جمعتني مع ابن العم العزيز اللواء الدكتور غازي جميل علاقة قوية منذ زمن طويل ، اذ تأتي محبتي له كمثل محبة الجميع اياه ، فكل من صادفته في حياتي يلهج بذكره الطيب ، ويستذكر شيمه واخلاقه العالية ومواقفه الانسانية ومهنيته وثقافته العليا الخاصة وتواضعه ونكران ذاته عند الشدائد . كنت قد التقيت معه قبل سنوات في لندن ، ودعوته الى لقاء مع لفيف من الاصدقاء العراقيين القدماء الذين فرحوا به فرحا كبيرا . لقد اتصلت به اليوم في لندن ملبيا دعوة كريمة منه على مائدة عشاء ، وكنت سعيدا جدا بلقياه ومجالسته الرائعة في واحد من مطاعم لندن الجميلة بشارع اجور رود ، اذ جلسنا معا لوحدنا بحدود اربع ساعات ، تبادلنا خلالها الذكريات والاحاديث المهمة .. الدكتور غازي يدعوه اصدقاؤه وزملاؤه الاطباء بـ ” الباشا ” لرزانته وقوة شخصيته وامانته ونزاهته وتفانيه في اداء الواجب .. وطني عراقي الى حد العظم ، وهو غيور له تاريخ مشرف في طبابة الجيش العراقي ، وكان قد تسلم عدة مناصب في الادارة الطبية العسكرية العراقية ، كما كانت له مواقف سياسية مشرفة في النضال الوطني .. وقد نقلت له تحيات بعض من يذكره دوما بخير ، فتذكرهم جميعا ، وابلغهم بواسطتي سلامه وشكره لهم ، اذ يتمتع الرجل بذاكرة حادة وذكاء فطري .
ولد الدكتور غازي جميل في بيت آل الجميل بالموصل عام 1937 ، وهو ابن عمنا الكبير الاديب المثقف الصحفي الاستاذ جميل افندي الجميل الذي كان اول مدير مؤسس للمكتبة العامة بالموصل ، ودرس غازي في مدارس الموصل ، وكان ابوه قد غادر الموصل مع عائلته منذ زمن طويل ، وقد عاش معظم حياته رفقة عائلته ببغداد .. درس غازي الطب في الكلية الطبية الملكية العراقية وكان متفوقا على اقرانه ، وبرع في تخصص جراحة العيون من خلال دراسته العليا في بريطانيا ، وعاد الى وطنه ، فتنقّل في انحاء العراق طبيبا عسكريا في القوة الجوية ، واستقر ببغداد حتى وصل الى رتبة فريق اول ، ولكنه لم يحملها كون هذه الرتبة العليا لا تمنح للاطباء العسكريين ، فبقي برتبة لواء طبيب ، وقد نصّب مديرا للامور الطبية وآمرا لمستشفى الرشيد العسكري . عرفه اغلب ضباط الجيش العراقي وقادته ووثقوا به على امتداد العهود الجمهورية . وعرف بمهنيته العالية وبصلابته وانفته وشجاعته في قول الحق حتى لو كان على نفسه وعدم توسطّه لأحد أبدا ، وعدم تراجعه عن اي قرار يتخذّه ، مما سبّب له المزيد من المتاعب والمنغصّات .. كما عرف عنه برّه بوالديه – رحمهما الله – .. وكانت له عيادته الشهيرة في الباب الشرقي عند شارع السعدون ببغداد ، والتي قصدتها الالاف المؤلفة من الناس على مدى اربعين سنة، وقد عرف عن الرجل انه مختص بارع ، وكثيرا ما تكون معالجاته وعملياته الجراحية خيرية ومجانية لكل من يعرفه ، ولمن لا يستطيع تسديد ثمنها ، اذ لم يهتم في حياته ابدا للمال ولا للمناصب ..
في جلستنا الطويلة معا ، حدثني طويلا عن نوادر من المعلومات التاريخية ، منها عن شخصية يونس بحري وبعض اخباره الاولى ابان فتوته وصبوته في مدينة الموصل ، كما حدثني عن بعض مرويات تاريخية مخفية لعهود كل من قادة العراق الجمهوري : عبد الكريم قاسم ، وعبد السلام عارف ، وعبد الرحمن عارف ، واحمد حسن البكر ، وصدام حسين .. وقد صنّف كل واحد من هؤلاء وتحدّث عن شخصياتهم وحللها تحليلا عميقا بحكم معرفته الشخصية بهم جميعا . ومنها انتقل في الكلام عن تاريخ بعض قادة وضباط الجيش العراقي ، ومنهم العقداء : عبد الوهاب الشواف وعبد الرحمن عارف وعبد الوهاب الامين وعلي البزاز وغيرهم ، كما حدثني عن قائد القوة الجوية العراقية على عهد الزعيم قاسم زعيم الجو الركن جلال الاوقاتي الذي كان احد امهر الطيارين العراقيين ، واردف قائلا : بأن الاوقاتي قضى ليلة كاملة يتوسل بالزعيم قاسم ان يلغي تنفيذ احكام الاعدام بزميليه ناظم الطبقجلي ورفعت الحاج سري وبقية ضباط الموصل عشية ذلك التنفيذ دون جدوى ! وحدثني عن محكمة المهداوي وقد ورد اسمه في جلساتها ، وقال : عندما سئل امير اللواء غازي الداغستاني عن كيفية وصوله الى تلك المكانة العليا التي وصلها على العهد الملكي ، اجاب موجها نظراته الى ماجد محمد امين قائلا : بتبويس الايادي ! فاصاب القاعة وجوم كامل ، وقد رمى احد ضباط المحكمة الكبار بحجر ، اذ كان ذلك الضابط يهمّ بتقبيل يد الداغستاني على العهد الملكي !! وتكلم عن وقوف الزعيم سعيد قطّان معه كونه قد اسدى له معروفا في يوم من الايام .. وكيف وجد امامه في المستشفى الجثث والدماء تغطيها بعد ان جيئ بها الى مستشفى الرشيد يوم 8 شباط / فبراير 1963 والايام التي تلته . وحدثني عن الرئيس السابق عبد السلام عارف وموقفه الشخصي منه ، اذ اصر عارف على قراره بنقل غازي من بغداد الى كركوك كونه تعامل بمنتهى المهنية مع اقرباء الرئيس دون محاباة ، وتكلم عن الاختلاف الكبير بين شخصيتي الاخوين عارف وسايكلوجيتهما ، اذ كانا على طرفي نقيض ، فقد عرف في كركوك اخ الرئيس عبد الرحمن وكان يلعبان النرد في نادي الضباط ، فغدا صديقا له .. وحدثني عن الرئيس احمد حسن البكر الذي كان يتابع باصرار ما يقوله الشارع عنه ، فضلا عن شواهد من صداقة البكر القوية بالاستاذ محمود شيت خطاب ، كما ساق لي أمثلة وشواهد على الصراع الخفي بين البكر وصدام منذ بداية عقد السبعينيات ، واسرار حركة ناظم كزار كاملة التي لم يتكلم بها ابدا وقتذاك مع احد ، باستثناء واحد فقط نصحه بأن لا يحكي ذلك ابدا خوفا على حياته .
وحدثني عن كل من المرحوم شاذل طاقة الشاعر المعروف ووزير الخارجية الذي تحوم شبهات مؤكدة حول وفاته الغامضة في المغرب ، وكثيرا ما كان السيد النائب ينتقد شاذل اذ كان يأخذ الامور بهدوء ، وانه لم يكن يتمتع باسلوب ثوري ، ويتسوّق لبيته بنفسه ويتعامل مع الناس بروح عادية لا فوقية !! وحدثني ايضا عن المرحوم زعيم الشرطة بشير احمد السلمان الذي كان رفقة عائلته ضحايا عمليات المجرم ابو طبر ، عندما قتل مع زوجته وابنه واخوها رحمهم الله على سطح دارهم قتلة شنيعة ، اذ كان ابو طبر من اخطر المجرمين الذين ظهروا في تاريخ العراق الحديث .
ثمة مرويات اخرى حدثني بها الرجل لا استطيع البوح بها الان ، ولكنني قد سجلتها في اوراقي حتى يحين اجل نشرها في قابل . كما تطرّق الدكتور غازي الى كتاب حنا بطاطو عن الطبقات الاجتماعية في العراق ، وقال : لقد اورد بطاطو اسمي في كتابه في غير موضعه وان معلومته عني غير دقيقة ابدا للتاريخ . اجبته : بأن ليس معلومة واحدة خاطئة عند بطاطو ، فكتابه غارق في اخطاء لا تعد ولا تحصى من ناحية المعلومات التاريخية والسير الذاتية خصوصا ، اذ لم يكن الرجل مؤرخا دقيقا في كل الذي اورده من روايات تخص عدد كبير من الناس العراقيين ! مما جعل بعض احكامه واستنتاجاته خاطئة جدا .
ولقد كان الدكتور غازي جميل قد فرّ من العراق في ظروف صعبة على عهد صدام حسين متخفيا بعد فترة زمنية من احالته على التقاعد بدرجة ادنى ، واستقر به المطاف في لندن .. وفوق هذا وذاك ، فهو انسان رقيق واديب متمكن بثقافته المتنوعة ، ويحفظ على ظهر قلب الاف الابيات من الشعر ، وهو معجب بالعديد من الشعراء ، وقد القى امامي قصيدة اثيرة لديه جدا للشيخ الدكتور احمد الوائلي ، وكان يحفظها على ظهر قلب ، يقول فيها :
بغداد يومك لا يزال كأمسه
صور على طرفي نقيض تجمع
يطغى النعيم بجانب وبجانب
يطغى الشقا فمرفه ومضيع
في القصر أغنية على شفة الهوى
والكوخ دمع في المحاجر يلذع
ومن الطوى جنب البيادر صرع
وبجنب زق أبي نؤاس صرع
ويد تكبل وهي مما يفتدى
ويد تقبل وهي مما يقطع
وبراءة بيد الطغاة مهانة
ودناءة بيد المبرر تصنع
ويصان ذاك لأنه من معشر
ويضام ذاك ؛ لأنه لا يركع
كبرت مفارقة يمثل دورها
باسم العروبة والعروبة أرفع
فتبيني هذي المهازل واحذري
من مثلها، فوراء ذلك إصبع
واستلهمي روح الوفود فإنها
شمل يلم، وأسرة تتجمع
وترسمي الركب المغذ ولاتني
فالركب أتفه ما به من يظلع
وإذا لمحت على طريقك عتمة
وستلمحين لأن دربك أسفع
شدي وهزي الليل في جبروته
وبعهدتي أن الكواكب تطلع
تحية كبيرة لابن العم العزيز الدكتور غازي جميل ، متمنيا له الصحة والعافية وراحة البال ، وان مجالسته ثروة ادبية وتاريخية كونه يمتلك ذاكرة تعد موسوعة من الاحداث والسير والاخبار والمأثورات ..
سيار الجميل في لندن 7 آذار / مارس 2016.
نشرت على صفحة الدكتور سيار الجميل في الفيس بوك 12 آذار / مارس 2016 .