مدخل له معنى
دعوني اليوم قرائي الاعزاء ان اتحّول معكم الى عالم جديد ربما تستغربوا انني اليوم سانفرد في معالجته بعيدا عن الفكر والسياسة ومشكلات العراق .. اذ انني ساتطرق ناقدا وموضحا ما قدمه برنامج ( الاغاني ) العراقية في قناة الحرة الفضائية .. وهو الوجه الاخر للعراق الناصع ، والذي لم يسمح لنا الزمن الصعب من معالجته ، فهو وجه حضاري وثقافي لابد ان يكتشفه العالم كله بعد ان غيبّه العهد السابق لعقود من السنين . واسمحوا لي بمعالجته نقديا ، اذ اني لي ثقافة متواضعة في اساليب عالم الفن وتاريخه الوضاء بالعراق .
كيف نحلل اهمية برنامج ” الاغاني ” على الحرة عراق ؟؟
يبدو انني سابقى الاحق نقديا وبكل صراحة وشفافية كل من يخطئ تاريخيا كي احاول أن اقدّم ما اراه صائبا – كما ارى – حتى وان يؤثر ذلك على وقتي المخصص للبحث العلمي . لقد تابعت بشغف كبير على شاشة قناة ” الحرة عراق ” الفضائية برنامج ( الاغاني ) المختص بالاغاني العراقية في القرن العشرين ، والبرنامج سلسلة من الاختيارات لنماذج قوية من الاغاني المشهورة في كل عقد زمني من القرن الماضي .. واعتقد انه البرنامج الاول بمثل هذا الشمول وهذا الاختيار الجاد الذي تخضع له الاغنية العراقية الحديثة من قبل قناة اجنبية تختص بميراث العراق في الفولكلور الغنائي .
لقد كنت قد وعدت القراء الكرام في مقال سابق انني ساكتب ملاحظاتي عن هذا ” البرنامج ” عندما كتبت مشيدا بقناة الحرة الفضائية ، وهي ملاحظات نقدية لها فائدتها كما ازعم خصوصا اذا ما علمنا بأن التراث الغنائي العراقي يمتلك كنوزا قوية من الالوان والاساليب والمقامات والمدارس والانماط والخصوصيات والتفرعات والاصوات واللزمات والاشعار والفضاءات .. التي لم يمتلك مثلها اي مجتمع عربي آخر فضلا عن ثراء الالحان والخواص والفنانين المتنوعين مع تنوع البيئة العراقية التي يعّبر كل نوع منها على لون حقيقي فيها . لقد عاش المجتمع العراقي بكل هذا الثراء الفني والثقافي والفولكلوري زمنا طويلا ، ولكنه عزل عن تطوير امكاناته وصقل مواهبه . لقد بقي المجتمع العراقي مكبلا بالاغلال لعقود طوال من السنين ، ولم يعرف عن العراقيين المتأخرين شيئا عن اشاعة ثقافتهم الغنائية الا زهيدا لمن هم في خارج حدود العراق .
وانني اذ اكتب ملاحظاتي النقدية هذه ربما يسأل سائل : وما علاقتك انت بهذا العالم ؟ اقول : انها علاقة قوية انجذبت اليها منذ صغري ، ولدي المام لا بأس به في تاريخ الفن العراقي ومعرفة موسّعة باسماء رجاله ونسائه . وفي الحقيقة ، ان الذي يضطرني الى ان اسعى لكتابة ملاحظات او ارفع مكاشفات او اطرح تساؤلات هو ما اسمعه وما اراه وما اقرأه من مغالطات واخطاء ونواقص وجهالة .. لا احتمل وجودها ابدا . ان ما ساكتبه هو مجرد ملاحظات تبادرت الى ذهني لما سمعته من آراء شفوية واحكام قاطعة اطلقها بعض الاخوة المحكمين الثلاثة ( او : الاربعة ) الذين تباينت رؤاهم وتخصصاتهم واذواقهم ، بل وحتى ومعلوماتهم في ما طرحوه من تعليقات على النصوص والاغاني والموسيقى والمطربين والمغنيات وعلى اغلب الاعمال المختارة للفنانين العراقيين الكبار الذين أغنوا الحياة الفنية العراقية ابان القرن العشرين .
اولا : جذور التاريخ
لا يمكن أن نجد فضاء واسعا وكبيرا ومتنوعا كما هو فضاء الاغاني العراقية وما يتصّل بها من موسيقى وفنون وحناجر وكلمات واشعار والحان وانغام ومقامات والوان واشكال ولزمات وعرب موسيقية وشخصيات من كل بيئات العراق .. ولا يمكن ان نجد أوسع مما يعرفه العراقيون منذ مئات السنين وحتى اليوم . انني اعتبر فضاء فنون غناء العراق المتنوعة ارحب فضاء تشهده اي امة من الامم في منطقة الشرق الاوسط .. بكل موروثاته الفولكلورية ومدارسه الثقافية وتلوناته الحضارية واشكاله البيئية وتقاليد مقاماته المتنوعة . ولقد شهدنا بأن عقود القرن العشرين كانت حصيلة او خلاصة تاريخ حضاري طويل وعريق من فن الغناء الذي عرفه العراقيون منذ الاف السنين ، بل وعرف العراقيون الموسيقى والالات الموسيقية منذ العصور الكلاسيكية القديمة .. فضلا عما شهده العراق ابان العصور الوسطى وخصوصا في العهود العباسية وبروز عمالقة في الفنانين المبدعين ، امثال ابراهيم الموصلي واسحق الموصلي وكان الموسيقار زرياب قد تأثّر بهما ، ويكفي ان اهم كتاب في الموسيقى كتبه الفيلسوف الفارابي اسمه ( كتاب الموسيقى الكبير ) الذي يتضمن اسسا علمية في العلوم الموسيقية وقد كتبه قبل اكثر من الف سنة !
ثانيا : مرحلتان من الحياة الى اليبوسة
لقد تنوع فن الغناء بالعراق على عدة مراحل ابان القرن العشرين متواصلا عن ارث عتيق وصلنا من القرن التاسع عشر .. وتدفق فن الغناء العراقي بكل تنوعاته على امتداد عهدين تاريخيين من حياة الدولة العراقية المعاصرة : العهد الملكي والعهد الجمهوري .. فلقد تطور تطورا مدهشا على امتداد اكثر من اربعين سنة 1921- 1963 .. ثم بدأ عهد آخر لاربعين سنة اخرى 1963 – 2003 ، انقسمت الى قسمين اثنين اولاهما مرحلة لها قوتها وعطاءها حتى العام 1979 وثانيهما مرحلة عهد صدام حسين 1979 – 2003 الذي جعل الموسيقى والغناء كله لتمجيد بطولاته والصراخ ( والدبك ) من اجله ! واعتقد ان العراق بدأ منذ 2003 مرحلة تاريخية جديدة ستختلف عن المألوف الذي تركه العراقيون فجأة بعدما اشبع عقلهم الباطن به لسنوات طوال .. واعتقد ان القرائح لم تمت وان المواهب تنتظر زمنا آمنا ومناخا ملائما وظروفا مساعدة للانطلاق من جديد من اجل تكوين تاريخ من نوع آخر لابداعات عراقية .. وهذا ما يمكن ان ننتظره ايضا في فضاءات حضارية اخرى .
الذاكرة الحية لبرنامج حيوي
لقد كنت حريصا على ان تكون هذه المقدمة هي مداخلة لما ساقوله بحق واحد من اهم البرامج التقويمية للاغنية العراقية في القرن العشرين والتي عالجت نماذج مختارة من ثمانين سنة مرت بين 1900 – 1980 عرضه بعدد طويل من الحلقات التلفزيونية ، وقامت قناة الحرة مشكورة بهذا النشاط العلمي والثقافي المتميز على شاشة الحرة عراق وخلال شهر رمضان المنصرم .. ولقد كنت حريصا على ان اتابع سلسلة هذا البرنامج يوميا باستثناء حلقة او حلقتين فاتني متابعتهما . نعم ، كنت حريصا على تلك ” المتابعة ” بسبب شغفي الشديد بالموسيقى والغناء العراقيين فضلا عن ثقافتي المتواضعة بالانغام ومعلوماتي عن اصناف الغناء العراقي ومقاماته باعتباره واحدا من روافد ما عبرّت عنه تكوينات المجتمع العراقي المعاصر في فولكلوره وثقافته .. وهنا ، لابد لي ان أشيد باللجنة التي اعدت البرنامج وبكفاءة تقديم رائعة للاعلامية العراقية المحترفة داليا العقيدي .. ناهيكم عن اللجنة التي قامت بالتعليق على نماذج ما عرض على الشاشة والمكّونة من زملاء هم في مقدة خبراء العراق ونقاده الموسيقيين .
وهنا لابد من القول بأن ما قامت به قناة الحرة الفضائية في هذا الصدد له ميزات عدة سأقتصر على ذكر ميزتين اثنتين :
اولاهما : انها فتحت الباب لأول مرة امام العراقيين ليعرضوا واحدا من اعرق فنونهم الرائجة وهو ” الغناء ” على الملأ بالعربية كي تعّرف العالم لأول مرة بهذا البحر الغزير الذي لا يمتلكه عشر معشاره الاخرون .
وثانيهما : انها كانت قد فتحت الباب امام العراقيين في اول تجربة حية لتقييم تراثهم الغنائي من خلال قناة اجنبية غير عراقية .. لم تجرؤ اي قناة عراقية رسمية او غير رسمية منذ عشرين سنة على هكذا تجربة اولية .
انني اتذكر جيدا ما كان البعض من كبار النقاد والفنانين العراقيين يقدّمه في دار الاذاعة العراقية من برامج قوية كنت احرص على متابعتها اذاعيا ، وكان من اشهرها برنامج ( الرفوف العالية ) للاستاذ حافظ الدروبي ، وبرنامج ( من الذاكرة ) الذي كان يقدّمه المذيع والناقد سعاد الهرمزي ، كما والحق يقال انني كنت اقرأ كل اسبوع ما يكتبه الاخ الناقد عادل الهاشمي من مقالات في مجلة ” الف باء ” العراقية وعلى مدى سنوات ، وكانت تعجبني معلوماته ولكنني لا اتفق معه في بعض تحليلاته واحكامه وبعض استخدامه لمصطلحات غرائبية عجيبة ، فضلا عن مواقفه التي أجدها قد اختلفت بين الامس واليوم . وكان الهاشمي واحدا من اعضاء اللجنة التي ضمت كل من الدكتور طارق حسون فريد والمايسترو العزاوي وكان قد شارك في الحلقات الاولى السيد وليد الجابري .
الثقافة التاريخية : ضرورة مستقبلية
ان المثقف العراقي مهما احاط نفسه بمعلومات وتخصص وقراءات .. فان اهم ما ينقصه الثقافة التاريخية عن مجتمعه وحتى تاريخ المدن وتنوعات فولكلورياتها التي لم يدرك خصائصها منذ قرن مضى .. وعندما يسئل – مثلا – يضيع في متاهة لا يستطيع الخروج منها ابدا ، فهو يختلق معلومات ويعّبر عن وجهات نظر خاطئة .. ثم هناك الاجتزاء والتغني به على حساب الكل العراقي ! ثم هناك الفارق بين من له اضطلاع بالنغمات والنوتات ، ولكنه لا يعرف تاريخا معينا بحد ذاته ولا يلّم بالظاهرة العراقية كلها . كما يتّضح تأثير الثقافة السياسية والنزعة الايديولوجية التي سادت العراق على امتداد اربعين سنة من حكم حزب البعث العربي الاشتراكي للعراق .. وكان له تأثيره البالغ حتى على الحياة الفنية والثقافية بشكل انغرس حتى في اللاوعي الجمعي نتيجة ممارساته الثقيلة . ان الموسيقى شيئ والغناء شيئ ليس في العراق وحده ، بل في كل الدنيا العربية والشرقية . وان الغناء شيئ والطرب شيئ آخر في الفن العربي وهكذا العراقي ايضا .. واستطيع القول ، بأن اغاني العراق في القرن العشرين تشكل كلها ظاهرة تاريخية لا يمكن تكراراها بسهولة ابدا .. وهي تقسم الى ثلاثة مراحل زمنية لثلاثة اجيال :
اولا : الجيل الاول تزعمته الموصل بتأثير الموسيقار العراقي الضرير الكبير الملا عثمان الموصلي والذي امتد في بيئة حضارية غنية بكنوز الغناء وتنوعاته .. وسيطر على الساحة العراقية بركام من الاعمال الموسيقية والغنائية الرائعة التي لم تزل تحيا حتى اليوم وقيمة الملا عثمان قوية جدا في المنطقة كلها ، فلقد درس في الموصل واستانبول وساح في بلدان عربية اذ درس على يديه كل من ابو خليل القباني في سوريا والسيد درويش في مصر عندما التقى به في الشام ، واسس مدرسة غنائية عراقية ببغداد .. واذا كان الاخوة في لجنة التقييم لم تعرف ما اصل لحن اغنية ( عالروزانا ) المشهورة في سوريا ولبنان ، فأقول بأنها من ابداع الملا عثمان في واحدة من ” تنزيلاته ” ( التنزيلة الموصلية : فن موشح خاص بفولكلور مدينة الموصل يقرأ في الموالد النبوية لموشحات لها تقنية معينة في نظمها والملا عثمان واحدا من اهم شعراء التنزيلة . اما كلمة الروزانا فيلفظها الموصليون باحالة الراء الى غاء فيقولون : غوزانا ، ثم يميلون حرف الالف الاخير الى ياء فيلفظونها غوزاني ومعناها : الفتحة العليا في الجدار التي تطل على حوش او مكان عام ) وثمة وثائق تحتفظ بها مكتبة العلامة الراحل الدكتور محمد صديق الجليلي في العراق تثبت ما اقول .. فضلا عن جملة هائلة من الاغاني والقصائد التي لحّنها الموسيقار الملا عثمان الموصلي والتي رددها العراقيون وما زالوا يرددونها حتى اليوم .. وستبقى خالدة على مدى الدهر .. ولابد من القول انه لحّن قصيدة ( الغصن اذا رآك مقبل سجدا .. والعين اذا رأتك تخشى الرمدا ) وقصيدة ( يا من لعبت به الشمول .. ما الطف هذه الشمائل ) .. فضلا عن اناشيده الوطنية في مشاركته الحقيقية بثورة العشرين اثناء اقامته الطويلة ببغداد .. الخ وكنت اتمنى ان يعطى البرنامج اهتماما اكبر بهذا الموسيقار الكبير الذي يعتبر ابا روحيا لتراث موسيقى وغناء العراق في القرن العشرين ، وهذا ليس مدحا منّي ، بل انها الحقيقة التي يريد البعض تغييبها دوما .. كما اود الاشارة الى دور الفنان عبد الامير الطويرجاوي في تأسيس فن الفرات الاوسط .. كما وأود القول بأن اغلب الفنانين العرب الذين وفدوا الى العراق بعد تأسيس الدولة ، كانوا يأتون عن طريق حلب ويقيمون بالموصل ويؤسسون انفسهم فيها ومن ثم ينزحون الى بغداد . كما زار العراق في الثلاثينيات كل من محمد عبد الوهاب وام كلثوم وغيرهما من كبار المطربين المصريين .
ثانيا : المرحلة الثانية التي استقطبتها العاصمة بغداد ويمثلها جيل من نوع آخر ويعود الفضل فيه الى ابداعات كل من الاستاذين العراقيين الموسيقار صالح الكويتي واخوه الفنان داود الكويتي وكلاهما قد تتلمذا على ابداعات الملا عثمان واغانيه وانغامه لأن الاخير لم يكن قارئ مقام حسب ، اذ كان شاعرا وموسيقارا ومبدعا لركام هائل من الالحان الجميلة .. ولقد حفل جيل الاربعينيات والخمسينيات والستينيات بجملة كبيرة من الفنانين العراقيين سواء على مستوى التلحين ام الغناء ام الطرب .. ووصل المقام العراقي الى ابهى درجات تطوره من خلال جهود الفنان محمد القبانجي ، فضلا عن وصول اغنية الريف الى اعلى مستوياتها الابداعية من خلال احضيري ابو عزيز .. وانني اعتبر هذا الجيل العراقي هو الذي استطاع ان يصل بثقافة العراقيين القديمة والجديدة الى مراتب عليا في الجمال والابداع ليس في فن الغناء حسب ، بل في الموسيقى بنبوغ اكبر العازفين وبروز عدد من الفنانين في كل حقول الفن . وحفل العراق خلال هذه المرحلة بقدوم عدد كبير من الفنانين العرب وخصوصا من لبنان وسوريا ومصر .. ومن ابرز اللواتي اشتهرن لأول مرة هي الفنانة فائزة احمد التي انطلقت شهرتها من العراق .. كما شهدت المرحلة نزوح عشرات الفنانين من اماكن عدة الى بغداد ، ومنهم : الموسيقار جميل بشير والفنانة عفيفة اسكندر من الموصل والفنان داخل حسن من الناصرية وسعود العمارتلي من العمارة .. وحفلت هذه المرحلة باعداد كبيرة من الفنانين الملحنين والمؤلفين والمغنين والمنشدين وخصوصا مع تطور دار الاذاعة العراقية .
ثالثا : المرحلة الثالثة لجيل آخر تمثّلته البيئة الممتدة من الفرات الاوسط حتى جنوب العراق والتي برز فيها العديد من الفنانين الكبار الذين شحنوا الغناء العراقي بموجات موسيقية ولحنية حزينة ، وطغت الالوان الريفية على الاغنية العراقية بعد ان كانت مدينية صرفة . فاذا كانت المرحلة الاولى مدينية خالصة ، فان المرحلة الثانية تمفصلت الالوان بين المدينة والريف بين القديم والحديث .. في حين ان المرحلة الثالثة امتزج الريف مع المدينة بحيث زحف الترّيف مسيطرا على كل الحياة الفنية الغنائية في العراق . وبالرغم من بروز عدد من الملحنين خلال المرحلة الثالثة ، الا انهم لم يصلوا الى عبقرية الاوائل في الجيل الاول ، ولم يصلوا الى تنوعات الجيل الثاني وازدحام بغداد بالملحنين .. لقد غدت المرحلة الاخيرة في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات مكبلة بالاغلال السياسية والامنية .. وقد انعزل الكبار وهرب الشباب واضطهد اخرون وخضعت الاغلبية لسطوة الدولة والنظام.
مساءلات لا تعد ولا تحصى !
لقد سجلت جملة هائلة من الملاحظات النقدية على ما قاله المعلقّون الثلاثة ( او : الاربعة ) وساكتفي ببعض المسائلات : انني أسأل اللجنة : لماذا هذا الخوف وهذا الاستحياء من ذكر اساسيات ومعلومات لابد ان يعرفها كل العراقيين ، فمثلا كان اليهود من اهل العراق من اروع السكان المحترفين في اداء الموسيقى والالحان والغناء ، وان هناك العشرات من المبدعين العراقيين اليهود كان في مقدمتهم : صالح الكويتي وكل اسرته فضلا عن المطربة الشهيرة سليمة باشا ( = سليمة مراد ) التي تزوجّت بالمطرب ناظم الغزالي وهناك جملة من العازفين المهرة المحترفين ..
وأسأل بعض اعضاء اللجنة كم كان مهما ان يقرأ ذلك ” البعض ” كثيرا مع احترامي لمكانتهم ، وخصوصا انهم يتعرضّون لحياة بغداد والموصل والبصرة بشكل اساسي .. لقد ازدحم النصف الاول من القرن العشرين بالعشرات من المقاهي والملاهي وخصوصا في بغداد والموصل والبصرة وكركوك .. وان تلك ” الملاهي ” ( = الكابريهات ) كانت منتشرة في قلب المدن الاساسية من دون اي اعتراض عليها من قبل المجتمع .. اذ كان مجتمع العراق منفتحا على مصراعيه وان المقاهي والملاهي ليست وليدة الحكم الوطني ، بل انها تمتد الى العهد التركي كما تقول تواريخ العراق الحديثة التي لم يعرفها العراقيون وحتى المثقفين منهم !!
وأسأل الاخوة اعضاء اللجنة : لماذا هذا التلكؤ في الحديث ؟ ولماذا كل هذا التهّرب من عرض الحقائق ؟ لماذا الخوف من عرض الحقائق الاجتماعية والفنية والتي هي المعّبر الاساسي عن حياة المجتمع والسياسة معا ؟ لماذا تهربون من القول بأن سليمة مراد يهودية عراقية ؟ وان لليهود العراقيين جملة كبرى من الادوار الناصعة في اغناء الفنون الموسيقية والغنائية العراقية في فترة ما بين الحربين العظميين ؟ انا لا اعاتب الذين اعدوّا البرنامج عن نواقص شكلية في عدم اظهار بعض الاسماء ، فهذه مسائل شكلية .. فان غابت بعض الاسماء المهمة ، فان الزمن سوف لن ينساها ابدا .. ولكنني اعاتب من ليس له معلومات يمكن ان يدلي بها ، او من ليس له بضاعة يمكنه ان يعرضها .. او من يغالي ويتشبث برأيه ويقلل من شأن زميله المختص ؟
كما واعاتب من يوزّع الاحكام على هواه .. فلا يمكن القول بأن النسوة كنّ يغنين في البيوت وعند العائلات .. اذ تقول تواريخ محلية لكل من بغداد والموصل والبصرة بأن الكابريهات ومراسحها ( كما كانوا يطلقون على مسارحها ) كلها شهدت احياء حفلات غنائية لكل المطربات العراقيات ، وكان نوري السعيد نفسه يحضر بعض تلك الحفلات في الكاربريهات مع بعض اصدقائه من اعيان العراق ..
من جانب آخر ، لا يمكن ابدا ان يطلق احد المعلقين صفة الملكة المتوجّة او غير المتوّجة للغناء العراقي النسوي للفنانة مائدة نزهت .. وتترك اسماء عشرات الاسماء من دون تيجان وعروش ؟ ولماذا التيجان يا صديقي ؟ ان كنت معجب بصوت احداهن وامكاناتها ، فغيرك معجب بصوت اخراها واخر بصوت ثالثة .. واذا كنت تميز الاصوات على اسس متنوعة ، فان محدودية الجواب وتوسع في القرار لدى هذه لا يقابلها صوت تلك الذي تمّيز بتوسع في الجواب والقرار حتى وان كانت محدود العطاء ! ان ما يضحك حقا ان يصف احد المقيمين صوت احداهن انه صوت بلبلي !!
وعندما يتعّلق الامر بالسياسة ، لماذا لا نقول بأن الفنانة المناضلة انوار عبد الوهاب هي نادية ابنة السياسي الشيوعي المعروف عبد الجبار وهبي الذي مات من خلال تعذيبه المأساوي على ايدي البعثيين بعد انقلاب 8 شباط / فبراير 1963 وقد تشبعّت ابنته الطفلة نادية بالعذابات منذ ان كانت في السابعة من عمرها ؟ لماذا لم يذكر دورها السياسي ونضالها بعد هروبها من العراق وكان لها صوتها الذي كان يلعلع في اذاعات تنطلق من خارج العراق معارضة للنظام السابق ؟؟ ولماذا لم نسمع صوتها اليوم ؟ واين هي اليوم ؟ وما حدث لانوار حدث لفؤاد سالم الذي تجاهل المعلقون ابراز دوره كمعارض سياسي ونضاله خارج العراق ضد الدكتاتورية واغانيه ضد النظام السابق ..
علينا ان نسأل : لماذا اختفت عفيفة اسكندر لثلاث عقود كاملة ولم يعرف عنها شيئا ، وفجأة ظهرت للوجود بعد اختفاء النظام السابق ؟ ان في هكذا حالة معان كبيرة . لقد كانت قد حجرت على نفسها من اي مشاركة عامة لأنها رفضت وتمردت صامتة .. وانها عبرت عن رفضها من خلال انعزالها ! انها لم تصفق وتغني للجلاد كغيرها . لم يذكر ذلك احد من المعلقين ابدا وكان عليه ان يقول هذا الا اذا كان المعلقوّن ما زالوا متعلقين بالنظام السابق . في حين لم يذكر اي معّلق آخر من طرف آخر دور اولئك الذين رقصوا ودبكوا للنظام السابق ودبجوا الاغاني ونظموا الالحان وزعقوا بالاغاني التافهة المؤلهة للسيد الرئيس القائد .. هذا ليس عيبا ان ذكر ايها السادة من اعضاء اللجنة الذين سكت واحدكم واخطأ احدكم الاخر ، فالتاريخ لن ينسى احد ابدا وماذا فعل ذلك الاحد ! في حين لم يعرف الناس حتى اليوم لماذا اعدم بعض الفنانين العراقيين او اختفوا من الوجود !
ثقافة حزبية احادية وتقويم اصدقاء
هناك نتاج تربية حزبية دامت لاربعة عقود من الزمن لم يعرف اصحابها الا ترديد عبارات القاء التمجيد وتوزيع سمات العظمة وكلما يسئل عن اسماء معينة يجيبهم : اوه هذا عملاق ! وانه عظيم وانه من اعاظم الفنانين .. وانه يتميز بسمات التبجيل .. هذه التوزيعات الاحادية الشخصية لصفات العظمة لابد ان تنتهي الى الابد .. يمكن ان يجمع الناس على من هو متميز حقا ، ولكن ان نوزّع اعلاميا وعلى الملأ صفات العظمة على اناس محددين وننسى ادوار اخرين فهذا ليس من سلوكيات الناقد الحيادي والمقوّم الحقيقي .. خصوصا وان الناس اليوم تسمع لما يقال ، اذ ليس كل الناس الذين يسمعون ويشاهدون باغبياء ابدا !
هناك من لم ينفصل عن تيه الفضاء الايديولوجي الذي عاشه العراق لاربعين سنة مرت .. ولم يزل العدد الكبير من النقاد والدارسين ( وحتى الاكاديميين ) وقد ضيعّوا انفسهم بين نزعتهم الوطنية وبين هويتهم القومية ، بل وقد تغلب عليهم الهوية على النزعة .. انهم يقدّمون ( العمالقة ) العرب على الفنانين العراقيين ، وكأن لا عملقة في واقع عراقي منغمس في الفن منذ الاف السنين !؟ كم كان اجدى لو تكلّم بعض الاخوة المعلقين عن فنانين عراقيين حقيقيين بدل كلامهم العام او كلامهم الانشائي والعادي .. لقد غابت تقييمات كنا بحاجة اليها عن احمد الزيدان وعن السيد احمد الموصلي ( المكنى بـ ابن الكفر ) ودوره الرائد في حفظ التراث الغنائي ، كما وتناسوا دور سلطانه يوسف ودور عبد الصاحب شراد .. وغيرهم لا حصر ولا عدّ لهم .
وأسأل :
انني اسأل : هل كانت بعض التعليقات حيادية ؟ هل انها لم تكن تخلو من المجاملات لفنانين كانوا من اتباع سلطة ومدح جلاد ورفاق حزب .. مع احترامي لجهودهم وبعضهم من اصدقاء هذا وذاك ؟ ولماذا كل هذا الانبهار بالسبعينيات الذي اوصلوه الى نهايات المجد وآفاق السماء وكأن ابداعات الخمسينيات ليست بذي شأن ؟ علما بأنهم كانوا قد اعترفوا بأن كلا من المقام العراقي واغاني الريف العراقي واغاني المدينة العراقية واغاني المونولوج والنقد السياسي والاغاني الفكاهية واغاني السينما العراقية واغاني الحفت الكابريهية .. وتأليف المقطوعات الموسيقية وغناء فرقة الانشاد العراقية وغناء الموشحّات وغناء البدو .. الخ كلها وجدت حياتها وتطورها في عقد الخمسينيات ؟!
انني مع احترامي لكل المراحل ولمرحلة السبعينيات ولكن لابد ان ننصف الخمسينيات لأنني اعتبرها ذروة ما وصلت اليه تنوعات الاغاني العراقية الحضرية . فمثلا ، هل يمكن لأي عراقي ان يفهم فهما حقيقيا ما الذي يريده كتّاب اغنية السبعينيات من تعابيرهم البيئية مع اعتزازي بها وحتى يومنا هذا أسأل اصدقائي عن هذه الكلمة او تلك العبارة .. كيف لي ان افهم حتى نطالب العرب ان يفهموا الاغنيات البيئية العراقية في حين كان الكبانجي ويوسف عمر والغزالي وسليمه وعفيفة ونرجس وزهور ولميعه ووحيدة وحتى احضيري وغيرهم يعشقهم كل من يسمعهم لأنهم يغنون ما نفهمه من الكلام !
احترموا كل العراقيين
كان المعلقون الثلاثة ( او : الاربعة ) يخافون من الافصاح عما هو صائب .. ان الرعب المزروع في قلوبهم ما زال يبدو واضحا تمام الوضوح في ما يقولونه او يتهربون من الاجابة عليه او يتجاهلون امره .. كان عليهم ان يقولوا بأن الاخوين المبدعين العراقيين صالح وداود الكويتي كانا من يهود العراق ، ويبينوا للناس والتاريخ دور اليهود العراقيين في اثراء الاغنية العراقية والمقام العراقي .. كان في بغداد (214) عازفاً وأغلبهم من اليهود فقط أربعة عازفين هم ثلاثة ضابطي إيقاع وعازف واحد لألة القانون .وأول فرقة موسيقية في الآذاعة العراقية تكونت من عازفين يهود العراق .. كان عليهم ان يقولوا بأن الموسيقى والاغنية العراقية تعرضتا لتشويه مقصود من قبل سلطة النظام السابق . كان عليهم ان يقولوا بأن كثيرا من اعمال الفنانين العراقيين اتلفت وأحرقت وغيّب الاعلام العراقي عن قصد اعمال الفنانين المهرة الذين تفوقوا بين 1930 – 1950 ، امثال : صالح الكويتي وداود الكويتي ومطرب المقامات فلفل خوفجي ونسيم مراد وسليم زبلي وأكرم زبلي ويوسف زعرور الكبير وسلطانه يوسف وسليمه مراد وعزرا هارون وحيون كوهين وموشي شماس وصالح طقو ويعقوب مراد !! ولقد قرأت في اوراق نادرة منذ زمن طويل بأن السيدة ام كلثوم قد تعلمت بعض النبرات الخاصة من الفنان العراقي يوسف زعرور اثناء وجودها ببغداد . لقد غيبت هذه الاسماء من تاريخ الموسيقى والغناء العراقي وحذفت من التراث كونهم يهودا .. انني اذكر بأن ليس سلطة البعث هي الوحيدة التي غيّبت تاريخهم المثري ، بل جرى تغييبهم منذ العام 1958 ، ولكن زاد حدة واضطهادا بعد العام 1968 !
لجنة الفنان منير بشير
حدثني الصديق الموسيقار فريد الله ويردي قبل سنوات انه في العام 1973 سعى طارق عزيز بقرار من صدام حسين الى تكليف الفنان منير بشير بتكوين لجنه خاصة لفحص ( تراث وغناء موسيقى العراق) وكانت اللجنة تتكون من الموسيقار منير بشير رئيساً , ومحمد سعيد الصحاف كان مدير الاذاعة والتلفزيون ببغداد وقت ذاك , والفنان الملحن كوكب حمزة الذي ترك اللجنة من اول اجتماع لها مع اخرين بعد ان عرفوا مهام هذه اللجنة حيث كانت مهمتها هو تكريس الفولكلور البيئي واللعب على التراث من اجل اماتة نزعة الحداثة في فنون الغناء والموسيقى العراقية .. كما وكلفّت اللجنة بجرد للموسيقى والغناء في الاذاعة والتلفزيون . أي فحص الأرشيف الموسيقي والاحتفاظ بالجيد وأتلاف الرديء حسب تعليمات الحزب وقرارات الثورة ، فأتلفت كنوز من الارشيف الموسيقي . وغيّبت اسماء ملحنين يهود مشهورين . لقد قامت لجنة الفنان منير بشير بمهمّات خطيرة في نحر تراث العراق الغنائي وتجميد كل الحداثة العراقية ووضع العراقيل امام الفرقة السمفونية العراقية .. واشاعة كل ما هو بيئي بحجة الحفاظ على التراث والاصالة . لقد ارسل لي الموسيقار العراقي المغترب فريد الله ويردي الرسالة التالية بالانكليزية بعد ان نشرت هذه ” المقالة ” واريد تضمينها نصّا هنا لتوضيح الرؤية :
Ustathi”l kareem Sayyar: Your excellent article pleased me very much, thanks a lot. As about Munir Bashir”s Committee I have to say this: Munir was appointed as musical adviser in 1973. One year before his arrival to Baghdad , our friend Dr. Shehrzad Kassem just established the Centre of Traditional Music in 1972 in the cadre of the Radio TV Establishment when Al-Sahhaf was DG who asked me to be in charge of the centre because Sheherzad receieved a scholarship to study music Ethnology in the Sorbone. When I started working, I first asked the permission to copy on magnetic tapes all the songs, maqamat and music of the archieve and kept them in the centre. It took us almost one year to complete the work before Munir”s arrival. So I hope that the centre was not robbed away as every cultural establishment had been robbed after the invasion in 2003. With my best wishes and love.
وأخيرا : ماذا اقول ؟
هذا بعض ما كنت قد سجلته من ملاحظات لا حصر لها على برنامج ( الاغاني ) ، ولا يسعني الا ان اقدم تحية كبيرة الى هكذا ” برنامج ” حيوي اثار اهتمامات واسعة ، وكانت قد نجحت فضائية الحرة عراق في تقديمه بمستوى فني واعلامي حاذق . واحيّ كل الجهود الرائعة التي ساهمت في تقديم تراث العراق الغنائي بمستوى راق كما ونجحت الاعلامية داليا العقيدي في اثراء ذلك الفضاء الخلاق باسئلتها المتنوعة .. وان تكون تلك خطوة جادة في طريق جديد من اجل نشر كنوز العراق .. متمنيا على مؤسسات وفضائيات عراقية ان تنهج السبيل نفسه في تقديم برامج حيوية تسهم في اغناء الثقافة العراقية الجديدة والاستفادة من تراث العراق وتجاربه وابداعات رجاله ونسوته في القرن العشرين .
شاهد أيضاً
فقرات من كلمة الدكتور سيار الجميل في حفل تكريم صديقه الفنان حمودي الحارثي في كندا الحفل اقامه اتحاد الفنانين التشكيليين العراقيين الكنديين يوم 29 /5 / 2011 على قاعة اسيمبلي هول في مدينة تورنتو
ايها الاصدقاء الاعزاء اسعدتم مساء شكرا جزيلا لاتحاد الفنانين العراقيين الكنديين استضافته لي هذه الامسية …