الأمّ خالدة
ذكرى مرور عشر سنوات على رحيلها
سيّار الجميل
اليوم ، تمرّ ذكرى رحيل والدتي العزيزة ، وانا اذرف الدموع بعيدا عن قبرها الجميل .. تمرّ اليوم 16 آب / اغسطس 2016 ذكرى مرور عشر سنوات كاملة على رحيل الأمّ خالدة رحمها الله وأسكنها فسيح جنانه .. اكتب كلمتي هذه ، وأنا أقف في لحظة حزن أمام ذكراها الحزينة ، فقد كانت أمّا عظيمة رائعة حنونة ، وامرأة صالحة طيبّة متسامحة حكيمة كريمة رقيقة عطوفة ومتواضعة تحبّ الجميع .. وكلّ يوم يمضي ونحن نفتقدها كثيرا ، ونحتاج لها ..
كم أشتقت اليك يا أمّي العزيزة خالدة ، فقد كنت من أروع الامّهات ، ومن أفضل سيّدات المجتمع اللواتي عشنَ في الزمن الجميل .. وكنّ نِعمَ المربيّات اللواتي كافحن كثيراً من أجل أولادهن وبناء أجيالهن وحبّ البلاد .. غادرتُ العراق وغبتُ عنها زمناً طويلاً ، وبرغم كلّ وسائل الاتصال ، الا ان لهفتي عليها كانت كبيرة ، اذ لم أشهد محنتها الاخيرة أيّام مرضها ولم أودّعها الوداع الاخير .. بقيت تنتظريني طويلاً، وأنا لا استطيع العودة لأراها وأقبّل يديها الكريمتين ، فقد كانت الظروف الصعبة التي ألّمت بنا قاسيّة ولم تزل ، وكانت تلك أمنيتها الاخيرة وهي على فراش الموت ، اذ نادت : أريد أرى سيّار وأغمضت جفونها الى الابد ولم ترني !
ستبقى كلماتك سيّدتي تغصّ في قلبي غصّة عميقة حتّى يحين أجلي .. لقد غدوت لي ولاخوتي الاعزاء ، أمّا وأبا وصديقاً ومعلماً ومربياً ورفيق درب طويل .. وكنتُ ولدها البكر وعمري لا يتجاوز الخامسة عشرة سنة عام 1968 عندما رحل أبي عن الحياة في عزّ شبابه اثر سكتةٍ قلبيّة وهو في واجبه على منصّة القضاء رحمهُ الله ..
ماذا أذكر من سجاياك الكريمة ؟ ماذا أسجّل للناس عن سيرتك العطرة ؟ ماذا أكتب عن قيمك وتقاليدك الرائعة التي تحليّت بها ؟ كم كنتِ ” مدرسة” في الاخلاق وأسلوب المعاملات العالي وبثّ روح المساعدة والعمل الخيري ؟ كم عانيتِ من آلام وجع الرأس ، فقد قاسيت جدًا من داء الشقيقة على امتداد حياتك .. ؟؟ كم منحت الفقراء الذين كانوا يقصدونك من كلّ حدبٍ وصوب ، وكنت تجزلين لهم العطاء بحيث لا تعرف شمالك ما كانت تمنحه يمينك لهم ؟
كنت تؤمنين بالعدل والمساواة ، وكنت كريمة ومضيافة ، وكنت تعشقين زهرة القرنفل الحمراء ، وصوت فريد .. والاشجار الوارفة واخضرار أم الربيعين ، وشواطئ دجلة عند الغروب قرب غابات الموصل .. كم كنت وثيقة الصلة بجاراتك أينما حللت وأقمت ؟ كم كنتِ بارة بأهلكِ وأقربائكِ وقريباتك ؟ كم كنت سمحة ومتسامحة مع الجميع ؟ كم كنت تكظمين الغيظ في ذروة انفعالاتك ، ولكنك تقابلين الاساءة بالاحسان وتقابلين الاحسان بأحسن منه ؟ كم تعلمّنا منك الكثير ، فقد كنت معلمّتي الاولى في هذه الحياة ، تعلمّنا السماحة والصفح عن المسيئين ، ومداراة السفهاء ، والقوّة أمام الشدائد ، والاستجابة للتحديّات المريرة ، والارادة في صنع القرار ، والعفّة أمام المغريات .. تعلمّنا منها أدب الحوار ، وآداب المجالسة ، وآداب المائدة ، وتحمّل الاوجاع ، ومراعاة مشاعر الاخرين ورسم الابتسامة على الوجوه ..
عشرات من صديقاتك المخلصات رحلن الى دار البقاء ، ولم يتبّق منهنّ الا بعضهن أطال الله في أعمارهن ، وهنّ يذكرنك دوماً بأطيب الذكر صباح مساء ! كم كنت تستقبلين الجميع في بيتك الكبير ، وكنّ متنوعات من كلّ ألوان الطيف الاجتماعي ، ومن كلّ أرجاء وطن فسيح كان أسمه العراق ! أنتبهت يوما الى أبي محدّثا أمّي ، اذ قال لها قبل رحيله رحمه الله في 28 نيسان / ابريل 1968 ، بالحرف الواحد : سنرحل نحن وسيلاقي أولادنا وأحفادنا من بعدنا في هذا العراق كلّ المآسي والالام !
رحم الله أمّ سيّار رحمة واسعة وأسكنها فسيح جنانه .. انا لله وانا اليه راجعون .