عقد المركز العربي للبحوث ودراسة السياسات في الدوحة يومي 10-11 ابريل / نيسان 2013 ، مؤتمرا دوليا شاركت فيه عدة شخصيات من قادة سياسيين واساتذة اكاديميين ومراقبين دوليين ، لمناسبة مرور عشر سنوات على احتلال الولايات المتحدة وحلفائها للعراق عام 2003 . وقد عولجت في جلسات المؤتمر جوانب الاحتلال الذي اسقط النظام السياسي الدكتاتوري السابق ، وتأثيراته وتداعياته ، ليس على العراق نفسه ، بل على كل المنطقة التي تأثرت بحالة الفوضى والتشرذم التي مرّت بالعراق تحت مسميات شتى . وكانت اميركا قد فشلت في حكم قبضتها على العراق بفعل ردود الفعل القويّة التي جابهتها في كلّ اصقاع البلاد ومقاومة الاحتلال الذي اساء كثيرا للعراق والعراقيين ، باستثناء اقليم كردستان الذي تمتّع بهدوء كبير مقارنة بما حدث في بقيّة انحاء العراق من انقسامات وتشظيات غاية في الخطورة .
لقد قدّمت في جلسات المؤتمر عدّة اوراق مهمّة جدا ، وخصوصا تلك التي تتعّلق بالحدث ، وتفصيلات كاشفة عن تقدّم الجيوش المحتلّة وكيفية مواجهتها من قبل قوّات العراقيين ، واخطاء قاتلة ارتكبتها سابقا القيادة السياسيّة والعسكرية ، وسلسلة المعارك التي سبقت تشرذم الجيش العراقي وسقوط المدن العراقية واحدة تلو الاخرى بأيدي قوات التحالف التي تقودها الولايات المتحدة وسقوط النظام السابق مع كل رموزه ومؤسساته ، فانتهت الدولة العراقية التي تأسسّت عام 1921 ليبدأ تاريخ جديد تعمّه الفوضى وتذبحه الانقسامات !
بعد عشر سنوات على ذلك ” الحدث التاريخي ” ، او كما وصفه الدكتور عزمي بشارة في افتتاحه للمؤتمر بـ ” الحدث المفصليّ الذي غيَّر مجرى تاريخ المنطقة، وأثّر في فهمنا للسياسة العالميّة ككلّ ” .. الحدث الذي شدّ الدنيا ، بدا العراق بعد احتلاله اثر سنوات التجويع والحصار والقهر ، دولة فاشلة ، ومجتمعا منقسما ، وتمكّنت ” الفوضى الخلاّقة” في اوصاله ، بعيدا عن كلّ ما استخدم من زيف واكاذيب في العمليّة السياسيّة التي طبقّوها ، مرورا بإصدار دستور لا تتّفق بنوده وتقدّم العراق والعراقيين ، بسبب اصرار الادارة الاميركيّة على تأسيس نظام سياسي يقوم على المحاصصة الاثنية والطائفية ، وتغييب دور كلّ النخب السياسيّة الحرّة والمجموعات المثقفّة المدنيّة والتقدميّة الديمقراطيّة ، واعتماد الأحزاب الطائفيّة والدينيّة والاثنيّة التي اضرّ حكمها بالعراق كثيرا ، ذلك ان عناصرها التي حكمت العراق لم تفهم معاني الديمقراطيّة ، ولم تدرك ابسط القواعد السياسيّة في الحكم والادارة ، ولم تقرأ شيئا عن العراق ولا عن العراقيين ، فضلا عن ابقاء علاقاتهم مع بعض الانظمة الاقليميّة التي كانت قد احتوتهم سياسيا وايديولوجيا منذ زمن بعيد ..
كان البعض من العراقيين يتوّهم ان العراق سيتقدّم على اليد الاميركيّة من خلال مشروع اعمار ، لاسيّما في المجال العلمي والتكنولوجي ، وخصوصا ما خربته الالة العسكرية الأمريكيّة منذ حرب عام 1991 وانتهاء بحرب 2003 ، ولكن خابت الظنون جرّاء السياسات العقيمة التي اتبعها بول بريمر ، وما تأسسّ على يديه من تقاليد ومفاهيم واتفاقيّات ، اذ لم يكتف بسياسة المحاصصة التي اسموها بـ ” التوافقية ” ، بل صفّقوا للفيدرالية ، ونودي لعدة مشروعات بجعل العراق عدّة اقاليم كرسّها الدستور كمبادئ ، وعادوا اليوم ينكرونها ليس باعتبارها نقيضا للمواطنة العراقية – كما قلنا ذلك منذ زمن طويل – ، بل لأنها تصطدم ومصالحهم اليوم .. ولقد أدّت السياسات العقيمة التي استخدمتها وباركتها الولايات المتّحدة ، الى خلق الفوضى ، وعطب الامن الداخلي ، وانتشار الفساد انتشارا مذهلا ، وتفشّي الامراض السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة ، في ظل انعدام اية خدمات ، وانشغال اغلب السياسيين والمسؤولين الكبار والصغار بنهب المال العام وعقد الصفقات المشبوهة ، والاشتراك في الجرائم الامنية والسياسية والمالية !
عشر سنوات والشعب العراقي يعيش مأساة التمييز الطائفي والاحقاد الاثنية ، التي كان لابّد ان تمحّي وتكبت نهائيا بإعطاء كل ذي حقّ حقّه ، وتوفير فرص الحياة العراقية الكريمة المنطلقة من اسس مدنيّة وحضاريّة ، والاعداد لمشروع وطني يقوم على مبادئ اساسية يجمع عليها العراقيون مع الحفاظ على المؤسسات الحيوية في البلاد ، وابعاد أيّة تدّخلات خارجيّة اقليميّة أو دوليّة في داخل العراق ، فضلا عن الحفاظ على استقلاليّة القضاء ونزاهته ، مع ادارة ذكيّة للازمات وحلّ المشكلات . أن الولايات المتحدة التي لم تكن مستعدّة لتولّي إدارة العراق ، وتحمّل مسؤولية الحفاظ على السلم والنظام في أعقاب انهيار تام للمؤسسّات الحكوميّة ، لم تضع خطّة استراتيجيّة لمستقبل العراق ، ولم تفسح المجال للعراقيين التكنوقراط المستقلّين المتمدّنين ان يكون لهم أي دور في اعادة البناء ، بل اسهمت في تدمير العراق بنيويّا ، ولم توافق البتّة على أيّ مشروع وطني يقوده اناس يدركون قيمتهم ودورهم في قيادة العراق .
ان المسؤوليّة الأولى تقع على سلطة الاحتلال التي اسهمت في انزلاق البلد نحو الفوضى وانعدام القانون، والاعتماد على ساسة عراقيين اغلبهم من الطائفيين والمتعصبّين والمتخلّفين ، اذ لم يعرف احدهم ادارة بيته ، فكيف به وقد اصبح العراق لعبة في يديه ؟ فازداد الفساد ، وعمّت الفوضى ، وافتقد الامن ، واشتعل الارهاب ، وكثرت الميليشيات ، وسقط الاف الناس الابرياء مع انعدام الاعمار وانتفاء الخدمات ، وماتت كلّ الآمال والامنيات التي انتظرها العراقيون لأكثر من خمسين سنة .. ولمّا يزل العراق حتّى اليوم ، وبعد مرور عشر سنوات على احتلاله ، يتراجع يوما بعد آخر ، من دون ايّة بادرة حقيقيّة لإنقاذه من هذه الورطة التاريخيّة القاسية .. بل ان السنوات العراقيّة الصعبة ، كانت لها تأثيراتها وتداعياتها على كل المحيط والمنطقة العربية باسرها .
أن أحد اكبر الاخطاء التي ارتكبتها الولايات المتحدّة في العراق ، يتمثّل بترتيب النظام السياسي الحالي ضمن ما اسموه بـ ” العمليّة السياسيّة ” التي بنيت على أسس طائفيّة مقيتة ، حيث اعتقد الأمريكان متوهّمين ان المجتمع العراقي كان منقسما بطبعه حسب الانساق الطائفيّة والاثنية والعصائبيّة ، من دون مراعاة لنصائح او خبرة عراقيين مستقلين ، بل انصاعوا لما قاله هذا المرجع الديني ، او ما رغب به ذاك المتخلّف السياسيّ ، او ما قالت به تلك المستشرّقة الغبيّة . وعليه ، فقد كرّس هؤلاء نفوذهم ، وسيطروا مع احزابهم وميليشياتهم على كلّ مرافق الدولة وممتلكاتها ، واستغلّوها علنا استغلالا بشعا ، مع فسادهم وانعدام كفاءتهم وضعف نفوسهم ، فضلا عن خنوعهم لبعض دول الاقليم واجندتها السياسية في العراق والاقليم معا .
هنا ، نتساءل : متى يبدأ الزمن المغاير في العراق ؟ متى تنتهي المأساة في العراق ؟ متى تتخّلص ” الدولة ” من فشلها وعجزها وتخلفّها وفسادها ؟ متى يتخّلص المجتمع من انقساماته الطائفيّة وشروخاته الجهويّة وتعصبّاته العرقيّة وتخوفّاته المريعة ؟ متى تتّغير العملية السياسيّة الحاليّة التي قامت باسم ” المكوّنات من اغلبيّة واقليّات ” الى مشروع وطني جديد يقود البلاد والعباد الى المستقبل ؟ متى يعمل حكام العراق على التآلف والانسجام بين العراقيين ؟ متى تنطفئ عند العراقيين نار الفتنة العمياء ؟ متى ينتهي زمن الكراهيّة والبغضاء ؟ متى ينتهي البلاء ويضمّحل هذا الوباء ؟ انني واثق تمام الثقة من أن هذه المرحلة التاريخيّة الصعبة ستمضى الى حتفها ، وسوف يستعيد العراق دوره الحضاري ، من خلال القضاء على كلّ اجندات الاخرين ، وعلى عقود الطغيان وعلى سنوات الخراب ، ليبدأ مشروعا سياسيا وطنيا ، وسيعمل العراقيون على تغيير الدستور واصدار قوانين مدنيّة وتشريعهم قانون الاحزاب على اسس وطنية ومبادئ مدنيّة وسياسيّة حقيقيّة كنّا قد نادينا بها منذ اكثر من عشر سنوات ، تبعد التدخلات الأجنبية وتكرّس همومها لمشروع وطني عراقي ديمقراطي حقيقيّ ، يعيد التماسك والانسجام بعيدا عن كل التناقضات والصراعات . والاهم من كلّ هذا وذاك ان يبقي على وحدة البلاد بعيدا عن التمزّق والانفصالات . متى سيأتي ذاك اليوم ؟ ربما سيتأخر قليلا لعشر سنوات قادمة او طويلا اكثر بكثير ، لكنه آت حتما ، وان غدا لناظره قريب .
نشرت في البيان الاماراتية ، 30 ابريل / نيسان 2003
http://www.albayan.ae/opinions/articles/2013-04-30-1.1873039
ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيّار الجميل
www.sayyaraljamil.com
وايضا على صفحته على الفيس بوك .
شاهد أيضاً
لا وصاية على جامعاتنا العراقية !
لم أفاجئ أبدا بأفكار السيد علي الاديب وزير التعليم العالي والبحث العلمي في العراق ، …