه حتى اليوم تلك الكثرة من الناس الذين ليس لهم الا طوباوية التفكير الاحادي بعيدا عن واقع الامة وحاجاتها الاساسية ومصالحها العليا ! لقد نجح الرجل ان يبني دولة مؤسسية دستورية عراقية قوية على عهده الذي لم يدم طويلا ، وانا هنا لم اقصد بالدولة القوية : دولة عسكرية دكتاتورية ذات حكم شمولي وجيش عرمرم ، بل اقصد بها : دولة دستورية معلمنة مؤهلنة ومؤسساتية ومستقرة وعلاقاتها طبيعية مع كل العالم ، وباستثناء بعض القلاقل الداخلية ، فلقد نجح فيصل الاول في ان يتبع سياسة حكيمة وواقعية في مشروع ( خذ وطالب ) مع الانكليز ، وسياسة ( المد والجزر ) مع دول الاقليم القوية ، وسياسة ( المصالح النظيفة) مع العرب ، وسياسة ( فوق الميول والجهوية والاتجاهات ) مع مجتمع الداخل الصعب المتنوع !
ما احوجنا اليوم لقيادة واقعية مثل قيادة فيصل الاول !
ان اوضاع العراق الداخلية والاقليمية والدولية اليوم هي اتعس بكثير مما كانت عليه قبل ان يتسّلم فيصل الاول قيادة دفة العراق السياسية .. لقد انهت الحرب العالمية الاولى مؤسسات الحكم العثماني القديم المهترئة لكي يقوم الانكليز باجراء تحولات جذرية وتغيير القوانين وولادة مؤسسات سياسية وحزبية واجتماعية جديدة وبرغم بقاء العناصر الافندية الرجعية القديمة لكنها كانت جميعها تتطلع للمزيد من التحولات مع خواء ثقافي واقتصادي وبنيوي متوارث منذ احقاب ، اما اليوم فالحالة اقسى في اختفاء دولة بوليسية وسلطات دكتاتورية مروعة وخروج العراق من حقبة سلسلة حروب قاسية وحصارات ظالمة وفجأة تتفجر تقيحات لا حدود لها من المكبوت في مجتمع متنوع نال من الظلم والانسحاق طويلا .. واقتصاد وطني منهك لشعب يعاني من الفقر والاستلاب وتفشي كل امراض المتريفين والطفيليين الجدد مع ضياع موازين الحقوق في دوامة من اصدار قوانين مجحفة وتعليمات لا عدالة فيها ابدا ! مجتمع يحاصر اقتصاديا وثقافيا وسياسيا واعلاميا حصارا دوليا وعربيا وداخليا لا مثيل له. لقد نجح فيصل الاول في تأسيس دولة كانت قد تكونت قاعدتها من برنامج عمل نخبوي اجمعت عليه احزاب عراقية وصحافة حرة كانت تعمل منذ العهد القديم . وفي العام 1920 ، انبثق المجلس التأسيسي العراقي وتأسس جيش عراقي ، اي قبل اعتلاء فيصل الاول عرش العراق .. اما اليوم ، فلقد رحلت الدولة فجأة مع اختفاء السلطة التي احتكرت حياة العراق لأكثر من 34 سنة ، ولم تبق اية مؤسسات او اجهزة او اية مرافق لمجتمع ضخم ومثقل بالمشاكل والتعقيدات .. ودوما ما صرخنا باعلى اصواتنا بأن الدولة اذا اختفت ، فان مشاكل المجتمع العراقي ستتفجر بحيث لا يمكن السيطرة عليها وخصوصا اذا ما غابت المؤسسات الامنية الداخلية ولم تحل بدلها مؤسسات جديدة بنفس قوتها لفرض الامن والنظام . ان مشكلات الدواخل العراقية هي اليوم الاصعب في ظل وجود الاحتلال لقوى التحالف التي لا معرفة لها بطبيعة التكوينات والتعقيدات الداخلية وليس لديها اية معالجات حقيقية وبدائل سريعة للقضاء على ما يجري اليوم من اعمال السلابة والنهابة والقتل وجماعات الخطف والعنف المسلح وفلول احراق المؤسسات وتفجير البنى التحتية .. ومهما قيل عنها، الا ان المسؤولية تقع في الاساس على جماعات من العراقيين تعودوا خلال الثلاثين سنة الاخيرة من عهدي البكر وصدام حسين على القسوة وتعذيب الاخرين وممارسة الظلم والخروج عن النظام والقانون والذين تمرسوا عبر سنين على الهدم والقتل والمقابر الجماعية !
من اجل فجر عراقي جديد
ان حاجة العراق اليوم الى رجالات عراقيين بناة من نوع جديد يستمدون تجارب التاريخ في المشاركة باعمار العراق خصوصا ، انما هي حاجة اساسية وان مشكلات العراق اليوم اكبر بكثير مما يتخيله قصار النظر .. ليست مشكلته في تأسيس حكومة صورية او انتخابات مزيفة والاغراق باللعب السياسية الماكرة . ان مشاكله الداخلية: امنية وقانونية وخدماتية بنيوية وتباينات اجتماعية واوضاع اقتصادية وتعليمية تربوية .. الخ انها مشكلات جيل جديد كامل لم يتلق عبر اكثر من ثلاثين سنة الا مقننات ومنصوصات وطقوس من التناقضات وعاش داخل احزمة من الممنوعات والمحرمات .. ومن جانب آخر فانثمة صعوبات في حل مشكلات العراق الاقليمية التي لا حدود لها من التعنت والخطورة ، فثمة افواه شرهة منفتحة لافتراس العراق تحيط به من كل جانب ، فهل يفكر رجالات العراق الحقيقيون قليلا بما هي اوضاعنا العراقية الاقليمية اليوم في ظل غياب الدولة ورحيلها وفي ظل تشتت المجتمع وانفلات الامن والنظام منه ! وهل يهجع اولئك الاخوة العرب قليلا ليتركوا الامر للعراقيين فهم الذين سيحسمون امرهم لمعرفتهم بواقعهم المرير ! اما دوليا ، فمخاض العراق عسير جدا وهو بلد محتل ويرزح تحت وطأة ديون ثقيلة جدا ويطالبه الاخرون بتعويضات وتركة ارث لا يمكن تخيل حمولته ابدا .. فهل يستوعب العراقيون دروس التاريخ ويتعلمون من تجارب الماضي ، ومنها تجربة فيصل الاول من اجل بناء مستقبل من نوع جديد ؟ هل سيحدث ذلك في ظل وطأة الهيمنة والتدخلات وحسابات المصالح الخاصة وثقل الانفلات الداخلي واذا كان فيصل الاول قد نجح في تعامله مع الانكليز ، فهل سيقيظ الله رجلا من مثله ينجح في كيفية تعامله مع الامريكيين ؟ اننا نخشى ان يضيع العراق ويغرق ويتمزق لا سمح الله .. فمن يشاركني ويؤيدني منكم ايها الاخوة الاحبة في هذا الوجود ؟
الرئيسية / النقد السياسي والتاريخي / الملك فيصل الاول بعد سبعين سنة على رحيله .. رحلت دولة المؤسس الاول !!
شاهد أيضاً
على المشرحة.. لا مواربة سياسيّة في الحوار العلمي (الحلقتان الثالثة والرابعة)
ثالثا : الاحرار العرب : مستنيرون لا خونة ! 1/ اخطاء تاريخية وتحريف للتاريخ ويستكمل …