سعدت جدا بقراءة محاضرة الأخ الدكتور رضوان السيد المنشورة في جريدة الحياة الغراء ( العددان 13804- 13805 ) بتاريخ 29-30 /12/ 2000 التي ألقاها في مكتبة الملك عبد العزيز العامة بالرياض ضمن سياق ندوة ” مستقبل الثقافة العربية ” . ونظرا لأهميتها البالغة في الظرف الراهن التي يمر فيه تفكيرنا العربي المعاصر ، فقد أحببت أن اثري النقاش حول نقاط عديدة منهجية وموضوعية . وسواء اتفقت مع الرجل في معالجاته أو اختلفت مع بعض طروحاته ، فان ذلك سيغني هذا الموضوع الحيوي الذي نحن العرب بأمس الحاجة إلى مناقشته بكل وضوح من اجل التوصل إلى تحديد رؤى واستنتاجات ستفيد جيلنا المعاصر والأجيال القادمة برسم مستقبلها .
خطوط منهاجية :
ثمة محددات منهاجية لابد من إيضاحها قبل التوغل في مناقشة المفاهيم والموضوعات ، فربما ستساعدنا هذه في اختصار مسافة الطريق والجمع بين الحسنيين ، يكمن أولاهما في ما قدمه الرجل من أفكار واستنتاجات . ويرمي ثانيهما في ما أقدمه الآن من معالجات ورؤى وتوضيحات :
1. ثمة وقفة مبسطة عند العنوان الذي لا يحتمل تأويلات غير واضحة المعالم خصوصا عندما نعلم بأن التشكيل الثقافي قد اقترن بالوعي الثقافي الموحد أولا ، وان عمر ذلك الوعي يمتد في تكوينه إلى القرن التاسع عشر .
2. ثمة خطة محددة في المنهج تعلمنا بما لا يقبل مجالا للشك ، إن أي معالجة بحثية على مستوى التحرير أو المشافهة ، لابد أن تؤسس من خلال ثلاثة محاور أساسية : المدخلات والمضامين والمخرجات (= الاستنتاجات ) .
3. وثمة مستلزمات منهاجية تطالبنا بتحديد الرؤية وتوضيح المصطلحات ، وتبسيط المفاهيم ، وتحليل الأفكار وتدعيمها بالنماذج والأسماء والأمثلة والأفكار ..
لقد نجح د. رضوان في خطواته المنهجية إلى حد كبير ، ولكن لابد أن تثار بعض الأسئلة ضمن سياق المنهج ، وعادة ما يثار مثلها لدى قراءتنا لمفكرين عرب أو غير عرب . فماذا يمكنني أن أثيره من أسئلة ؟ وكيف يمكنني الإجابة عليها بكل وضوح ؟
ماذا يقصد بكل من المصطلحين : ” الأبعاد الإسلامية ” و ” التشكيل الثقافي ” ؟ وما هي العلاقة الجدلية التي حكمت بينهما مصطلحيا ودلاليا حتى يمكننا أن نربط بينهما في المضامين التي يحتويها تاريخ العرب الحديث ؟ وهل ثمة مضامين في ذلك خصوصا عندما نستخدم كل ما له علاقة بالثقافة ؟ سواء ما يخص ” التشكيل الثقافي ” أو ما يخص ” الوعي الثقافي ” ، فإذا أضفنا عليه صفة ” الموحد” ، وأن كلا من الاثنين قد ولدا في القرن الثامن عشر عند رأي البعض لعوامل ذاتية داخلية ، أو قد ولدا في القرن التاسع عشر عند رأي البعض الآخر لعوامل غربية خارجية ، أو انهما كانا في حالة استمرار منذ ألف سنة برأي د. رضوان ، فثمة مفارقة منهاجية بين استخدام المصطلحات وبين تسويغ المضامين بأسماء مختلفة وعناوين متنوعة !
ونبقى في تساؤلاتنا المنهجية قبل التوغل في معالجتنا النقدية : هل من بادرة عربية ( لا على مستوى المجامع اللغوية العربية الهزيلة ، بل على مستوى تفسيرات بعض المفكرين العرب المقتدرين ) من أجل تحديد ما نرّوجه من مصطلحات وتوصيفات ومسميات نشترك فيها سويا ؟؟ فلقد بدا واضحا على امتداد القرن العشرين ، أن لكل جيل من أجيال المفكرين والمنظرين العرب مصطلحاته وتعابيره وتوصيفاته .. ولكي لا يتيه المرء في بيئتنا العربية اليوم ، ومن أجل أن لا يضيع المؤرخ في عصر قادم .. فلابد أن نتوقف قليلا عند تسميات كثيرة وردت في محاضرة د. رضوان ، ومنها : الاصلاحيون / السلفيون / التحديثيون / الاحيائيون / التقليديون / المتدينيون / المجادلون / الاتاتوركيون / الإسلاميون الجدد / نهج التأصيل ( والقصد بأصحابه من الأصوليين من دون استخدام المصطلح مباشرة ) / المتغربون / المثقفون / القوميون / اليساريون / جماعات الإسلام السياسي …. الخ
وثمة إشكاليات منهاجية تسود فكرنا العربي المعاصر اليوم ، وكنت قد عالجت بعضها في غير هذا المكان ، ومنها :
1. إن هناك الكثير من كتابنا ومفكرينا العرب وحتى من مثقفينا الكبار يعالجون موضوعاتهم ويحللون أفكارهم بمنتهى الروعة ، ولكن تخونهم الذاكرة التاريخية والرؤية التاريخية فيقعون في اختلاف تقديرات التاريخ ومعلوماته الأساسية ! وهنا يغيب عنهم قياس الزمن وتحديد المراحل التاريخية وسماتها ومواصفاتها ، فيقودهم ذلك إلى استنتاجات غير صحيحة .
2. إن ساحتنا الفكرية العربية اليوم ، الداخلية والخارجية ، تعج بالكتاب والمؤلفين والمفكرين والمحللين والمنظرين .. ولكن من دون أن يلتفت أحدهم إلى الآخر ، فيسمعه أو يقرأه بإمعان ويهتم به فيطارحه ويناقشه إذ دائما ما يعد نفسه الأفضل ، فتنتفي عندنا نحن العرب الحياة النقدية النظيفة والنزيهة ، ويغيب عندنا النقاد الحقيقيون ، ناهيكم عن افتقاد أسلوب الحوارات والمناقشات النقدية الجادة التي تثري التفكير العربي من اجل المستقبل ! المصطلح والمضامين :
سؤال لابد من إثارته الآن حول اختلاف الدارسين للفكر العربي بشأن التشكيل الثقافي للوطن العربي : هل يمكننا أن نقرن الفكر العربي الحديث بالتشكيل الثقافي للوطن العربي ؟ ومن اجل أن نحدد منطلقات ظهور هذا الفكر ونقاط بدايته . وسؤال آخر لابد من طرحه حول تصادم المفاهيم : هل يمكننا أن نقرن طبيعة الإحياء الإسلامي ووظائفه في التشكيل الثقافي العربي الراهن ؟
دعونا نتأمل في ثلاثة مفاهيم تضمنهما كل من السؤالين في أعلاه : أولهما مفهوم الفكر العربي الحديث وثانيهما : التشكيل الثقافي في معناه ومغزاه . وثالثهما : طبيعة الإحياء الإسلامي ووظائفه . نعم ، هل عرفنا بأن اختلافا كبيرا يجمع بين هذه ” المفاهيم ” الثلاثة ليس من الناحية الدلالية والمصطلحية ، بل من النواحي الفلسفية وما يعّبر عنه كل مسمّى من مضامين ؟ ذلك لأن كل واحد منها له بنيته ومجالاته وتراكيبه وفلسفته ووظائفه وعناصره التي لا يمكنها أن تغيب عن الدارسين .. فالفكر وصّناعه وأصحابه هم من أبناء النخبة ( أو : الصفوة ) التي تبدع بأفكارها وآرائها ومشروعاتها واعمالها الفكرية العليا ، وبالضرورة سيكون هؤلاء من ابرز المثقفين . أما من يعد من المثقفين فهو الذي يجسد بتشكيلاته وإبداعاته الثقافية كي يكسب اعتراف مجتمعه به . والمساحة للمثقفين اكبر من نطاق المفكرين والمختصين وحتى علماء الدين ! ذلك لأن المثقف الحقيقي له مزاياه وأساليبه ووظائفه المتعارف عليها في مجتمعه ضمن الأفق واللغة والفن والمعارف في واقعه الذي يعايشه . فإذا كان المفكرون هم القلة والندرة ، فان المثقفين هم المتمايزون في حقيقة الأمر ، إذ ليس كل من حمل شهادة دنيا أو عليا من المختصين ، أو كل من حمل إجازة دينية أو غير دينية .. له سمات المثقف عالي المستوى . أما الاحيائيون ( وهي تسمية جديدة في تفكير العرب اليوم ومحببة من قبل د. رضوان ) إذ لا نجد لها أية مضامين معاصرة في الفكر العالمي المعاصر ، فيراد بها جماعات من علماء الدين الإسلامي بدءا من المصلحين السلفيين الأوائل في تاريخنا العربي الحديث وصولا إلى الإسلاميين الجدد والأصوليين الأواخر عند نهايات القرن العشرين . وتبقى البقية الباقية من جماعات وكتل وأحزاب ونقابات واتحادات وجمعيات ومنظمات .. الخ تشغل مواقع توفيقية هائمة بين مختلف المرجعيات المضطربة لأنها أصلا لم تتحدد في تفكيرها المعاني والمفاهيم وحتى الشعارات والتسميات .. فكيف تنجح في فرز المضامين وتفسيرها ؟
وعليه ، ومن خلال فرز المعاني للمصطلحات الثلاثة لابد أن يتم التفريق بشكل واضح بين الدلالات والمضامين الجزئية لكي لا يتم الخلط في كتابة أية أبعاد فكرية أو ثقافية أو دينية أو سياسية أو أيديولوجية في حياتنا العربية والإسلامية ، مع قياس أن أيا من هذه ” الأبعاد ” كان له مواصفاته وتسمياته في كل مرحلة من مراحل تلك الحياة التاريخية .
الجذور التاريخية :
هكذا ، لا يمكن أن نصف عمليات الحداثة والتحديث أو التجدد والتجديد إلا من خلال عوامل تاريخية معقدة ومتشابكة داخلية وخارجية ساهمت في منطلقات بنية التشكيل النهضوي ( لا الثقافي ) والإصلاحي ( لا الفكري ) ! وسواء اختلف الدارس والباحث مع من طرح عامل ” صدمة الغرب ” كأحد أبرز العوامل الخارجية في القرن التاسع عشر ، أم مع من طرح عامل التجديد والإصلاح الداخلي في الإرث العربي الإسلامي ( لا التشكيلة الثقافية العربية الإسلامية) مع القرن الثامن عشر ، فان ثمة ملاحظات هناك لابد من رؤيتها في هذا الصدد وخصوصا عند أولئك الكتاب الذين يجازفون بآرائهم واحكامهم بعيدا عن فهم ما جرى من متغيرات تاريخية قوية في بعض دول العالم الإسلامي الحديث ومجتمعاته .. أقول العالم الإسلامي ولا أقول بمصطلح ” دار الإسلام ” الذي لم يعد قابلا للفهم في القرون المتأخرة مقارنة بمعانيه الأولى التي انبثق عليها عند الجغرافيين العرب المسلمين الأوائل ، ويكفي ما عالجه بهذا الصدد اندريه ميكال في أطروحته المتميزة قبل اكثر من ربع قرن .
أولا : إن اكثر من مشروع في التجديد قد طرح في اكثر من مكان في العالم الإسلامي ليس في القرن الثامن عشر ، بل منذ القرن السابع عشر ، ويكفي أن نعتني تاريخيا بمحتوى أفكار إبراهيم متفرقة ومشروعه التجديدي في تاريخ الدولة العثمانية ، أو نتوقف قليلا عند تجديدات شعراء إيران وأدبائها المتميزين في التشكيلة الثقافية الفعلية ، أو تحديثات المعماريين والمهندسين في الهند ، أو حتى ملاحظات وانتقادات الشيخ محمد الفكون في الجزائر ..الخ وكلها لم تكن إحيائية أو أنها قد صيغت ضمن هيئة المقاصد بأيدي رجال أو علماء دين ، بل إنها أفكار ومشروعات أنجزها رجال مدنيون مثقفون كانوا يتأثرون ليس بمحيطهم وبيئاتهم حسب ، بل بالعالم كله الذي كانوا يسمعون عنه الكثير !
ثانيا : لم يكن المؤرخ بيتر غران وحده قد طرح فكرة تبلور بعض التجديدات والأفكار الإصلاحية الدينية ( لا التشكيلة الثقافية العربية الإسلامية ) في التفكير والتي جاءت متأخرة عما طرحه أستاذنا البرت حوراني بشكل خاص ولكن بصورة مقتضبة في محاضرة له بجامعة اسكس عام 1979 ، ثم جاء من بعده آخرون كشفوا عن تبلور نزعات في التجديد الداخلي لقسمات جغرافية معروفة من البيئة العربية إبان القرن الثامن عشر ! صحيح أن البرت حوراني وبيتر غران وغيرهما قد قالوا بظهور ذلك ولكنهم لم يقولوا بتكوينه ، لأن التجديد لم تتضح معالمه إلا في بدايات القرن التاسع عشر، وخصوصا في عهد السلطان سليم الثالث 1789-1807م .
الاستعمار : الحلقات التاريخية
لابد لنا ونحن نحلل مصطلح ” الاستعمار” لمعرفة تجاربه الصعبة وآثاره القاسية في العالم الإسلامي تاريخيا أن نفّرق بين طبيعة تلك ” التجارب” وتطورها بشكل مخيف في العالم كله على امتداد العصر الحديث . إننا بالقدر الذي نقايس أي تجربة أو ظاهرة تاريخية حسب متغيراتها في كل مرحلة ، فلابد أن ندرك بأن الغرب قد لازمته جملة من المتغيرات الكبرى في كل مرحلة تاريخية . صحيح أن الغرب قد ظهر في المشرق في مرحلة سابقة على القرن التاسع عشر ، لكنه لم يبدأ عندنا منذ القرن السابع عشر ، بل بدأ بتمثيل نفسه في مناطق حيوية من شواطئ البحار الشرقية ويؤسس جذوره من خلال امتداداته البحرية في القرن السادس عشر ، والتي لم يكن لها تأثير مباشر على البنى الداخلية : الفكرية والدينية والثقافية في حياة العالم الإسلامي .. ولكن تجارب الغرب تفاقمت بشكل اكبر في القرن السابع عشر وخصوصا من الناحية التجارية في عصر الماركنتالية العالمية ، وهي تجارب لم تؤثر أيضا في مفاصل العرب والمسلمين !
وجدت المتغيرات السياسية الغربية ركائز عملية لها في بعض المدن الكوسموبوليتانية من العالم الإسلامي والعربي خصوصا ، وخصوصا في مدن المشرق من النواحي التبشيرية وتأسيس بعض المدارس والقيام برصد أحوال بعض البيئات الحيوية من قبل كل من إنكلترا وفرنسا والتي ستنطلق بحملة بونابرت على مصر وبلاد الشام عند نهايات القرن الثامن عشر ، كي تشكل فعليا صدمة حضارية صاعقة مباشرة ! وعندما يؤسس البعض من المفكرين العرب كل منتجات البدايات النهضوية في العالم العربي والإسلامي لتحديد زمن المنطلقات الأولى تاريخيا ، فانهم ينسون أو يتناسون حجم التأثيرات الواسعة للغرب على ذلك العالم في القرن التاسع عشر نتيجة لتفاعل عوامل تاريخية معقدة لم يكن لها وجود قبل ذلك ، ومنها :
1. حجم المتغيرات القوية في الغرب نفسه بتأثير انطلاقة الثورة الصناعية وخصوصا في غربي أوروبا والحاجة الملحة إلى المواد الخام والأسواق .
2. الضعف التاريخي الذي حاق بدول العالم الإسلامي وخصوصا بكل من الدولة العثمانية وإيران والهند وسلطنة المغرب الأقصى وغيرها .
3. صدور قانون الامتيازات العثمانية والذي منح الغربيين مجالا واسعا وفعالا في الامتداد الرسمي والإقامة والتملك وتأسيس بعض الأجهزة والمؤسسات بحجة حماية الاقليات . وكان ذلك ” القانون” من اعتى المؤثرات التي ساقت أعدادا كبرى من جاليات الغربيين لزرع أنفسهم قانونيا في بلدان مهمة من العالم العربي والإسلامي على امتداد مراحل القرن التاسع عشر ، وهذا ما حدث في كل من مصر وتونس والعراق وبلاد الشام .
4. الإعجاب والتيه والانبهار منقطع النظير بالأوربيين ( وخصوصا بالفرنسيين والإنكليز ومن ثم بالألمان ) من قبل عدد كبير من الزعماء العرب والمسلمين في القرن التاسع عشر ، وكان من أبرزهم : السلطان سليم الثالث في الدولة العثمانية والوالي محمد علي باشا والخديوي إسماعيل في مصر والباي حموده باشا في تونس والوزير داود باشا والي العراق والأمير بشير الشهابي الثاني في لبنان وأبو الدستور العثماني الوزير مدحت باشا وغيرهم .
5. غاب عن معظم المؤرخين العرب والمسلمين حجم التدفق اليهودي على ارض فلسطين منذ بدايات القرن التاسع عشر ، وبالذات منذ الحملة الفرنسية على مصر وبلاد الشام انتقالا إلى دور إبراهيم باشا ( ابن ) محمد علي باشا في حكم بلاد الشام 1831-1840 وصولا إلى عهد السلطان عبد الحميد الثاني 1876-1909، معتقدين بشكل راسخ أن البداية التاريخية للهجرة اليهودية قد جاءت مع المؤتمر الصهيوني الأول في بال بسويسرا على يد المؤسس الصهيوني هرتزل عام 1879. وقد أظهرت وثائقيا في دراسة نشرها لي الأخ د. رضوان السيد في مجلته الزاهرة ” الاجتهاد ” ( العدد 44 في خريف 1999 ) حجم ذلك التدفق على امتداد القرن التاسع عشر ، وسكوت الدولة العثمانية عن ذلك وقد كانت على خطأ استراتيجي وتاريخي بطبيعة الحال !
6. زيادة حركة الاتصالات وعوامل النشر والبعثات والترجمة والدبلوماسية ودور المستشرقين والاثاريين والمبشرين والجمعيات الاستشراقية والرحالة الأوربيين والأمريكيين وتأسيس الجاليات وإنشاء المدارس الدينية في عدد من بلدان العالم العربي والإسلامي وبالذات في البعض من مدنه الحيوية في القرن التاسع عشر .. كلها زادت من حجم الصدمة والتأثير .. ناهيكم عن تأثير حجم الاستيرادات والمصنوعات والتجارة واستقبال الناس في الأسواق لكل ما هو جديد قادم من أوروبا ! وصولا إلى تبديل الأزياء والاقتداء بالأوربيين فضلا عن التأثر المباشر بالثقافة الأوربية وما أحدثته الثورة الصناعية من اكتشافات مثيرة كالبرق والمواصلات والصحافة والطباعة .. الخ وهنا علينا أن نفهم كم هي حصيلة التأثيرات التاريخية في تشكيل الوعي الموجب والسالب في العالم العربي والإسلامي .
7. تبدل المفاهيم السياسية في أوروبا نفسها إزاء المنظومات الفكرية والسياسية القديمة التي بدأت تتفكك وتنزاح شيئا فشيئا عن مواقعها بتأثير الاستنارة الفكرية التي عاشتها فرنسا قبيل ثورتها الشهيرة عام 1789 ، والتي ستتجسد عمليا في القرن التاسع عشر لدى صناع القرار الأوربيين بتبلور نظام دولي ساد في أوروبا بعيد مؤتمر فيينا عام 1815، وبداية مرحلة تاريخية استعمارية كولينيالية لها أساليبها العسكرية يهندسها ذلك ” النظام ” الدولي على امتداد قرن كامل أي حتى الحرب العالمية الأولى عام 1914 ، كي تبدأ مرحلة تاريخية جديدة في القرن العشرين وولادة نظام دولي آخر بعد مؤتمر فرساي عام 1919، تمثله كل من الإمبريالية الرأسمالية والشيوعية العالمية على امتداد عقود القرن المنصرم وبأساليب سياسية . ولقد غادرنا هذا النظام الدولي كي يفكر الغربيون اليوم ويطلقون الدعوات لتبني نظام دولي جديد أسموه بـ ” النظام العالمي ” الذي سيسود على امتداد القرن الحادي والعشرين ، ولكن ضمن أساليب اقتصادية كابيتالية . وهنا علينا أن نفهم كم هي حصيلة المؤثرات الخارجية السرية والمعلنة ليس على حياتنا الاجتماعية مباشرة ، بل على حياتنا السياسية وحتى على هندسة خرائط دولنا في العالم العربي والإسلامي !
تفكيرنا في دواخلنا : استجلاء الرؤى المعرفية
دعونا نتوقف الآن عند ثلاث ظواهر . يقول رضوان السيد : ” لا ندري حتى اليوم مدى ترابطها أو تلاؤمها ، وهي التجدد أو الإحياء السلفي ، وكانت قضيته التوحيد ومكافحة ألوان الإسلام الشعبي ، والأحياء الصوفي ، وكانت قضيته استحداث مجالات جديدة للتواصل والتضامن ، والإصلاح الفقهي ، وكانت قضيته التلاؤم مع المتغيرات ” . ويستطرد متابعا : ” وقد استمرت هذه الظواهر وتعمقت في القرن التاسع عشر ، فلا يمكن القول من هذه الناحية أن الأوربيين أحدثوا قطيعة بين القرنين أو التجديدين .. وهذا يخفي اعتقادا راسخا بأن العالم الإسلامي – ومن ضمنه بلدان الوطن العربي – مر بعصور انحطاط وجمود استمرت حوالي الألف عام . وهذا الاعتقاد الذي تكرر كثيرا لدى الإصلاحيين والاحيائيين والتحديثيين على حد سواء .. فظل واردا سواء ذهبنا إلى أن النهوض بدا في القرن الثامن عشر ، أو تسبب به المستعمرون في القرن التاسع عشر ! ” .
ومن خلال تحليل الاعتقاد الذي رسخه الاصلاحيون والاحيائيون والتحديثيون بأن الانحطاط هو سمة الحياة التي سبقتهم .. حتى يصل الباحث الى نتيجة تقول بعد مخالفته كل من السلفيين الإصلاحيين والقوميين والتحديثيين آرائهم في انحطاط الأمة ، يقول : ” والواقع إن الدراسات والبحوث التي أجريت في العقود الأخيرة ، كان ينبغي بالجديد الذي أتاحته ، أن تزيح النظرتين على حد سواء ، اعني نظرة النهوض الذاتي في القرن الثامن عشر ، أو النهوض بالغرب في القرن التاسع عشر . إن الذي حدث أننا ظللنا نتقدم بالخطوات الكلاسيكية المعروفة ، وسط المثلث الحضاري الذي كان سائدا وكنا نحن طرفه الأقوى : دار الإسلام والصين وأوروبا . ثم كان أن خطى الضلع الأوروبي من أضلاع المثلث خطوات واسعة إلى الأمام ، في حين ظللنا نحن والصين نتقدم بالخطوات الوئيدة المعروفة في التشكيلة الثقافية والتاريخية ، فلسنا نحن الذين انحططنا أو تأخرنا ، بل الأوربيون هم الذين تقدموا بوتائر متسارعة ، حتى أتيح لهم أن يستأثروا بالسيطرة على العالم أواخر القرن الثامن عشر ، وليس قبل ذلك ” ( جريدة الحياة ، العدد نفسه ) .
ثمة أسئلة تثيرها قراءة هذا ” النص” الخطير ، منها : هل استطاع الباحثون والمؤرخون عربا كانوا أم غير عرب ، أن يكتشفوا ما يزيح النظرتين المسيطرتين على حد سواء والمذكورتين في النص أعلاه ؟ وهل بقي العرب وسواهم من شعوب العالم الإسلامي يتقدمون بالخطوات الكلاسيكية المعروفة ؟ وهل كان المسلمون في عالمهم الذي اسماه النص بـ ” دار الإسلام ” هم أصحاب الطرف الأقوى في وسط المثلث الحضاري الذي كان سائدا : دار الإسلام والصين وأوروبا ؟ وكيف لم يتأخر العرب وغيرهم من شعوب العالم الإسلامي عن الأوربيين حتى لو اقتنعنا بأن الأوربيين قد تقدموا بوتائر دينامية متسارعة عبر عنه بعض المفكرين المعاصرين بمصطلح ” التسارع التاريخي ” ؟ وهل بصحيح أن الأوربيين قد أتيح لهم أن يستأثروا بالسيطرة على العالم أواخر القرن الثامن عشر ؟ صحيح انهم استأثروا بذلك ليس قبل القرن المذكور ، ولكن ليس عند تلك الأواخر منه ، بل في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وخصوصا بعد تبلور الثورة الصناعية في أوروبا !
أقول : بأن العرب والمسلمين كما يتبين من دراسات معمقة وعلمية وموثقة لتواريخهم الحديثة ، وما اكتشف إلى حد اليوم لم يتركوا لنا نحن المؤرخين ما يجعلنا حتى هذه اللحظة نجازف بإزاحة كل من النظرتين إذا ما فهمنا طبيعة معنى التشكيل الثقافي وانساق البنية الحضارية وخصوصا المعرفة العربية الإسلامية حسب سلاسلها الحلزونية على امتداد الوحدات التاريخية الكبرى (= العصور ) وما تتضمنه من وحدات تاريخية صغرى (= الأجيال ) خلال ألف سنة مما نعد في حياة تاريخنا الحافل والصعب .
وأقول : بأن العرب والمسلمين لم يتقدموا بخطواتهم الكلاسيكية المعروفة حتى وان كانت وئيدة مثقلة ، بل تعلمنا طبيعة تواريخهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية أن انحدارا تاريخيا مفجعا قد حصل على امتداد القرون المتأخرة لكي يصلوا إلى حالات لا أقول بأنها منحطة حسب تعبير المؤدلجين القوميين ومنهم ميشيل عفلق ، أو إنها مظلمة حسب توصيف الليبراليين العرب ومنهم طه حسين ، أو إنها ” متوقفة عن النمو ” حسب تفسيرات فيلسوف التاريخ المشهور آرنولد توينبي ، أو إنها متأخرة حسب تحليلات أقوى المستشرقين ومنهم هاملتون كب ، أو أنها تراجعية حسب تعليلات مؤرخ منصف مثل البرت حوراني ، أو أنها مسكونية حسب شروح بعض مؤرخ مختص مثل مجيد خدوري .. أو أنها ” منحدرة ” حسب سلسلة ما كتبه واحد من المؤرخين العرب المعروفين : محمد اسعد طلس ، أو إنها ” سكونية ” حسب رؤيتي المتواضعة لها ! إذ يكفي أن يتعمق الدارس في المأثورات الحضارية والثقافية الفعلية في عالم العرب والمسلمين على امتداد الأجيال التي عاشت في القرون الأربعة الأخيرة ، ليدرك بأن انسحاقا عارما قد عاشته اغلب القسمات الحيوية المدينية وغير المدينية وخصوصا في معطياتها الحضارية وتشكيلاتها الثقافية وبنيوياتها الاجتماعية وأحوالها الاقتصادية ! مقارنة ما حصل عند شعوب أخرى في الشرق .
وأقول: بأن العرب والمسلمين لم يكونوا أصحاب الطرف الأقوى في وسط المثلث الحضاري الذي كان سائدا : (دار الإسلام ) والصين وأوروبا ! ربما عاشت دولا قوية برية وبحرية في العالم الإسلامي على امتداد القرون الخمسة الأخيرة وأبرزها دولة السلطنة العثمانية ودولة الشاهات الإيرانيين في فارس ودولة الخانات المغول في الهند ودولة السلاطين السعديين والعلويين في المغرب الأقصى ودولة الأئمة اليعاربة والسلاطين البوسعيديين في عمان وزنجبار .. ولكن ليس معنى ذلك أن العالم الإسلامي قد خلا من صراعات تلك القوى داخليا ! وليس معنى ذلك أن تطور الأجهزة السلطوية عصر ذاك قد رافقه تطور في المؤسسات السياسية والبيرقراطية أو في التشكيلات الثقافية أو فعاليات نشيطة في البنى الاجتماعية والاقتصادية .. الخ
معنى التشكيل الثقافي :
إن التشكيل الثقافي يعني بكل بساطة ووضوح مجموعات هائلة ومركبة ليس من منتجات الفكر فقط كما يتصور البعض ، بل من منتجات الحياة الفكرية والسياسية ومواريث المجتمع وعاداته وتقاليده وفولكلورياته وآدابه وفنونه وإبداعاته .. فضلا عن دور ذلك ” التشكيل” في إغناء مؤسسات الدولة بالمشروعات الدستورية والقانونية والمدينية والعمرانية والخدمية والسكانية والإعلامية .. الخ ناهيكم عن دور ذلك ” التشكيل ” في تطوير المجتمع وتربوياته وعلومه ومعارفه وأساليب حياته وتنمية تفكيره ومدارسه وجامعاته وانديته وملتقياته ومعارضه ووسائل راحته وملاعب أطفاله .. إضافة إلى دور ذلك ” التشكيل الثقافي ” في تحديث الحياة الاقتصادية ومجالاتها النفعية والأسواق والاستثمارات والبنى التحتية وعمليات التبادلات والمواصلات والاتصالات والتسويق والبنوك واحترام ساعات العمل .. الخ
إن حصيلة ما يقدمه ” التشكيل الثقافي ” في أي أمة تسعى نحو التطور والتحديث هو جزء أساسي من عملية المنجز الحضاري .. ومن دون شك ، فان المفكرين الاصلاء من المثقفين الحقيقيين في أية أمة تحترم نفسها وتاريخها ، إنما يقفون على رأس ذلك ” التشكيل ” فمنهم المستشارين ومنهم المساعدين ومنهم التكنوقراط ومنهم المبدعين .. وكلهم لابد أن يشاركوا صانع القرار في الخطط والمشروعات التي تعمل أساسا من اجل المستقبل على أسس علمية من اجل التغيير لا من اجل الإصلاح ومن اجل التحديث لا من اجل التراجع .. ويبقى الاحيائيون مهما كانت فصائلهم وتوجهاتهم من تقليديين وإصلاحيين وسلفيين وأصوليين .. وغيرهم أن يقيموا جسور حوار مع المثقفين من اجل أن تكون لهم مشاركاتهم ومنافعهم الحيوية في عملية الإرشاد والتهذيب وزرع مكارم الأخلاق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وان يؤمنوا بالثقافة الحديثة ويشاركوا في مجالاتها الخصبة أدبا وشعرا وفنا وغناء ورسما ونحتا وموسيقى .. فكرا وفولكلورا وحداثة وإعلاما ومتغيرات اجتماعية وسياسية وتعلم لغات .. قوانين وتحديثات وسياسات واتجاهات وحريات وحقوق عمل ومتطلبات واقع واشتغال المرأة .. الخ وكل ذلك لا يتعارض أبدا مع الإسلام في جوهره الناصع ومبادئه السمحاء ومعتقده الراسخ وسموه وتجلياته العظمى ، وبعكسه فان الحياة الحديثة والمعاصرة تطالب من يقف ضد أي نوع من تشكيلها الثقافي أن لا يستخدم وسائلها المتطورة ومنتجاتها التكنولوجية المفيدة وإبداعاتها الخدمية الرائعة وأساليب الاتصالات والمواصلات الجديدة .
كيف نفهم فلسفة التشكيل الثقافي عند العرب والمسلمين ؟
من أجل توسيع الرؤية في فهم هذا ” المصطلح ” ( أو : التعبير) والتعمق في فلسفته ، فلابد أن ندرك بأن مصطلح ” الثقافة” نفسه ، إنما هو نحت لغوي ومعرفي عربي مستحدث لا يرقى استخدامه لأكثر من سبعين سنة ، فهو وليد القرن العشرين . وعليه ، فان معانيه الجديدة لا تنطبق بالضرورة على عناصر ومنتجات ومنظومات تجد مرجعياتها في مواطن لا علاقة لها به أصلا ، فضلا عما لحق به من دلالات واستخدامه في عدة من التوصيفات المعاصرة كالوعي الثقافي والتبادل الثقافي والعلاقات الثقافية والعناصر الثقافية والمؤسسات الثقافية والنخب المثقفة والغزو الثقافي والملحقيات الثقافية والمنظمات الثقافية .. الخ وعليه ، فان الثقافة والمثقف ربما يستفيدان من عناصر التراث ، أي تراث ، مهما كانت طبيعة ذلك ” التراث” من اجل أن يوظف التراث أو يستفاد منه في المنتجات الثقافية الحديثة والمعاصرة ، ولكن التراث نفسه والتراثيين أنفسهم مهما كانت طبيعتهما ، فلا يمكن أن يكونا ضمن الهيئة أو النخبة أو العناصر أو البنى الثقافية الحديثة والمعاصرة .
ولنا أن نتصور قوة التحولات في التشكيلات الثقافية التي حدثت في العالم العربي والإسلامي إبان القرن التاسع عشر ومؤثراتها النفسية والاجتماعية ، ومنها مثلا : تغيير واضح في أساليب الحياة ، وتغيير جملة كبرى من سكان المدن لأزيائهم باستحداث الأزياء الأوربية ، ثم العمل والانتظام في تطبيق الأنظمة والقوانين والخطط الجديدة التي أقرتها دول العالم الإسلامي ، مع استحداث المدارس المدنية والانتظام فيها ، ثم مواجهة صدمات متتالية كانت تثير التساؤلات على اقل تقدير إن لم تكن تثير الاندهاش ومنها السفن والموتورات البخارية ثم الرسائل البرقية والتلكرام وانتقال الأخبار بواسطة الصحف التي لم يكن لها وجود قبل القرن التاسع عشر ، وصولا إلى انبثاق الفنون الجديدة كالرسم والمسرح وثمة قصص خيالية كانت تروى بصدد مشاهدة الصور الفوتوغرافية .. الخ من المعالم والتقنيات والتشيؤات الثقافية التي أثارت الوعي عند العرب والمسلمين قبل غيرها من الأمور كالكتابات والشروحات ! وصولا إلى صدمات متتالية اثارها وصول الغرامافون والراديو والسينما .. ثم التلفزيون والأقمار الصناعية .. وهلم جرا في القرن العشرين ! المشكلة التي يمكن لأي مفكر عربي ان يدركها في قراءة التشكيلة الثقافية العربية تمييزه بين جنسين من المخلوقات العربية : جنس تصنع منه الصدمات والتفكير بالتشيؤات الحديثة وعيا يدفعه للابداع ، وجنس في منتهى الغباء لا تصعقه المستحدثات ، اذ قفل على نفسه ولم يفكر أبدا بقيمة ما يتمتع به من تلك التشيؤات الدنيوية ! فالجنس الأول يمكنه أن يبدع فيغدو من المثقفين ، والجنس الثاني لا يمكنه البتة أن يكون جزءا من التشكيلة الثقافية .
هكذا نستنتج بأن معالجة الأبعاد الإسلامية ومنها مسألة الإحياء الإسلامي مهما بلغت توصيفاتها ومعانيها وعناصرها ، فلا يمكنها البتة أن تعد ضمن سياقات ما يعرف بالتشكيل الثقافي ، فالأبعاد الإسلامية شيء والتشكيل الثقافي شيء آخر ! إذ أن ذلك الإحياء الإسلامي لا يمكن اعتباره وعيا ثقافيا بالاستمرارية على رغم ظهور التغير في توظيفات عناصر التشكيلة الثقافية ! ربما تكون جذور المثقف دينية : تقليدية أو سلفية أو إصلاحية أو إحيائية أو حتى أصولية .. وغير ذلك مما اصطلح عليه ضمن الأبعاد الإسلامية في السنوات الأخيرة ، وما روجه العديد من المفكرين العرب خصوصا ، ولكن تدلنا السلاسل الضخمة من الأحداث والتراجم والسير لعدد كبير من المثقفين أن ثمة فصل قاطع بين أولئك الذين نطلق عليهم بعلماء الدين المسلمين من الشيوخ الإجلاء وبين أولئك المثقفين الذين يشكلون نخبة من رجالات ونسوة امتلكوا الوسيلة والأداة في الثقافة ووصلوا إلى درجة معينة من الوعي الثقافي .. وثمة رجالات عرب كانوا قد اختطوا بداياتهم ليصبحوا علماء دين ، ثم حصلت لديهم قطيعة كاملة وفصل واضح بين هذا وذاك فغدوا من كبار المثقفين .. وهذا ما وجدناه عند رفاعة رافع الطهطاوي وطه حسين واحمد أمين وغيرهم . وكان الشيوخ من علماء الدين على الدوام ومهما كانت طبيعة توجهاتهم ينكرون فكر وثقافة من يبرز عندهم من الرجالات ، وهذا ما لمسناه على امتداد قرن كامل في اكثر من تجربة ، إذ لا يمكننا أن ننسى ما حصل للسيد جمال الدين الأفغاني أو ما حصل للشيخ علي عبد الرازق وغيرهما .
هكذا ، نتساءل إذن : هل كان رفاعة من الاحيائيين الاسلاميين وهو يكتب في مسائل الحرية والدستور والنظام الفرنسي ؟ وهل كان خير الدين باشا كذلك وهو يكتب عن نظام دستوري جديد ربما أراد ان يكون توفيقيا من خلال تأكيده على المصالح ، علما بأنه كان مثقفا سياسيا ولم يكن عالما وشيخا في شؤون الشريعة والفقه ؟ وهل كان غيرهما من المصلحين والمجددين من الاحيائيين الإسلاميين الجدد وقد جعلوا من المرجعية الأوربية معولا لهم وركيزة في تفكيرهم من اجل بناء مؤسسات جديدة وأفكار مستحدثة ؟ فإذا كانوا قد انتصروا لبعض القيم الإسلامية الفكرية ( وحتى : الشرعية أو الفقهية ) ، فليس معنى ذلك انهم قد نفوا سعيهم لبناء مؤسسات على الطراز الأوربي ، وهذا لوحده يكفي أن يصنفهم الدارس والباحث والمؤرخ في عداد المثقفين والمفكرين لا في عداد الشيوخ وعلماء الدين !
استنتاجات معرفية :
نخلص إذا بأن المفكرين والمصلحين العرب والمسلمين من المثقفين الحقيقيين ( لا الاحيائيين الإسلاميين) قد غلبوا الوعي بالآخر ومنظوماته وتفكيره ومؤسساته نتيجة تأثرهم بثقافاته بحيث لم يستشعروا أي خطر منه !! ولابد أن يعترف اغلب كتابنا ومفكرينا بذلك ، ويوضحوا بأن رجالات الأمس من النهضويين الأوائل كانوا حقا من المثقفين الأقوياء مهما كانت طبيعة توجهاتهم وفلسفاتهم وعقائدهم وانتماءاتهم وابداعاتهم في شتى الحقول .. في حين تدفق الاحيائيون المعاصرون اليوم بعيدا جدا عن الوعي بالآخر وقد تجاهلوا المسألة الثقافية ، بل ووصل الأمر اليوم عند بدايات هذا القرن الجديد أن يحرموا ويعدموا بعض المنتجات الثقافية ، نظرا لانتفاء الوعي الثقافي عندهم وينشروا الرعب حول كل جديد أو مستحدث أو متطور أو مبدع مرة تحت شعار الحفاظ على الهوية ، ومرة تحت استقلال الذات ، ومرة باسم الحلال والحرام !! علما بأن هناك بعض المفكرين الإسلاميين العرب لهم درجة عالية من الثقافة ولهم كتاباتهم في الفن والأدب والحياة . إن مجرد خداع النفس بأن الاحيائيين هم من المجددين في الثقافة هو عملية تشجيع لتكريس التراجعية ليس عن الثقافة المعاصرة بل عن الإسلام نفسه الذي عرف على امتداد حياته بسماحته أمام تطور سنن الحياة وحاجة المسلمين أنفسهم إلى التطور في كل مفاصل حياتهم ، ولابد أن يشكل التاريخ وعاء حقيقيا لدراسة تجارب المسلمين على امتداد العصور وتجاذبهم لمختلف المعطيات الحضارية والثقافية .
أريد القول أيضا وباختصار شديد أن التشكيل الثقافي دلالة ومضمونا لا علاقة له البتة بالسلفيين والتقليديين والأصوليين ! وربما استفاد الاصلاحيون والبعض من التوفيقيين من عناصر تاريخية أو تراثية أو فقهية في محاولة للتوسط بين التراث والتاريخ والإسلام من طرف وبين الثقافة المعاصرة والحداثة والمفاهيم الجديدة من طرف آخر . والأمر واضح جدا لكل دارس وباحث ومفكر في أن يفرز رجالات من علماء دين أمثال : الشيخ ابن تيمية والشيخ حسن العطار وصولا إلى الإمام حسن البنا وأبو الأعلى المودودي وانتهاء بالشيخ يوسف القرضاوي .. وغيرهم من الشيوخ الاجلاء عن رجالات آخرين لهم علاقة بالتشكيل الثقافي الحقيقي أمثال : مدحت باشا ومحمد إقبال وشكيب ارسلان واحمد لطفي السيد وطه حسين وعبد الرزاق السنهوري وإسماعيل مظهر وولي الدين يكن وجميل صدقي الزهاوي وصولا إلى حسين مروة وفؤاد زكريا ورضوان السيد .. وغيرهم من المثقفين الاصلاء …
نشرت في جريدة الحياة ، لندن ، العدد 13933بتاريخ 9 /5/2001.
Check Also
على المشرحة.. لا مواربة سياسيّة في الحوار العلمي (الحلقتان الثالثة والرابعة)
ثالثا : الاحرار العرب : مستنيرون لا خونة ! 1/ اخطاء تاريخية وتحريف للتاريخ ويستكمل …