هل فكرنا يوما كيف نستعيد تفكيرنا الحضاري من نواح مختلفة نحن العرب؟
هل فكرنا يوما وقد دخلنا تاريخا جديدا كيف نخضع تجاربنا السياسية العربية الفاشلة للنقد والمساءلة؟ هل باستطاعتنا ان نقرأ تجارب امم معاصرة في كيفية صناعة فكرها السياسي المعاصر ونشارك في نقد اعلامياتها؟
هل استطاع آلاف المثقفين والساسة العرب اليوم ان يتخلصوا من قوقعة الماضي القريب واغلاله العقيمة؟ هل سننجح فعلا في بناء اجيال قادمة لها القدرة على التعامل براغماتيا وحضاريا واخلاقيا في ما بينها، ولها قدرة اكبر في التعامل مع العالم بكل تعقيداته؟
هل استطاع العرب ان يدركوا بأن الوعي السياسي والحضاري يأتي قبل العواطف وان نعامل غيرنا بالمثل؟
متى يتحرر الخطاب الفكري العربي من اغطيته السميكة ليغدو معّبرا عن اصدق المفاهيم وينحو نحو واقعية الاشياء بعيدا عن الطوباوية والشعارات المزيفة والانشائيات الفضفاضة؟
متى يحترم الفكر العربي الرأي الآخر بعيدا عن كل التهميش والاقصاء والقطيعة بل عن كل السباب والشتائم التي اعتاد عليها السياسيون، بل ووصلت درجة الاختلاف السياسي فكرا وممارسة الى القتل والتصفيات .. وهذا ليس بشيء غريب على حياتنا السياسية، بل ونجد له امتداداته في تاريخنا، بل وذهب العديد من المفكرين السياسيين العرب منذ مئات السنين ضحايا تفكيرهم واختلاف آرائهم .. فهل بالامكان ان يفتح العرب صفحة جديدة في فكرهم السياسي والتعامل الحضاري على اسس جديدة تعمل على تحديث الحياة؟
هل باستطاعتهم ان يتخلصوا من كل بقايا ومواريث الايديولوجيات الساخنة التي ماتت في كل هذا العالم وما زالوا هم يقتلون زمنهم وفكرهم بل وحتى حياتهم من اجلها ؟ نعم، يمكننا ان نفرض هيبتنا الحضارية والقيمية على العالم من خلال ما يحتاجه العالم منّا ..
واخيرا : لماذا شغلت «الدولة» كل تفكير العرب منذ احقاب طوال في التاريخ ولم يشغل «المجتمع» بالهم أبدا ؟ لماذا تجددت الانقسامات الطائفية والفئوية في حياتنا العربية اليوم؟
لماذا لم يعتن بالنظام الاجتماعي حتى يومنا هذا باستثناء تجارب عربية قليلة؟ علما بأن كل ما يأمر به الاسلام الحنيف وما حفل به العرب من قيم اصيلة تفرض الاهتمام بالمجتمع وتضامنه وتعايشه وتسامحه وطيبته وحقوقه وواجباته ..
اجترار الأمس
إننا لا يمكن البقاء دهرا طويلا والعرب يجترون الامس بحيث نمجد ونفخر ونمتدح أو نتأسى ونندب ونزيّف ونلطم ونولول .. باسم الحفاظ على المبادئ او اجترار المناسبات واقامة الاحتفالات وتضييع الزمن.. ان الخروج من هكذا قوقعة تاريخية يستلزم بعض الآليات والاساليب التي تجعلنا احرارا من هذه الاطواق العقيمة، أي بمعنى تحرير تفكير الانسان من كل بقايا وفضلات التاريخ لتضعه على الطريق المعاصر متخلّصا من كل تناقضات الماضي والحاضر .. انه بحاجة ماسة الى عقلية تؤمن بالتفكير النسبي اولا بعيدا عن كل المطلقات .. انه بحاجة الى ان ينطلق من دون اي اعتراضات او حدود او سدود .. العالم كله قد تغّير في موجة كبرى من التحوّلات لكي يتحدث بفكر سياسي من نوع جديد ولم يزل العرب يلوكون ما تعّودوا عليه في القرن العشرين.
على الرغم من إنتاج أفكار عربية رصينة خلال العقدين الزمنيين الأخيرين، لكن ثمة ثوابت فكرية ترسخت في اللاوعي العربي على امتداد قرن كامل، إذ حفل الفكر العربي المعاصر بتناقضات أيديولوجية صارخة، وآراء أحادية ومتنوعة، ومواقف سياسية أسيء استخدامها في التوجهات الوطنية أو في تحقيق الأماني الحضارية .. ولكن بعيدا جدا عن الوعي الحقيقي والتكوين العميق للمجتمع العربي بأسره ! صحيح أن إثارة الحمية الوطنية / القومية Patriotism تكمن في صفحات تاريخية يمكن استخلاص روحها في سبيل تجليها لهذا العالم العربي.
ولما كان العرب بمجتمعهم المتنوع في تعددياته السكانية والجغرافية والتاريخية وألوانه القومية والدينية والمذهبية مع أطيافه السياسية البراقة.. قد مزقتهم الأيديولوجيات القديمة والحديثة، والقرارات الخارجية، والعصبيات الداخلية والطوائف الانقسامية والسلطويات الغريبة والتدخلات الاستعمارية والمؤامرات والانقلابات الدموية .. فقد انعكس ذلك كله على تفكير المجتمع وعلى تكوين وعيه وإدراكه المتبادل لكل من الحاضر والمستقبل، واعتقد انه سيبقى هكذا لزمن طويل وعلى امتداد ثلاثة اجيال في القرن الواحد والعشرين. وعليه، أدعو هنا إلى اعادة التفكير عربياً في كل تاريخنا العربي المعاصر الذي امتد عبر القرن العشرين في ما يسود اليوم من مناهج للاستفادة من تجارب الامس في بناء فكر حضاري عربي جديد يتلاءم والمراحل الصعبة التي سيغدو عليها العالم.
وأخيراً: ماذا أقول ؟
ان اكثر ما سيدخره الناس في ذاكرتهم التاريخية مع الأسف، هذا الاستخدام السافر للمسائل السياسية من غير برامج سياسية، بل مجرد اتباع فوضى سياسية تستعمل فيها الشعارات والعبارات والنصوص الانقسامية الجاهزة والانشائيات العادية والكلام الفضفاض .. واذا ما اعترض البعض على الهوس القائم استخدمت ضده اقسى الكلمات والتعابير والخطابات التي لا معنى لها وهوجم غوغائيا بالعبارات السيئة التي قيلت وقد كثرت اليوم اعلاميا بفعل المعايشة الزمنية الدائمة مع اسوأ السياسيين والاعلاميين عبر وسائل الاعلام وخصوصا التلفزيوني المرئي.
وتصل الأمور في كثير من الاحيان الى هستيريا عارمة لا علاقة لها بالسياسة او بالتفكير السياسي او التعامل الحضاري ! فهل من مشروعات تتبنى غرس الافكار الحضارية الجديدة من اجل المشاركة في الفكر العالمي نظريا على الاقل ؟؟ وهل بمقدور الاجيال الثلاثة القادمة في القرن الواحد والعشرين ان تباشر بالخلاص من كل ما علق بذهنيتها من بقايا ومخلفات ونتوءات وبلايا ؟ انها ان تخلّصت بالفعل من مورثات الماضي الصعب، فستسجل خطوة حقيقية على الطريق وستنجح حقاً في بناء فكر حضاري جديد.
“البيان الأماراتية”
شاهد أيضاً
زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا
الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …