في معرض حديثه بمؤتمر “الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي” الذي انعقد في الدوحة 6-8 اكتوبر 2012 من قبل المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ، أخبرنا الاخ عبد الوهاب الانسي البرلماني اليمني ومستشار الرئيس اليمني عام 2012، قصة شيقة وهو يصف كلاً من القادة الاسلاميين وخصومهم في حياتنا العربية، فقال بأن رجلا مرموقا ومعروفا، اختل عقله وتأرجح توازنه وأصابه مسّ من الجنون.وبدأ يتخيّل ان ” الدجاجة ” تريد افتراسه، فوضعوه في مستشفى المجانين سنين طوالاً تزيد على الثلاثين حتى صرّح أطباؤه بأنه قد شفي تماما من مرضه النفسي، ولم يعد يخاف الدجاجة او يرتعب منها، فجاء أهله لتسلّمه. فقابلوه وسألوه: كيف تشعر الآن؟ هل ما زلت تخاف الدجاجة؟ فأجابهم بالنفي التام، ذلك أنه قد شفي تماما من جنونه وأكدّ قائلاً: لقد اقتنعت الآن بأن لا دجاجة تفترسني، ولكنه قال متسائلاً وهو يتلفّت شمالاً ويميناً: انني مقتنع بذلك تماماً، ولكن من يقنع الدجاجة بأن لا تفترسني؟
هنا نسأل : إذا وصف الرجل كل المستنيرين العرب بالدجاجة، فلماذا لم يفّسر لنا بوضوح : من يكون المجنون؟ لقد شنّ القادة الاسلاميون في المؤتمر حملات قاسية ضد كل الحداثويين والمتمدنين والمتحررين كونهم من العلمانيين وكالوا ضدهم كل الاتهامات، وأطلقت عليهم أقسى الأحكام. وهنا ينبغي التوقف قليلاً عند الدجاجة التي كانت ولم تزل وستبقى تفيد الانسان كثيرا في بيضها ولحمها وفراخها وحتى ريشها، ولكن ما الذي قدّمه المجانين للناس؟ لم يقّدموا شيئا أبدا، بل انهم أضّروا الحياة كثيرا وقلبوا الحياة رأسا على عقب. فالدجاجة اهم بكثير من ذاك المجنون وهو غبي جدا، وبمنتهى البلادة ، إذ إنه مؤمن إيمانا عميقا بأنها سوف لا تهنأ أبدا الا اذا افترسته كونها تقّدم للحياة بيضا مفيدا ولحما طريا وفراخا شهية، ولكنه لا يقّدم شيئا أبدا.
لقد ثبت الآن ان أغلب القادة الجدد من الاسلاميين المعاصرين الذين وظفوا الدين توظيفا سياسيا بدائيا كما يجري في اكثر من بلد عربي وغير عربي ، وخصوصا بعد ان اتوا للسلطة في بلدان شاءت الاقدار ان يحكموها .. لا يفقهون بديهيات الحياة، فكيف بهم وهم لا يدركون خصائص رجال الدول. ان هؤلاء القادة الجدد يجهلون تاريخنا جملة وتفصيلاً، بل ويستهزؤون بكل تكويناته وعناصره ، فهم يعتقدون – مثلاً – ان كل خصومهم في سلة واحدة ، وان الليبراليين والمصلحين المتمدنين لا يزيد عمرهم على ستين سنة فقط، وقد فشلوا وفشلت تجربتهم، ولم يدركوا كم تأثرت الشعوب بالفكر الحديث، وخصوصا في الحريات والدساتير والتمدن والقوانين والأنظمة منذ قرابة مائتي سنة وكان النهضويون العرب قد أدركوا قبل غيرهم متغيرات العالم منذ زمن طويل.
وإن كانوا دجاجا، فهم قد انتجوا وباضوا وكانوا فوائد للناس. لم يعترف القادة البدائيون الجدد أن رجالاً نهضويين وحداثيين قد أخلصوا لأوطانهم وخدموها بمشروعات تاريخية مهمة، بإيجابياتها ام سلبياتها، وقدموا اشياء لا تعد ولا تحصى، وهم على عكس القادة الجدد تماما، الذين لم يقدموا اي مشروع حتى هذه اللحظة، وهم يعيشون في القرن الواحد والعشرين، بل ما زالوا يهيمون بخطاباتهم ومخيالاتهم ومواعظهم التي لا تتسق ومعايير هذا العصر أبدا . لقد كان من اشهر القادة المستنيرين ذوي المشروعات الكبرى في تاريخنا: محمد علي باشا وسليم الثالث والخديوي اسماعيل وخير الدين باشا التونسي ومدحت باشا وشكيب افندي والأفغاني وعبد الحميد الثاني وفيصل الاول وجعفر العسكري وأتاتورك وسعد زغلول وفارس الخوري ونوري السعيد ورستم حيدر وجمال عبد الناصر ومحمد الخامس ومصالي الحاج وبورقيبة وجورج حبش وعبد الله السالم الصباح وزايد الثاني وغيرهم كثير.
وكانوا جميعا رجالات دولة من الطراز الاول ولم يكونوا رجال دين أبدا، فالفرق كبير بين هؤلاء وأولئك. أولئك الذين قدّموا مشروعات خدماتهم للبلاد التي حكموها، وما كانوا بأعداء للدين، ولكنهم نجحوا في بناء علاقات وشيجة مع شعوبهم من خلال مشروعاتهم الوطنية والقومية وتجسير رائع مع النخب والأكفاء وروح العصر، فكان ان خدموا بلدانهم وشعوبهم ردحاً طويلاً من الزمن.
لقد سمعت على امتداد جلسات المؤتمر انتقادات صارخة ومحمومة ضد المتمدنين والليبراليين والاشتراكيين والحداثيين والعلمانيين كونهم فشلوا في حكمهم على امتداد ستين سنة مضت، وأنهم لم يقدّموا شيئا، والجواب على هذا الهذيان يتمثل بالنفي التاريخي تماما، فلقد نجح العديد من القادة والزعماء الاوائل في مشروعاتهم المدنية والدستورية لبناء دول عصرية في القرنين التاسع عشر والعشرين. وكانت لهم رؤاهم المستقبلية في المجتمعات التي حكموها، وتقويم واقعهم المضني وانتشال تلك “المجتمعات” وتحريرها من الاوضاع التي كانت عليها. ان المستبدين والدكتاتوريين والانقلابيين من أصحاب الصولجانات والنياشين الذين حكموا العديد من أوطاننا لاحقاً لم يكونوا من المستنيرين النهضويين أبدا، بل كانوا ضباعا وذئابا لا يعرفون شيئا عن التمدن والحداثة والمعاصرة والدستور ومشروعات الحرية والتقدم، فافترسوا البلاد والعباد وحكموا الناس بالحديد والنار، وكانوا هم سبب قدوم الأوبئة الجديدة التي تجتاح حياتنا اليوم.
وعليه ، ينبغي ان تنصفوا كل المصلحين والمتمدنين والزعماء الحقيقيين من البناة الذين قدّموا الكثير ورحلوا ليأتي من بعدهم المعتوهون والمشوهون والمجانين ، فأين رجال الامس الاقوياء من تعساء هذه الايام ؟ إن حاجتنا اليوم أساسية لصناع دول وبناة مجتمعات، وقادة مشروعات تتسق وروح العصر.ان الدجاجة لا يمكنها أبدا ان تقتنع بافتراس المجانين، فهي أضعف من مواجهة الديكة، وقد كانت منذ القدم طيراً مسالماً، ولكنها قادرة على نقر عيون من يضايقها، بالرغم من وداعتها وانشغالها بإنتاج بيضها ورعاية فراخها الصغار. فإن صحت نظرية ما رواه لنا صاحبنا المستشار، فينبغي ان ندرك على كل حال بأن الدجاجة غير قادرة اليوم أبدا على افتراس المجنون، فكيف بها وهي تواجه هذا العداء السافر لها من قبل كل المجانين في الأرض؟
نشرت في البيان الاماراتية ، 30 اكتوبر / تشرين الاول 2012 ،
http://www.albayan.ae/opinions/articles/2012-10-30-1.1756682
ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيّار الجميل
www.sayyaraljamil.com
شاهد أيضاً
القصبة بعيدا عن القرصنة !
عدت من تونس مؤخراً بعد سفرة علمية، فوجدتها مبتهجة جداً بمرور سنة على اندلاع ثورتها …