كنت قبل سنوات خلت أؤمن بأدوار المثقفين العرب في تحديث المجتمع.. وكنت ــ أيضا ــ اتأمل منهم وعلي ايديهم تحقيق كل التطلعات والامال الواسعة حتي وصل الأمر بي ان ادعو في كتابي (العولمة الجديدة والمجال الحيوي للشرق الاوسط: مفاهيم عصر قادم) الي ان تغدو نخب المثقفين العرب هي المحركة الاساسية لمستقبل التكوينات العربية في القرن الواحد والعشرين بدل الساسة! واعترف اليوم انني كنت واهما او بالاحرى علي خطأ.. اذ اثبتت الايام لي ان جملة كبيرة من مصائبنا يشارك المثقف العربي غيره في تحملها او انه ضالع في اوزارها ويا للاسف الشديد!! لقد غيرت الايام الاخيرة قناعات كنت التزمها عن العرب بشكل عام ولابد من الجميع ان يعيدوا التفكير بكل تموجات الافعال وردود الافعال بعيدا عن التهويم والمخيالات والشعارات والكلام الفارغ الذي تدبجه ارتال ممن يسمون انفسهم بـ(المثقفين العرب) الذين يبدو لي انهم لا يعرفون ابسط موازنات التفكير ولا يتمتع قطاع كبير منهم بأفق واسع من الاولويات وانهم يتزاحمون من دون قراءات ولا تطوير ولا مقارنات ولا تغيير.. انهم يعشقون ان يرددوا الاقوال ويكرروا المصطلحات ويلوكوا الشعارات ويجتروا الخطابات المألوفة في مؤتمراتهم وصحفهم ومجلاتهم وشاشات فضائياتهم.. الخ وانها كلها قد اصبحت ادوات اعلامية متطورة في نحر مستقبلهم علي ايديهم!
رهان الخديعة
تبرهن الاحوال يوما بعد آخر بأن المثقفين العرب ــ او هكذا يعجبهم ان يسمون انفسهم ــ هم من اكثر الناس خديعة للناس، فاذا كان الساسة والقادة والحكام العرب قد انكشفت اضاليلهم، فان المثقفين او اشباههم هم في قاع من التفكير والخواء والبلادة، وانهم من اكثر من يزاول الديماغوجية والاكاذيب والتلفيقات وانهم من اكثر الناس غباء سياسيا كونهم لا يعتمدون العقل ابدا في تسويق بضاعتهم الانشائية ولا يؤمنون بالديمقراطية والتفكير الحر! لقد اثبتت مدخلات القرن الواحد والعشرين بأن العرب امة منقسمة ومتشظية ولا تستطيع الاجتماع علي كلمة سواء وان العرب لا يعترفون باخطائهم ابدا ولهم القدرة علي نحر واقعهم وان لهم انتماءات متعددة ومتنوعة.. وان اكذوبات مارسوها بحق انفسهم طويلا علي امتداد التاريخ الحديث وان كل ما دافعوا عنه كان مشوبا بالتمويهات والتلفيقات والشعارات والاكاذيب!! وانهم لم يقوموا ابدا بدور فعال في تطوير مجتمعاتهم المحلية ومهما ادعوا انهم كانوا يتمتعون بالاستقلالية والارادة الحرة والحريات وانهم يؤمنون بالديمقراطية.. فذاك محض افتراء واكاذيب.. واذا كانت الاجيال السابقة اكثر حيوية وانشطة وترجمات وقراءات.. فان الجيل الجديد من المثقفين والمفكرين العرب ليس لهم الا الانشائيات وكتابة المقالات واستعراض العضلات والنفخ في التمجيديات وانعدام تقبل الاراء المخالفة والانتقادات وانعدام تقبل الاخر وانهم بقوا يدورون في حلقة مفرغة، بعيدا عن التفكير الواقعي زمنا طويلا تحت لافتة مشروع نهضوي عربي لا اساس له من الحقيقة ابدا! وكثيرا ما نجدهم يمزجون السياسة بالفكر والايديولوجية بالمعرفة ووجهات النظر بالمعلومات! وكثيرا ما تغلب المشاحنات الشخصية والانانيات والنرجسيات وعبادة الانا علي القيم الجماعية والمباديء الاساسية وحقوق الانسان.. لم تزل ثمة مفاخرات انويةوتشببات ومدائحيات وعلاقات شخصية وارتباطات قطرية وجهوية وقبلية وعشائرية وعائلية وكل تناقضاتها الصعبة تطبق علي حالة المثقفين العرب الذين ارتضوا المسميات والشعارات والاوهام بديلا عن الحقائق والاعتراف بحجم الواقع المرير! انهم يتوارثون الاوهام كابرا عن كابر من دون ان يعترفوا ولو لمرة واحدة بأنهم واهمون في كل ما يقولونه ويفعلونه ويستعرضون عضلاتهم به.
بين الأمس واليوم
لقد كانت المرحلة السابقة غنية بالاتجاهات السياسية والمؤدلجات العقائدية التي برغم بلادتها الا انها كانت تفرز المثقفين العرب علي اساس فكرهم السياسي.. اما اليوم، فلقد ضاعت خيوط هؤلاء جميعا كما تعلمنا به مواقفهم وكتاباتهم وحتي مؤتمراتهم وندواتهم وهم يتبجحون باسم التحديث والنموذج الحضاري والاصلاحات والثورة والبنية.. الخ ان جمعا كبيرا من كبار السن ما زالوا يجترون مصطلحات الخمسينيات والستينيات ويخلطونها بما توالد من مصطلحات جديدة من دون اي وعي بالواقع! وهناك جمعا عريضا آخر ارتضي منذ ربع قرن ان ينصب نفسه وصيا علي الثقافة باسم الموروث والدين والاصول وخصوصا بعد ذبول الفكر القومي العربي وممارساته الشوفينية العربية التي عاشت متناقضة مع نفسها ومع الاخرين وانها اضرت بالعروبة المجتمعية ضررا بالغا! ومن المؤسف ان اجيالا عربية تربت تربية خاطئة علي افكار وممارسات تعتقد انها الافضل والاحسن في هذا الوجود! وان العرب خير أمة أخرجت للناس.. ولعل اسوأ ما افرزته فضاءات القرن العشرين السيئة: تكريس النعرات الجهوية والانتماءات القطرية باساليب بشعة عند المثقفين قبل الساسة وعند النخب قبل الجموع.. لقد تعززت النزعات والانقسامات، ويكذب من يقول عكس ذلك علي نفسه وعلي الاخرين كذبا اشرا! لقد اثبتت لنا الايام بأن حربا خفية طاحنة تدور في اروقة خلفية وكواليس سرية بين هذا الطرف ضد اخر، وهذا القطر ضد ذاك! وقد يجد المرء ذلك بدءا بمؤتمرات قمم الحكام نزولا الي ندوات الجامعات والمنظمات وحتي شعارات اولاد الشوارع العربية المساكين الذين لا يعرفون غير ترديد الشعارات من دون طائل!
نموذج معاصر
لقد كتب أحد الاخوة المثقفين العرب مقالة في تقييم مؤتمر المثقفين في مصر بصحيفة (النهار) البيروتية ومع كل اعتزازي به شخصيا، الا انه اوهم نفسه واوهمنا قائلا بأن المثقف العربي لم يكن غائبا عن مسيرة المشروع النهضوي، بل لقد كان حاضرا فيها بقوة، حيث مارس ادوارا متعددة بفاعلية متزايدة، ودفع الثمن غاليا في عديد من الحالات. وقد اختلط عليه الامر بين المثقف المعرفي والمثقف المؤدلج، بين المثقف الحقيقي وبين مثقف السلطة، اي باختصار بين المثقف والسياسي!! مبررا اصلا شعارات المرحلة التي سادت قبل عقود! ولكنه يستطرد قائلا انه في ظل الهستيريا السياسية التي سادت بعض البلاد العربية (الثورية) ضاع صوت المثقفين النقديين، لأن من جرؤ علي النقد كان يفقد حياته او يغيب في السجون، او يفرض عليه المنفي فرضا، واختار بعض المثقفين ان ينفوا انفسهم اختيارا داخل بلادهم.
ولكن دعونا نسأل: هل كان المثقفون العرب العضويون الذين اسموا انفسهم بـ(الملتزمين) علي صواب في معاركهم الدامية ازاء السلطات وازاء الآخر؟ وهل كانوا علي صواب في تناقضات حكمتهم مهما كانت درجة مصداقيتهم؟ وهل يعتقد المثقف الملتزم انه الوحيد المالك اللحقيقة وقد انفضحت عند بدايات هذا القرن كل المستورات والخفايا وانكشفت للعيان كل الموبقات التي حكمت ظواهر القرن العشرين مهما كانت درجتها من النظافة والوضوح! لقد ماتت الافكار التقدمية التي نادي بها الماركسيون مذ انهارت المنظومة الاشتراكية! وقد ماتت الافكار القومية مذ ولدت الاصوليات والتحزبات الدينية! ولم نعد نسمع بحركات التحرر الوطنية التي شغلت بها الاذهان والعواطف والافكار!
يكذب من يقول بأن المثقفين العرب عاشوا في بؤس حقيقي.. لقد كشفت الظروف الراهنة دعاراتهم الفكرية كما وانفضحت للجميع تفاهات مواقفهم عندما يسكت قطاع كبير منهم عن الحقائق الدامغة! ويكفي ان بعضا منهم انجرف وراء انظمة سياسية جائرة جّيرت واستعملت اسمه في مانشيتات صحفها الصفراء! وان هناك كتلا من الاغبياء الذين لا يفقهون من الحياة الا موائد الطعام وفنادق الدرجة الاولي والخروج علي شاشات التلفزيون يتبجحون بما شاء لهم ان يتبجحوا من دون اي رادع قانوني او وازع اخلاقي! لقد تابعنا بمنتهي القرف ما قاله امثال هؤلاء في التلفزيونات والاذاعات من خطابات او ما كتبوه في الصحف والمجلات من مقالات ازاء الازمة العراقية الحالية واستخدوا كراهيتهم لامريكا من خلال اردية القضية العراقية التي تقمصوها ليدافعوا عن الشياطين الزرقاء دفاعات فاضحة او مستترة تحت اغطية بالية! لقد توضحت للعيان كم هو حجم التفكك الذي نادي به العقلاء قبل سنين من دون ان يلتفت اليه أحد ابدا! انني لا افهم كيف يقوم بعض المثقفين العرب المتوحشين بقبول العلم الاسرائيلي فوق ترابه وهو ينفخ في قربة عراقية مشروخة قطع اوصالها اغبي زعيم متسلط ودكتاتور متغطرس في التاريخ! ولا ادري كيف يسمح مثقف عربي آخر لنفسه وهو يمتلك شهادة دكتوراه في التاريخ الحديث ان يدلي بدلوه في القضية العراقية وهو من ابعد الناس فهما في معلوماته عن العراق؟ ولكنه يتغابي علي الاخرين العرب كونه فقد مصالح كانت تجمعه مع النظام السابق تحت مظلة القومية العربية! لقد اثبتت القضية العراقية لنا بأن العرب هم من ابعد الناس عن قيم العروبة والمباديء الانسانية وان المصالح الضيقة هي التي تتحكم في التفكير السائد، فضلا عن اساليب يتخذونها مثلا وهم من ابعد الناس عن تحقيقها بسبب تمزقاتهم الفكرية والسياسية، فلم تعد لا اساليب غاندي ناجعة ولا اساليب نلسن منديلا نافعة ولا طريقة هوشي منه مقنعة ولا خطابات عبد الناصر المجلجلة في عصرنا بارعة ولا انغلاقات ماوتسي تونغ جامعة ولا اية من ظواهر القرن العشرين اللامعة.. لقد اختلف التاريخ بالكامل عما كان عليه سابقا.
وأخيرا
أقول، ليس من السهل ابدا ان اقتنع بعد اليوم بالرهان علي قطاعات وكتل عريضة ومتقدمة من المثقفين العرب والذين يستحوذون علي مواقع ومناصب واماكن سياسية وتربوية واكاديمية واعلامية ووظيفية في معظم الدول العربية وسواء كانوا من الجيل القديم ام الجديد، فان ادوارهم تعكس ثقل ازمة تفكيرهم هم انفسهم ازاء الحياة والمستقبل والاخر.. وثمة مشكلات معقدة يحملها المثقف العربي حتي وهو بعيد عن اوطانه، فهو يعكس كل التعقيدات التي تربي عليها في ماضيه الصعب. لقد اثبتت السنوات الاخيرة من نهايات القرن العشرين وبدايات القرن الواحد والعشرين عن انكشافات فاضحة للازمات والمشاكل التي كان التفكير العربي ولم يزل الي جانب الثقافة العربية يعانيان منها وان ذلك لعمري من اخطر ما سيواجهه العرب في مستقبلهم الذي يبدو لي ان تمزقاتهم لا يمكنها ان تحلها العواطف ولا الانشائيات ولا المدائحيات ولا المفاخرات ولا الاناشيد ولا الاغاني المجانية ولا استعراض العضلات في المؤتمرات ولا الصياح في الشوارع ولا ترديد الشعارات ولا اجترار الخطب ولا الاعلاميات الساخنة ولا المقالات وتعليقات الصحف اليومية.. وقد يسألني سائل: اذن ما الذي ينفع؟ اقول: اذا كانت كل الانقلابات والنكسات والهزائم والخضات لم تنفع ابدا في تغيير الاذهان فلأنها جميعا كانت نتائج تاريخية لسوء الاسباب والمسببات الداخلية والخارجية.. فهل فكر العرب يوما في واقعهم؟ وهل يمكنهم ان يقارنوا انفسهم بشعوب اخرى وان يؤسسوا قطيعة كاملة مع تفكيرهم وواقعهم من اجل بناء اجيال جديدة تختلف عنهم جملة وتفصيلا.. عند ذاك يمكنهم ان يشعلوا اضواء خضراء علي طريق الغد!
نشرت في الزمان وعدة صحف ومواقع
27 /7 / 2003
شاهد أيضاً
مطلوب لائحة اخلاق عربية
تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …