لقد تمتعت حقاً بما كتبه الأخ العزيز الدكتور خلدون النقيب في مقالته المنشورة في جريدة الأسواق الغراء ( العدد 805 الأربعاء 14 شباط / فبراير 1996)، والموسومة ” هل هناك حقيقة في التاريخ؟ ” ونظراً لأهمية الرجل عندي وأهمية أفكاره التي أثارت لدي ملاحظات ورؤى وذكريات تعد خزين تجربتي العلمية المتواضعة في الدراسات التاريخية … آليت كتابتها ونشرها لإتمام الفائدة.
(1) إشكاليات المرئي التاريخي : خطورة السيمافور لدى المتلقي
إن المشكلة حقاً ليست فقط في من يكتب تواريخنا العربية تخصصياً أو روائياً بتجرد وحيادية موضوعية، ولكن ثمة إشكاليات حادة ( سيناريوهات)، وفي إحالة المقروء إلى منظر سيمي سينمائياً وتلفزيونياً. وأن المرئي التاريخية ( السيمافور) (signal ) ومشاهدة المناظر ( التاريخية التمثيلية ) (Sight – seeing) هي أخطر بكثير عند المتلقي من المقروء روائياً أو معرفياً، ذلك لأن ( المنظور ) يدخل دون أية حواجز إلى المجتمع بأسره، لكي يخاطب كل العقول والأخيلة والعواطف ولدى كل النخب والفئات والجماهير، وخصوصاً عند استخدام القنوات الفضائية في بث لك كله، ومما يزيد الأمر خطورة، أن العمل المنظور المرئي تراعى فيه عناصر طارئة ودخيلة على المروي والمقروء، ومنها : الإخراج والإنتاج والتمثيل والتصوير والمونتاج والماكياج…إلخ، ناهيكم عن حجم المؤثرات السياسية والإعلامية والإسقاطات الاجتماعية والايديولوجية في أي عمل تاريخي يتم إخراجه سينمائياً أو تلفزيونياً.
(2) العرب : التاريخ الموحد إزاء التجزئة المعاصرة
على الرغم من إنتاج دراسات تاريخية موثقة ورصينة عربياً خلال العقدين الأخيرين، لكن ثمة ثوابت فكرية ترسخت في اللاوعي العربي على امتداد قرن كامل، إذ حفل الفكر العربي المعاصر بتناقضات ايديولوجية، وآراء غربية، ومواقف دينية وسياسية اسيء استخدامها في التوجهات الوطنية أو في تحقيق الأماني القومية، صحيح أن إثارة الحمية الوطنية / القومية (Patriotism) تكمن في صفحات تاريخية يمكن استخلاص روحها في سبيل تجليها لدى أبناء الأمة، ولما كانت أمتنا العربية المجيدة قد مزقتها المصالح الذاتية والتيارات العصبية والايديولوجيات الغريبة، وعج بها خطاب عربي يتضمن رؤى قطرية تجزيئية وثقافة شتات بحيث وجد كل كيان سياسي عربي له مرجعية تاريخية يعتز بها، ويستند عليها، ويدافع عن (مشروعيتها الوهمية) وهي كلها مرجعيات عززتها توجهات سياسية في الثقافة العربية المعاصرة من أجل خلق روح مفاخرة، أو حمية وطنية لدى جيل نهاية القرن، وهذا لم يكن يعرفه ( أو حتى يستوعبه ) جيل مطلع القرن في مناداته بالكيان العربي الواحد وتحقيق ما لم يكن قد تحقق، وإذا كان العرب أجمعين قد أدانوا سايكس بيكو في الكتب المدرسية تربوياً، فلماذا مضوا هم أنفسهم في تكريس عامل التجزئة سياسياً؟ وغدا التفكير العربي يعيش تناقضات جادة بين الأماني القومية والمرجعيات القطرية؟
(3)مصطلح ( الامبريالية العثمانية) : توصيف في غير مكانه :
إن العثمانيين الذين سادوا على العرب وحكموهم اربعة قرون قد وصفهم الدكتور النقيب بـ”الامبرياليين” إذ قرنهم بالبريطانيين والفرنسيين والإسبان والسوفييت والأمريكان ! وأخالفه في هذا “التوصيف” لأن “الامبريالية ” مصطلح له مضامين سياسية وآليات استعمارية جديدة ضد الشعوب، استخدمه الماركسيون نظراً لتباين مضامينه وآلياته عما ساد في القرن التاسع عشر من مضامين وآليات استعمارية عسكرية دعيت بـ ” الكولينيالية ” أي : الاستعمار القديم والاستعمار الجديد.
ولما كانت المضامين والآليات ستتباين لدى النظام الدولي القادم في القرن القادم، باتخاذها أساليب اقتصادية بحتة كالتي يعتمدها مثلا ( The Capital Market) فسوف يولد لا محالة مصطلح جديد كالذي دعيته في إحدى دراساتي المتأخرة بـ” الكابيتالية الجديدة” في القرن الحادي والعشرين بعد ” الامبريالية السياسية” في القرن العشرين، وبعد ” الكوينيالية العسكرية” في القرن التاسع عشر !.
(4) تطور الوعي العربي : الإصلاحي –> الدستوري –> القومي
لقد تباين حكم العثمانيين للعرب من حقبة إلى أخرى، ومن بيئة عربية إلى أخرى نظراً لطبيعة العهود والأساليب والقوانين والأحكام، إضافة إلى عوامل داخلية معقدة في دواخل منظومة المجتمع العربي، صحيح أن الدولة العثمانية استبدادية شرقية اعتمدت على مواريث عربية إسلامية، ولكن كانت لها مكتسباتها التاريخية الأوروبية، وتميزت بتقاليدها المملوكية والعسكرية الاقتصادية عن غيرها من الدول الإسلامية. ولما ضعفت هياكلها الإدارية ومؤسساتها الاقتصادية وقوتها المركزية إثر صدمات الغرب، بدأت خطواتها الإصلاحية في القرن التاسع عشر، فكان جيل التنظيمات قد اكتسب له وعياً إصلاحياً في إطار الحياة العثمانية، وولد بعده جيل المشروطية الذي اكتسب وعياً دستورياً ( وخصوصاً إبان عهد عبد الحميد الثاني )، فبرز الأحرار ضد السلطان الذي تبنى مشروع الخلافة العثمانية، فوقف ضده الكواكبي، ناشراً كتابيه الشهيرين :” طبائع الاستبداد” و”أم القرى” داعياً إلى خلافة عربية قريشية. ثم ولد بعد ذلك جيل الاستنارة الذي اكتسب له وعياً قومياً، إثر انقلاب تركيا الفتاة سنة 1908، وبمؤازرة وإعجاب عربيين، ولما انكشفت سياسة الاتحاديين عن ممارسات مضادة للعرب دعيت خطايا بـ”التتريك” ثار العرب ضدهم ثورتهم المشهورة” ” الثورة العربية الكبرى” عام 1916.
(5)الموقف من العثمانيين : ثنائية التفكير العربي ( ضمن سياج المعرفة الخاطئة )
إن تفكير العرب لم يزل خيالياً في تقييم عدة أمور جوهرية وأساسية في حياتهم التاريخية والمعاصرة والمستقبلية، ومنها نزعتهم إزاء العثمانيين والمنقسمة حتى اليوم على نفسها إلى تيارين (= ديني + قومي ) يتشرنق كل منهما في إطار معرفة خاطئة! فهناك رأي ديني سائد تمثله أغلبية عامة تنظر إلى العثمانيين ودولتهم نظرة تقديسية كونها دولة خلافة إسلامية – جهادية، وأن العرب – حسب اعتقادهم – قد أخطأوا في تبنيهم الفكرة القومية للانفصال عنها، وهناك رأي قومي سائد تمثله نخبات خاصة تنظر إليها، كونها دولة استعمارية طورانية، ناء العرب تحت وطأتها الطويلة وممارساتها الصعبة.
إن كلاً من التيارين يتوارث – مع الأسف – معرفة خاطئة وثقافة قاصرة في تقييم تواريخنا الحديثة وتكويناتها الاجتماعية علىعهد العثمانيين، واسمحوا لي أن استعير مقولة رائعة لـ غاستون باشلار، إذ كتب متأملاً يقول : ” يستطيع البشر العيش زمناً طويلاًضمن سياج المعرفة الخاطئة”!
إن العرب يتوهمون الماضي حاضراً أو الحاضر ماضياً بقياس الشاهد على الحاضر أو بالعكس… وما زالت أغلب التوجهات الفكرية العربية تعيش في سجن معرفة خاطئة، اكتسبتها من خلال كتب مدرسية هزيلة، أو كتابات دعائية هشة، أو مواقف فكرية مؤدلجة، أو شعارات سياسية رنانة..إلخ. وتلك التي افصحت عنها محللاًوناقداً في الفصل الأول من كتابي :” العثمانيون وتكوين العرب الحديث: من أجل بحث رؤيوي معاصر، ( بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1989).
إن الخلافة العربية هي غير دولة السلطنة التركية، والشريعة هي غير قوانين نامه لز العثمانية، والجهاد في الإسلام هو غير الحروب العثمانية أو الصفوية، وأن الأمويين والعباسيين والفاطميين هم غير العثمانيين والمماليك والصفويين !! وعلى الجانب الآخر، فإن الاستبداد الشرقي هو غير الاستعمار الغربي، وأن السياسات الإمبريالية هي غير الممارسات العنصرية، كما أن الدعوة إلى الطورانية هي غير النزعة إلى القومية العربية.
(6)التركة العثمانية بين المشرق والمغرب العربيين :
لعل أبرز من عالج مفهوم ” الدولة التسلطية” هو د. خلدون النقيب في أكثر من دراسة رصينه له نشرها بالعربية، وهو يدرك ملياً بأن الاستبداد ( الحميدي ) ضد الدستور ومنح الحريات والذي عانى منه العرب سياسياً، هو غير “التتريك” الذي مارسه الاتحاديون عنصرياً بعد سنة 1909، فإذا كان الاستبداد حالة أولى، قد خلقت وعياً سياسياً ودستورياً جديداً لدى النخبة العربية، فإن “التتريك” هو حالة ثانية قد خلقت وعياً قومياً عربياً مستنيراً وجديداً لدى نخبة من نوع آخر، وبقدر ما كانت الحالة الأولى صعبة لدى الأحرار، فإن الحالة الثانية كانت أصعب بكثير لدى العرب ( القوميين ) المستنيرين الذين اضطهدوا في مواجهتهم للأساليب الطورانية، وخصوصاً في بلاد الشام والعراق والحجاز، أما في ليبيا وتونس والجزائر، فلقد عاشت بيئاتها، حالات من أنواع أخرى ليس للعثمانيين أي دخل فيها، فالجزائر مستعمرة فرنسية منذ 1830، وتونس محمية فرنسية منذ 1881م، واحتل الإيطاليون ليبيا سنة 1911. إن الممارسات الاستعمارية الكوينيالية الفرنسية (والإيطالية الفاشية ) لا تقارن قسوتها بالعثمانيين الذين حكموا المغرب العبي وتركوا وراءهم ميراثاً يعتز به الجزائريون غاية الاعتزاز، أما التوانسة، فلقد حكمتهم على (250) سنة، أولئك الحسينيون باسم العثمانيين فورثوا تونس تقاليد سياسية واجتماعية وعمرانية زاهية لا نجدها في بيئات عربية أخرى!! ومعروفة هي الممارسات الاستعمارية البريطانية في عدن و منطقة الخليج العربي كم كان لها من تأثيرات سياسية وإقليمية أنتجت مشاكل حدودية وجغرافية مستعصية حتى يومنا هذا.
(7) القرون المتأخرة : نسيج من التعقيدات التاريخية
من يعالج التواريخ العثمانية ويختص في تعقيداتها المتنوعة ، سيجد أن فرصاً غير سياسية أو إدارية قد توفرت في الحياة العربية سواء على مستوى الإفتاء أو القضاء أو على مستوى نظام اللامركزية واحترام الدولة لأبرز السلالات العربية، والإبقاء على روح العصبيات الاجتماعية وأنظمتها الداخلية، وعلى الإبقاء على اللغة العربية، وعلى التجارة الإقليمية والمحلية وعلى الأصناف والمهرة، وعلى الرغم من حدوث انتكاسات اقتصادية وانتفاضات عربية متعددة. فقد كان من أسبابها : قسوة الملتزمين في الإقطاعات، وسطوة الباشوات والأغاوات في الولايات، واستغلال السباهية والمقاطعجية والانكشارية في الاقتصادات.. ومصالح الاوليغاريات العسكرية في الأوجاقات، والرشاوي الرسمية باسم الطلبة والضرائب في مصر عند البكوات، هكذا، فعلى الرغم من كل هذه التعقيدات والتناقضات بقي العرب مع تخلفهم الشديد، مندمجين مع الدولة والنظام كـ (عثمانيين)، ولم يتبلور وعيهم السياسي إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أما وعيهم القومي وحلمهم الوطني فكانا بتأثيرات الاتحاديين في سياستهم العنصرية التي اضطهدت العرب، فقدم العرب قافلة من الشهداء بتهمة اتصالاتهم مع الفرنسيين، وكأن الأتراك الطورانيين أو الاتحاديين أو الائتلافيين لم تكن لهم أية اتصالات لا بالفرنسيين ولا بالألمان ولا بالأنكليز ولا باليهود.!؟
لقد انبثقت الجمعيات العربية – القومية سياسياً عام 1909 بغية تحقيق ما كان العرب يطالبون به من حقوق في إطار الحكم العثماني. وقد تكللت جهودهم النخبوية المثقفة على مدى أربع سنوات في عقد المؤتمر العربي الأول في باريس عام 1913. وقد وافقت الحكومة الاتحادية على مطالب العرب وحقوقهم الأساسية في المشاركة الإدارية ضمن إطار اللامركزية، واستخدام العربية في الدوائر والمدارس. وحقهم بتمثيل عربي عادل في مجلس المبعوثان العثماني…إلخ. ولكن لعب الاتحاديون لعبتهم، فتراجعوا عن وعودهم وانكشاف أمر معارضيهم من الساسة العرب. فبدأوا بالتنكيل السياسية والاضطهاد، وكان ابرز جمعيتين عربيتين قد جمعتا النخبة القومية : “المنتدى الأدبي” للمثقفين المدنيين و”العهد” للضباط العسكريين. وكان نشوب الحرب الأولى عام 1914 قد وفر فرصة تاريخية لكي يفجر العرب ثورتهم الكبرى في الحجاز بهدف تأسيس كيان عربي موحد تتحقق فيه كل الأماني القومية.
(8) تمفصل التكوينات القومية بين العرب والأتراك :
لقد كانت تجربة العرب التاريخية على مدى عشر سنوات من حكم الاتحاديين لهم، كافية لكي ينفضوا عنهم ثقل الماضي، ولم يكن العرب أول الثائرين على العثمانيين، فلقد سبقهم ملك وشعوب أخرى وغدا العرب في أخر الركب، وغدت معاناتهم أبان المرحلة الصعبة جذوراً تاريخية ارتكازية لنشأة التكوينات السياسية الأفكار الايديولوجية التي تمفصل فيها العرب والأتراك في تحديد كل منهما لهويته وانتمائه وبنائه السياسي وخياراته الفكرية على امتداد القرن العشرين.
وغرست تلك ” المرحلة” في الذاكرة الرسمية والشعبية العربية كل الذكريات المؤلمة عن صفحات العثمانيين السابقين والمعاصرين، وخصوصاً في بلاد الشام والعراق والحجاز، أما الأتراك الذين نجحوا في تبديل كل أثوابهم السياسية بعد إعلان مصطفى كمال أتاتورك لنظام تركي جديد باسم ” الجمهورية التركية”، فلقد أكد في مبادئه الستة وتصريحاته الشهيرة تقاطعه مع نظام العثمانيين ( الرجعيين ) البائد. مسدلاً ستاراً على الماضي، وعلى الرغم من أن النظام الكمالي قد نجح في غسل الأذهان من كل بقايا العثمانيين وآثار الاتحاديين، فإن الأتراك ما زالوا يريدون من العرب ما لا يريدونه لأنفسهم، إذ بدءوا يستخدمون تلك التجربة المريرة لأغراض سياسية، أو التوصل لمعيار لا يمكن قبوله، وهو الذي رفضوه مع العرب بضراوة منذ زمن بعيد!
(9) الاتحاديون : شراكة تاريخية بين العرب والأتراك
لقد توضح لي من خلال مشاركتي في أكثر من ندوة لـ”العلاقات العربية – التركية” في تونس أو أنقرة أو بيروت او عمّان او بغداد ، أن للأتراك حساسية مفرطة إزاء العرب في تقييمهم تلك المرحلة التاريخية التي عاشها كل من الطرفين إبان الحرب العالمية الأولى وما سبقها من عوامل، وما لحقها من مؤثرات : وتغيب عن الذهن جملة من الحقائق التاريخية:
1. مشاركة العرب في رفد الحياة السياسية العثمانية، ودورهم في الوقوف ضد الاستبداد، ومناداتهم بالتحرر والعدالة والدستور على لسان المثقفين المستنيرين.
2. مشاركة الضباط العرب في أبرز الأحداث العثمانية وأثقلها، فلقد كان القائد العثماني الاتحادي محمد شوكت باشا ( عراقي أخو حكمت سليمان أحد رؤساء الوزارات في العراق الملكي )، بكل أحدث سنة 1909م، التي حسمت الانقلاب المضاد، ناهيكم عن مشاركة عدد من الضباط العرب في الحرب الطرابلسية والحرب العالمية الأولى.
3. لقد بلغ اعجاب العرب بالاتحاديين وقادتهم كبيراً وبشكل مذهل، بحيث أطلق بعض الآباء العرب على أبنائهم أسماء أولئك القادة : طلعت وأنور وجمال.. وما الرئيسين الراحلين جمال عبد الناصر وأنور السادات إلا من أولئك الأبناء العرب! كما صرح السادات عن ذلك بنفسه.
4. إن جنايات تلك “المرحلة ” لا يتحمل مسؤوليتها العرب، أبداً، بل يتحمل مسؤوليتها السياسات التي مارسها الاتحاديون ضد العرب والقوميات الأخرى، إن عنصرية “التتريك” واضطهاد “الأحرار”، والتعرض لثوابت العرب الاجتماعية كلها عوامل أساسية في إثارة ردود فعل عربية ساخنة.
(10) ماذا يمكنني قوله ؟ مصالحنا العربية الآتية قبل جروحنا العثمانية الماضية
هل من آراء واستنتاجات وعبر يمكن أن تفيد واقعنا المشترك ومستقبلنا الواعد ؟ أعود من حيث بدأت إلى مسلسل “أخوة التراب” لأقول أنه على الرغم من صدق الطوايا القومية والحمية الوطنية لكل من ساهم في عمل تلفزيوني متميز أثار هكذا ضجة سياسية وفكرية، إلا أنني أرى أن يرتفع العرب فوق هكذا حساسيات تثير لهم مشاكل هم في غنى عنها، خصوصاً إزاء ” جار ” قديم لنا مصالح إقليمية مشتركة معه، وإشكاليات مستقبلية إزاءه، وأن الحمية القومية وروح الافتخار والإعلان عن الأمجاد يمكن أن تصورها روايات وأحداث أخرى، ناهيكم عن أن ما حدث كله ابان سنوات صعبة عند مطلع القرن العشرين لا يقارن ألبتة مع ما يواجهنا نحن العرب من مشاكل عند نهاياته، فكيف يمكننا معالجة ذلك إزاء تحديات المستقبل التي ستواجه أولادنا وأحفادنا
لقد تبين لي من مقارنة جملة من الأعمال الروائية والسيناريوهات التاريخية التي أخرجت للسينما أو التلفزيون العربيين، بأن السيناريست والمخرج يثقلان بواسطة الممثلين والكاميرات من وطأة الأحداث والشخوص بهدف الإثارة، فينعكس ذلك كله على حيادية الحقائق المكتوبة، إن الإلحاح في إبراز الأحداث المصورة، وعملية التأكيد على إثارة العواطف، يكسبان المشاهد تحيزاً على حساب الموضوع والمضمون.
دعوني أتساءل أيضاً : أين مواقف العرب من الآخرين الذين يشوهون حقائق العرب وتواريخهم؟ اذكر عندما كنا طلبة في جامعة كيمبردج ببريطانيا، تابعنا نحن العرب مسلسلاً تلفزيونياً تاريخياً انكليزياً، أعدته وعرضته القناة التلفزيونية ( BBC2 ) بمناسبة مرور عقدين كاملين على أحداث 1956م، وعلى الرغم من جودة المسلسل فنياً، فإننا رفضناه نظراً لما حمل أكثر مما يزيد من شخصيات بطولية عربية كالقائدين الراحلين جمال عبد الناصر ونوري السعيد، ليس المهم هنا أن الانكليز لم يجيدوا تمثيل دور القائدين العربيين الشهيرين، بل المهم عندي أن العرب لم يتخذوا أي موقف سياسي حيال ذلك” المسلسل” الذي شوه حقائق تاريخية عدة!
وأخيراً، أقول : إن المواقف السياسية هي التي تحكم طبيعة الأمور والأشياء في القرن العشرين، أكثر من المرجعيات والحقائق العلمية، سواء كانت تاريخية أم اجتماعية أم فكرية، لقد كانت ولم تزل عدة مؤسسات وهيئات ودور نشر وشركات تشوه تواريخنا وواقعنا، دون أن يكون هناك أي رد فعل عربي سياسي حيال ذلك على عكس الأتراك والإيرانيين الذين مهما اختلفت أنظمتهم السياسية، فإنهم أكثر دفاعاً عن سمعتهم وتواريخهم وشخصياتهم ومواقفهم حتى لو كانت مليئة بالخطايا.
أتمنى أن تكون الأجيال العربية القادمة أكثر مهارة ورؤى ومعرفة وحفاظاً على حقوقها القومية ومواريثها التاريخية ورموزها البطولية وحقائقها الموضوعية. ومن المحتم ، أنها ستكون أذكى بفعل المعارف الصحيحة، وأكثر قدوة على الحركة والمواجهة العلمية والنقدية، وهذا ما لم يتوفر عليه أجيال هذا القرن التي ظلت أسيرة معارف خاطئة. وسجينة تقاليد صعبة، وضائعة القوى والأهداف، وسط بحر من التيه والتمردات والعواطف والأخيلة. أما بصدد مسلسل “أخوة التراب” فما دام عرضه قد بدأ فضائياً، فإنني أشارك د. النقيب بأن لا حكمة من قرار إيقاف عرضه بعد أن تابع الناس مشاهدة عدة حلقات منه!
الاسواق ، الاردن ، العدد ( 823 ) 9 آذار 1996 .
شاهد أيضاً
على المشرحة.. لا مواربة سياسيّة في الحوار العلمي (الحلقتان الثالثة والرابعة)
ثالثا : الاحرار العرب : مستنيرون لا خونة ! 1/ اخطاء تاريخية وتحريف للتاريخ ويستكمل …