أخطر الأوبئة في تاريخ البشرية
أ.د. سيّار الجميل
ليسَ وحدنا فقط نعيش على هذه الأرض، اذ تشاركنا عليها كائنات من حيوانات وحشرات ، ويقر المؤرخون أن الأوبئة كلها مصدرها مكروبات طيور وزواحف وحشرات تنتقل منها للانسان عبر الهواء او الماء . ولم يكن البشر يتمتّع بكلّ ما هو عليه اليوم مقارنة لما عاش عليه طوال تاريخه على الارض، بل وأن ما يصيب الكائنات كلّها يصيبه ، اذ تعرّض الى سلسلة أوبئة وامراض قتلت ملايين البشر عبر التاريخ. الهلع يجتاح العالم اليوم جراء انتشار وباء كورونا ، وهو امر طبيعي ، ولكنه مفاجئ لم يحسب الانسان له أيّ حساب ، وعليه أن يتعلم من التاريخ الكثير ، فثمّة تاريخ مفجع للامراض والاوبئة عبر العصور . وكانت تحدّيات غامضة وصعبة جداً واجهها الانسان بحيث مات الملايين قبل ان يكتشف العلاجات والامصال الواقية في العصر الحديث ليحدّ من توّغل الطواعين والاوبئة عبر القارات .
ان عشرة أوبئة خطيرة واجهت البشرية، ولكن شلّ الانسان خطورتها ، ويواجه اليوم وباء كورونا القادم من الصين، وللعلم ان قارة آسيا هي مصدر أخطر الطواعين والاوبئة بدءاّ من مصدر الكوليرا في الهند وانتهاء بالصين في تصدير كورونا ! واذا كان الرعب منها يفسر سابقاً على أساس ديني كونها غضب من الله، فان البعض اليوم يفسر سارس وكورونا تفسيراً مؤامراتياً ، سياسياً او مالياً وثمة معلومات غير مؤكدة تقول بأن ما نشهده اليوم من حرب جرثومية تقف من ورائها جهات واطراف في العالم لها اهدافها الجشعة على حساب الفتك بملايين الضحايا من الابرياء !!
ثمة دراسات رئيسية وواسعة النطاق للآفات الوبائية الكبرى للبشرية – الطاعون والجذام والجدري والزهري والكوليرا والحمى الصفراء / الملاريا – على مدى القرون الستة الماضية. كما أنها أكثر من ذلك بكثير. ويطبق شيلدون واتس ، المؤرخ الثقافي والاجتماعي الذي قضى معظم حياته المهنية في الدراسة والتدريس في جنوب العالم ، منظورًا أصليًا تمامًا لدراسة الأمراض العالمية ، واستكشاف الروابط بين حركة الأوبئة ومظاهر القوة الإمبراطورية في الأمريكتين وآسيا وأفريقيا والبلدان الأوروبية. ويوضح كيف تغيرت تصورات من يستهدف المرض بمرور الوقت وأثرت استجابات سياسية وطبية مختلفة. وهو يجادل غيره من المؤرخين بأن الطب الغربي لم يفشل فقط في علاج الأمراض التي ولدها توسعه الخاص ، ولكن هذا الطب الإمبراطوري كان في الواقع وكيلًا وأداة للإمبراطورية ، وكما هو وضع اليوم ، اذ تحتكر الشركات المعنية صناعة الادوية واللقاحات الحيوية المضادة .
ان نفرا قليلا من المؤرخين في العالم اليوم ، ومنهم فرانك سنودن Frank M. Snowden يكّرس الاهتمام في دراسة تاريخ الاوبئة التي اجتاحت البشرية عبر التاريخ الصعب والطويل ، ونجد المؤرخ واتس على رأسهم ، وهو يفحص العلاقة بين مهنة الطب قبل الحداثة والحديثة والكوارث الوبائية مثل الطاعون في أوروبا الغربية والشرق الأوسط ؛ الجذام في الغرب ابان العصور الوسطى وفي العالم الاستوائي في القرن التاسع عشر ؛ فضلا عن انتشار الجدري إلى العالم الجديد في عصر الاستكشافات الجغرافية ؛ ومرض الزهري والأمراض غير الجنسية في اتصال أوروبا مع آسيا ؛ وموجات الكوليرا في الهند خلال الحكم البريطاني ؛ والملاريا في حوض الأطلسي خلال عصور العبودية التراجيدية ( ويدخلها أم بي أي اولدستون Oldstone M B A في قائمة الاوبئة في حين بقيت الملاريا من الامراض المزمنة ) . ولقد تدارس المؤرخون بالتفصيل العلاقة بين التغيرات البيئية العنيفة والمرض ، وبين المرض والمجتمع ، وانتقاله الى وباء يجتاح القارات سواء في المجال المادي أو في عقول وأرواح الحكام والمحكومين. ان مجتمعاتنا في الشرق الاوسط قاطبة هي في امس الحاجة الى الثقافة التاريخية ومعرفة الحساب القياسي للطريقة التي تم فيها تفسير الأمراض – الناشئة عن طريق الصدفة ، من خلال التغيير البيئي المتهور الذي صممه الإنسان ، أو من خلال مزيج حافل بتحركات الانسان من مكان الى آخر لاسباب عدة ونقله للفايروسات والمكروبات والاوبئة . ولقد قلت في كتابي ( تحولات الازمنة 2017 ) ان اخطر الاوبئة في التاريخ كانت الكوليرا والطواعين . ولولا الادوية والمضادات الحيوية والامصال لاكلت الاوبئة كل العالم كما يقول ر بورتر R Porter و اي وات S Watts.
دعوني الخص ما صنعته الاوبئة العشرة الشهيرة في تاريخ البشرية كي ندرك حجم الكارثة التي سيتعرّض العالم لها اليوم :
أولا : الموت الأسود: الطاعون الدبلي :
دمر الموت الأسود معظم أمم أوروبا والبحر المتوسط بين 1346 – 1353. ومات أكثر من 50 مليون انسان ، أي أكثر من 60 ٪ من سكان أوروبا وقت ذاك. وبدأ الوباء كما يعتقد المؤرخون في الهند وسهوب آسيا الوسطى العشبية بسبب ملايين القوارض، فسميت بؤرة الطاعون والعدوى بواسطة البراغيث من الفئران الى الانسان وفي 3-5 ايام بعد لدغة واحدة يتسبب بحمى وصداع وتضخم الغدد اللمفاوية المؤلمة وينتقل الى الرئتين في طاعون الدبلي ويموت 80٪ من المصابين في غضون خمسة أيام. ولم يكن وباء الطاعون في القرن 14 م هو الوحيد في تاريخ البشرية. فقد كان هناك طاعون جستنيان كأول وباء اندلع في مصر عام 541 م ، وطاعون الصين الممتد الى هونغ كونغ عام 1894. وانتشاره بعد حين وآخر الى اوربا عبر الشرق الاوسط على امتداد القرون الاربعة الاخيرة . ولم يزل الطاعون موجوداً برغم المضادات الحيوية ، فثمة بؤر مزمنة الطواعين في افريقيا وآسيا واميركا الجنوبية .
ثانيا : الجدري : الوحش المبقع :
يعود الوباء الى عصور ما قبل التاريخ ، ولكنه ظهر لأول مرة حوالي 10000 ق . م. ويبدو ان فرعون مصر رمسيس الخامس قد أصيب به ( 1156 ق . م. ووصفت نصوص سنسكريتية قديمة انتقال فيروس الجدري بالعدوى اثر الاتصال المباشر مع المصاب أو اشيائه الملوثة والاماكن المغلقة . حضانته 17 يومًا وتشبه اعراضه الأولية الإنفلونزا قبل انتشار البقع الصغيرة داخل الفم وعلى اللسان. ويبدأ الطفح الجلدي في مدة 24 ساعة على الوجه وينتشر ويغدو بثورا مرتفعة تشبه البراكين مليئة بسائل كثيف غير شفاف. وتترك ندوبًا محفورة على الجلد . عام 1800 كان معدل الوفيات السنوي 400000 انسان في اوربا وحدها وتكثر عند الرضع (80-98 ٪) ، وثلث جميع الناجين أصيبوا بالعمى. وتعرية الانوف ! وانتصر التطعيم عليه في سبعينيات القرن 20 .
ثالثا : الجذام: وباء العهد القديم :
الجذام عدوى تسببها بكتيريا بطيئة النمو، وحضانتها طويلة تستغرق 2-3 سنوات (وحياتها من 6 أشهر إلى 40 عامًا) واعراضها خدر وفقدان شعور في منطقة من الجلد اي تقارب البكتيريا للخلايا العصبية. وهي شديدة العدوى ، واعتقد الناس انه لعنة أو عقاب من الله ، وخشوا من المصابين بملابسهم الخاصة ورنين اجراسهم .وباء بمرض جلدي ويمتد الى العمى وتشوهات الوجه البشعة . لم يزل الوباء سائدا باسم هانسن عالميا وابلغ عن وجود 200000 حالة بتقرير منظمة الصحة العالمية كل عام ، ويكثر في مناطق رطبة استوائية قرب خط الاستواء ، مثل الهند. وينتقل الوباء من خلال مهاجرين ، وعلى الرغم من الشفاء منه ، إلا أن التشوهات وتلف الأعصاب لا رجعة فيها.
رابعا : أنفلونزا الطيور:
مصدرها الطيور، ولقد وجدتُ اسمها في صحيفة عربية قديمة قبل مئة سنة مضت ، وهي شائعة ، وقد حدثت عدة حالات تفشي رئيسية في العالم منذ أن تم تسجيل المرض لأول مرة في إيطاليا 1878. واستغرق الأمر حتى 1955 لاكتشاف أن الفيروس المسبب لأنفلونزا الطيور كان فيروسًا من النوع A. يحدث الوباء بشكل طبيعي بين الطيور المائية البرية ويمكن أن تنتشر بسهولة إلى الدواجن وهي الأكثر عرضة للإصابة – فقد تم تدمير ملايين الدجاج والإوز والديك الرومي لمنع المزيد من انتشار المرض في أعقاب تفشي المرض في عامي 2015 و 2016. وخلال 2017 ، أصيب 1565 شخصًا بفيروس الطيور ، توفي منهم 610 (39٪).
خامسا : بشاعة الكوليرا في التاريخ
قلت في كتابي ( تحولات الازمنة 2017 ) : الكوليرا الآسيوية يعرفها الذين عانوا من اهوالها ابان القرن 19 . لقد حصدت الكوليرا والطواعين الملايين من البشر في القرون 17 و18 و 19 ، ويحلّ الوباء فجأة ويتفشى بين الناس بسرعة شديدة ، بانتقال الفايروس في الهواء ، ويجتاح بلدانا واسعة ، وانتشرت فايروساته من موطنها الاصلي في شمال شرق الهند ، وخصوصا خلال فتح طرق التجارة والمسالك المأهولة وزيادة اعداد الحجيج … اعراضه : اسهال شديد ونضوب سريع في سوائل الجسم والاملاح . في القرنين الماضيين امتدت الكوليرا في جميع انحاؤ العالم فادت الى اختلال نسيج مجتمعات كاملة .. امتد في انحاء العالم وقتل الملايين في القرن 19 في ست موجات كبرى وصل فيها الى الامريكتين عبر اوروبا حتى القرن العشرين ( ص 167- 173 ) .
سادسا : شلل الأطفال: مرض الطفولة الأكثر رعباً في الاربعينيات والخمسينيات من القرن20:
وهو مرض معد يصيب الأطفال بالشلل وغالبًا ما يكون مميتًا. ويصيب من دون الخامسة. وبالرغم من اجتياح أوبئة دورية في أواخر القرن 19 ، ولكن هذا الوباء فاجئ العالم قبل 80- 60 سنة جر الى حملة عالمية للتطعيم ضده . وهو ناجم عن فيروس شديد العدوى واعراضه تشبه الأنفلونزا (مثل التهاب الحلق والحمى والتعب والصداع والغثيان وآلام البطن) خلال 1-2 اسبوع بعد الإصابة. تنمو أعراض أكثر حدة مثل وخز الأطراف والتهاب السحايا (أي : إصابة الدماغ والنخاع الشوكي) وضعف الأطراف والشلل الذي قد يؤدي إلى إعاقة دائمة والموت ان تتأثر عضلات الجهاز التنفسي. وقضي على الوباء عالميا خلال 30 عامًا فقط ، وانخفض الاصابات به من 350 حالة 1988 إلى 33 حالة 2018.
سابعا : الإيبولا : Ebola Virus Disease
مرض قاتل في اغلب الأحيان (معدلات الوفيات بين 25-90 ٪) ، سببه خمسة انواع من الفيروسات اكتشفت لأول مرة 1976 والخفافيش مستودعها ، ويتلقفه البشر بالاتصال المباشر عبر الجلد والأغشية المخاطية والاتصال الجنسي والابر . أعراضه بين 2- 21 يومًا بالحمى والصداع الشديد وألم العضلات والإسهال والقيء والنزيف حتى الموت. تفشى تاريخيا بين 2014 – 2016 ، في غينيا وسيراليون والكونغو وليبريا. وأصيب 28،616 شخصًا ، وأن 11،310 شخصًا ماتوا .
ثامناً : جنون البقر vCJD :
يمكن اعتبار البروتينات المعدية بمثابة تهديد وبائي محتمل. لحسن الحظ ، مرض كروتزفيلد جاكوب المتغير (vCJD) – الناجم عن بروتينات البريون المعدية من الأبقار المصابة باعتلال الدماغ الإسفنجي البقري (BSE) – اي فشل في التطور والانتقال إلى جائحة بشرية واسعة النطاق ، على الرغم من أنه من السابق لأوانه شطبه تمامًا. قال هينريك وغنيير Henrik Wegener ، مدير معهد الغذاء الوطني في الدنمارك: “كان من الممكن أن يكون مرض جنون البقر – vCJD أسوأ جائحة على الإطلاق حيث تعرضنا له قبل وقت طويل من اكتشافه”. “لقد كان من حسن الحظ أن العامل لم يكن لديه إمكانات وبائية كاملة”.
تاسعاً : سارس SARS-CoV:
متلازمة تنفسية حادة ووخيمة ، تقول (مجلة تايم ، عدد 5 مايو 2003 ) ان تاريخ الوباء قصير، ولكنه مخيف مرعب نجم عن فيروس كورونا غير المعروف سابقًا (SARS-CoV) وهو من نفس عائلة فيروسات نزلات البرد. عمره 2- 10 أيام من ملامسة للفيروس ، مع حمى شديدة وصداع وآلام مفاصل وإسهال. مع صعوبات التنفس ثمّ التهاب رئوي حاد . بحلول نهاية 2003 ، كان 774 شخصًا قد ماتوا من بين 8098 مصابًا تم إخطارهم لمنظمة الصحة العالمية. انتشر سارس من خلال الرذاذ لسعال وعطس. بدأ في آسيا ، ومصدره خفافيش حدوة الحصان الصينية البرية التي تباع في السوق. تحمل فيروسًا ؛ ينتقل للانسان. في غضون عام ، وانتشر في الصين مع العدوى إلى أكثر من عشرين دولة قبل احتوائه عالميا .
عاشراً : كورونا Coronavirus Pandemic (COVID-19:
متلازمة تنفسية من الصين، من خلال عدوى فايروس يمكن أن تكون قاتلة. وانتشر في العالم اليوم 2020 وبسرعة كبيرة ومفاجئة ، وقد سبب هلعا كبيرا في كل العالم لعدم وجود اي مضاد حيوي له ، واصاب الالاف من البشر ، وقد قتل عشرة الاف انسان في غضون شهر واحد ومن اخطر البلدان التي امتد اليها من الصين ايران وايطاليا واسبانيا وهو ينتقل اليوم بسرعة في دول اوربية وفي الولايات المتحدة ، وشهد العالم لأول مرة في التاريخ تعطيلا كاملا للحياة والاقامة الجبرية في البيوت . وسوف يسبب هذا الوباء كوارث اقتصادية واجتماعية وسياسية في حال انتشاره وعدم ايقافه في زمن محدد ..
المراجع المعتمدة
A J Bollet, Plagues and Poxes: The Impact of Human History on Epidemic Disease (New York: Demos, 2004).
Frank M. Snowden, Epidemics and Society: From the Black Death to the Present, ( Yale University Press, 2019 ).
J N Hays, Epidemics and Pandemics: Their Impacts on Human History (Oxford: ABC-CLIO, 2006).
M B A Oldstone, Viruses, Plagues, and History (Oxford: Oxford University Press, 1998).
- Bourdelais, Epidemics Laid Low: a History of What Happened in Rich Countries (Baltimore: Johns Hopkins University Press, 2006).
R Porter, The Greatest Benefit to Mankind: A Medical History of Humanity (London: Harper Collins, 1999).
S Watts, Disease and Medicine in World History (London: Routledge, 2003).
Sheldon Watts, Epidemics and History : Disease, Power and Imperialism ( Yale University Press, 1999).
سيار الجميل ، تحولات الازمنة : رؤية عربية للتحقيب التاريخي ، ط1 ( بيروت : المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، 2017 ) .
تنشر بتاريخ 23 آذار / مارس 2020 على الموقع الرسمي للدكتور سيار الجميل
https://sayyaraljamil.com/wp/