أصدر الدكتور عزمي بشارة مؤخّرًا دراسةً قيِّمَةً عنوانُها : “هل من مسألةٍ قِبطِيَّةٍ في مصر؟”، عالج فيها هذا الموضوع بمُنتهى الحصافة والهدوء، وكان مَسلَكُهُ علميًّا في البحث عن أجوبةٍ للسؤالِ الذي جعل منه عنوانًا لدراسته. ولقد قرأتُ الدّراسة الصادرة في كُتَيِّبٍ بشغفٍ كبيرٍ، ووجدت صاحبها قد نجح نجاحًا حقيقيًّا في ثلاثة مجالات منهجيّة أساسيّة؛ ذلك أنّه قدّم أوّلًا -وبتركيز رائع- تجذيرًا تاريخيًّا لوجود الأقباط في مصر، بحُسبانهم من سكّانها القدماء، وتدرّج في فهم أوضاعهم التاريخيّة إبَّانَ القرنين التاسع عشر والعشرين أثناءَ عهد حكم الأسرة العَلَوِيَّةِ، والمكانة الطّبيعيّة التي تمتّعوا بها -على وجه خاص- حتى العام 1952. ثمّ نجح صاحبُ الدّراسة -ثانيًا- في تحليل أبعاد وتطوُّرات المسألة القِبطِيَّةِ وفهم المشاكل التي رافقتها على عهود الرؤساء المصريّين الثلاثة : جمال عبد النّاصر وأنور السّادات وحسني مبارك.. ثمّ خلُص -ثالثًا- إلى أبعاد ” المسألةِ ” بكلّ ما حفِلت به من مشكلات اليوم.
الأهميّة والمواصفات
ولقد تمّت ” المُعالجةُ ” من خلال الاعتماد على مصادر أمينة ومراجع رصينة؛ وبدا لي أنّ المؤلّف قد فهم مضامينها، وأسعفته معطياتُها كثيرًا.. بعيدًا عن تلك ” الكتابات ” الصّحافيّة والسّياسيّة المنتشرة اليوم. كذلك، لم يقتصر بشارة على معالجة المسألة سياسيًّا، بل تناول البُعدَ الاجتماعيَّ والاقتصاديَّ لوضع الأقباط الّذين ساهمُوا إسهامًا حيويًّا في بناء مصر الحديثة ونهضتها، على امتداد القرنين التاسع عشر والعشرين. ولعلّ أهمّ ما جذبني إلى هذه الدّراسة، تلك الروحُ الحِياديَّةُ والنّزعةُ الموضوعِيَّةُ في معالجة المسألة، فضلًا عن ” الرؤية ” التي استخلصها المؤلّف من قراءته لأوضاع الأقباط في بنية المجتمع المصريّ الحديث، لنفهم كيف سارت التحوّلات في خِضَمِّ الأحداث وتداعياتها، أو كيف انتقل الشّعورُ من حالة التّعايش السّلميّ الّتي بُنِيَ عليها المجتمعُ المصريُّ منذ عهد الوالي محمد علي باشا وما تلاه من عهود أبنائه وأحفاده، إلى حالة التّنافر والصّراع الدّاخليّ الذي وجد انطلاقته مع ثورة 23 تمّوز/ يوليو 1952 وحتى يومنا هذا.
الأقباط ليسوا ضيوفا في مصر!
إنّ “المسألة” لا تُعالج بالأرقام بين أغلبيَّة وأقليَّة، بل تكمُن في الشّعور بالتهميش واللّامبالاة أوّلا، ثمّ الانتقال إلى حالة الصّراع الدّاخليّ ثانيًا. ولعلّ أهمّ نقطة شخّصها المؤلّف عن مصر – وأعتَبِرُها بدوري ساريةَ التأثير في ما حدث في العراق أيضًا – قولُه: ” إنّ تحوّل الدّولة إلى تبنّي مواقف دينيّة، وتشجيع تديُّنٍ إسلاميٍّ معيَّنٍ ضدّ التَّديُّنِ السّياسيّ، أنتج ظاهرةً مُرافِقَةً هي: شعورُ الأقباط بأنّهم غرباء عن هذه اللُّعبة، في حين أنّهم ليسوا ضيوفًا بل هم مصريّون أصليّون. وفي رأينا، أنّ تراكم هذا البعد الوجدانيّ، وليس التّمييز الذي يُقاس بالأرقام فقط، هو الأمر الأكثر أهميّة في تبلور الهُوِيَّة القِبطِيَّة، وفي مستوى تسييس هذه الهُوِيَّة ” (ص 27). إنّ هذا أخطرُ ما أنتجته مرحلتان جِدُّ مُهمّتين في تاريخنا المعاصر : مرحلة المدّ القوميّ العربيّ الّتي وصلت إلى ذِروة قوّتها في مصر النّاصريّة(1949-1979) وما تلاها، ومرحلة تيّارات الإسلام السّياسيّ في العالم الإسلاميّ، الّتي عايشناها منذ العام 1979 وحتّى اليوم. وفي كلتا المرحلتين، تبلورت ” المسألةُ القِبطِيَّةُ ” في مصر ” على ضوء تطوُّرين مهمّين، هما: تصاعدُ الشّعور بالغُبن الطائفيّ لدى فئاتٍ واسعةٍ من المواطنين المصريّين الأقباط، والثورةُ المصريّة الكبرى وما يمكن أن تقوم به لإعادة صوغ العلاقة بين مسلمي مصر وأقباطها في إطار هُوِيَّةٍ وطنيّة مشتركة ” (ص 7 .(
إشكاليّات المسألة وركائزها
جاءت ” الدّراسة ” على خلفيّة تقريرٍ أعدّه المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السّياسات، طُرح فيه تساؤل : هل من مِلَفٍّ قِبطِيٍّ مفتوحٍ في مصر ينتظر المعالجة؟ ثمّةَ دوافع حركّت إعداد هذا المِلف، خصوصًا احتجاجات الأقباط منذ منتصف العام 2010، إثرَ تفجير كنيسة القدّيسين في الإسكندريّة. وقد أرجئ نشرُ تقرير المركز بسبب اندلاع الثّورة المصريّة في 25 كانون الثّاني / يناير2011، والتي تلاحم فيها الشّعب المصريّ مسلمين وأقباطًا ضدّ نظام الحكم. ولعلّ من المُهمّ جدًّا قراءةَ ما قاله المؤلّف : ” وكنّا توصّلنا إلى نتيجةٍ تقول إنّ هنالك مِلفًّا قبطيًّا في مصر، وإنّه مِلَفٌّ حقيقيٌّ وليس نِتاجَ تآمرٍ أجنبيٍّ أو تحريضٍ إسلاميٍّ، ولا هو محضُ نِتاجِ انعزاليَّةٍ تَتَّبِعُها المؤسسةُ الكنسيَّةُ، وإنّ معالجته هي شرطٌ لمواجهة جميع العوامل الأخرى التي تستغلّه فتزيده حدّة. وهذا يعني أيضًا، أنّ أيّ نظام ديمقراطيّ مقبل في مصر لا يمكنه الاكتفاءُ بالتّشديد على ‘تآخي الطّوائف‘، وسيكون عليه أن يعالج قضايا عينيّة..” (ص 8-9). هكذا يضع المؤلّف مفاتيح الحلّ منذ بداية مشروعه الذي عالجه تاريخيًّا وسياسيًّا بمنتهى الذّكاء والحكمة.. تُرى ما الّذي قام بالتّركيز عليه؟ ثمّة نقاط حسّاسة قام بشارة بمعالجتها، غير مُكتفٍ بالإشارة إليها فحسب، منها:
1. الصراع وجميع عناصر الفتنة التي تنشأ من حين إلى آخر هي أهليّة أساسًا؛ حيث يتحوّل أيّ نزاع فرديّ إلى خلاف وصراع جمعيّ، كما يدّل على ذلك من أحداث عديدة. وينبّه المؤلّف إلى أنّ “الفتنة الطائفيّة هي أقصرُ الطّرق لإجهاض ثورة 25 يناير” (ص 10)، وهذا ما استخدمته قُوى الثّورة المضادّة وقيادات أمن الدّولة سابقًا (ص 11).
2. الإرادةُ القِبطِيَّةُ وطنيّة مشروعة، كونها تطالب بأن يكون القبطيّ “مواطن درجة أولى” (ص 12) وهذا حقٌّ مشروعٌ بعد ثلاثة عهود سياسيّة عانى فيها الأقباط جميعُهم من التّهميش والإقصاء.
3. دور الإعلام القبطيّ والقنوات الفضائيّة المسيحيّة في إذكاء الغضب المسيحيّ (ص 13)، وهذا ما لم نشهده سابقًا. وقد ساعد ذلك الإعلام في دفع الآلاف من الأقباط إلى المشاركة في التّظاهرات والاحتجاجات.
4. تبلوَر تيَّارٌ شبابيٌّ ثوريٌّ لرفض الفتنة الطائفيّة وأحداث العنف، أعلن عن وجوده بقوّة في الثّورة، وهو تيّارٌ مركزيٌّ في المجتمع المصريّ (ص 14).
المواطنة : إحقاق جمعيّ
عالجت الدّراسةُ في ” مقدّمتها ” معلوماتٍ ورؤًى قابلةً للتفكير، مع ربط ذلك بالتجذير التاريخيّ، بدءًا بمصطلح ” القبط ” وأصالة الأقباط، كونهم مصريّين أصليّين يصعُبُ تصنيفُهم أقليَّةً إزاءَ أكثريَّةٍ، كما أنّه من الصّعوبة أن يتمّ تصنيفُهم ” أقباطًا ” لا ” مصريّين “، إذ لا يمكنهم أن يقبلوا احتكار المواطنة من قِبَلِ غيرهم، وينبغي أن يتمتّعوا بحقوقهم الوطنيّة في كلٍّ من الدّولة والمجتمع، كونهم حافظوا على هُوِيَّةِ مصر واستمرّوا تاريخيًّا، وبقوا محافظين على كنيستهم الأرثدوكسيَّةِ المُرقسيَّةِ القِبطِيَّة التي مقرُّها الاسكندريّة وينتمي إليها كلُّ أقباط العالم.
ونتساءل : لماذا تَحِنُّ عواطفُ الأقباط في مصر إلى تاريخ الأسرة العَلَوِيَّةِ التي حكمت مصر قُرابةَ الـ150 سنة؟ فيجيب الدّكتور عزمي بشارة في دراسته بوضوح عن هذا السؤال، مؤكّدًا أنّ أوضاعهم كانت متوازنة في تعامل الدّولة والمجتمع معهم، من خلال النُّزوع نحو مساواة الأقباط ببقية المواطنين في الحقوق والواجبات (ص 21). لقد مُنِحوا أدوارَهم الطبيعيّة، وتقلّدوا المناصب المناسبة والدّرجات العليا، ورُفعت عنهم الجزيةُ، وانخرطوا في الخدمة العسكريّة، وتخلّصوا من الذِمَّةِ والذِمِّيَّةِ، ودخلوا سلك القضاء والجيش (ص 22)، ودُعم تعليمُهم الدينيُّ، وتولّى منهم اثنان رئاسة الوزراء، ونُصِّبَ منهم وزراء، وتمتّعت النُّخب القِبطِيَّةُ بحرّيّتها في الاقتصاد وفرص التّعليم.. إلخ؛ بل إنّ الأقباط قد تنوّعوا في مفاصل البِنية الاجتماعيّة المصريّة من خلال البرجوازيّة الصّاعدة والإقطاعيّين الكبار والمِهنيّين المتنوّعين، واشترك الفقراء والطّبقة الدّنيا مع المسلمين في الانسحاق والتّهميش معًا (ص 23).
تُعتبر سنة 1952 حدًّا فاصلًا بين زمنين في الذّاكرةِ القِبطِيَّةِ، فيما جرى لهم على عهود كلٍّ من الرّؤساء الثلاثة : عبد النّاصر والسّادات ومبارك. لقد نُسف كلّ البناء التاريخيّ الّذي استمرّ منذ بداية القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، وذَوَت الحقوقُ الجمعيَّةُ، وتعرّضت أوضاع الأقباط للتناقضات، وسُحقت آمالُهم، وضُربت مصالحُ النُخبَة الاقتصاديّة القِبطِيَّة العليا في الصّميم. وكانوا أمام مُتغيِّرَينِ اثنينِ: اندفاع المدّ القوميّ وثورة عبد النّاصر العارمة بعد العام 1956، ثمّ طُغيان المدّ الإسلاميّ الذي اندفع بشكل سريع جدًّا بعد العام 1979. لقد انسحب الأقباط من الحياة السياسيّة بعد شعورهم بالإقصاء وغياب الديمقراطيّة، إثرَ ثورة الضّبّاط الأحرار عام 1952، وإلغاء عبد النّاصر للأحزاب السياسيّة واستثنائه الإخوان المسلمين من ذلك. لقد وجد المجتمع المصريّ نفسه أمام قرارات خطيرة، بجعل مادّة الدّين أساسيّة في المدارس، وتأسيس جامعة في الأزهر، وجعل الأزهر أداة طيّعة بيد الحكومة، وإنشاء دار القرآن، إلى غير ذلك من السياسات التي بقيت مستمرّة بكلّ فاعليّة أو أكثر، على عهدَي السّادات ومبارك لاحقًا (ص 27).
بعد العام 1980، ازدادت الهُوَّةُ بين الأقباط والدّولة إثرَ التّشدّد في الخطاب الدينيّ وإقحام الدّين في الدّستور، والاعتماد على الشّريعة الإسلاميّة مصدرًا للتّشريع، واشتراطات الدّولة لبناء الكنائس أو حتّى ترميمها، واستُبعد الأقباط من التّرشيحات، وربّما وَجد بعضُهم مُتَنَفَّسًا على عهد مبارك، مُقارنةً بما كانوا عليه على عهد السّادات، إذ تبلور انفتاحٌ بسيطٌ من الدّولة مع عدم إلغاء أيٍّ من ممارسات عهد السّادات، ولمّا زال نظام مبارك مؤخَّرًا، كان اثنان من الأقباط وزيرين في الدّولة. ويمنحنا المؤلّف فرصة للمقارنة في عدد نوّاب الأقباط في البرلمان المصريّ لما قبل ثورة يوليو 1952 وما بعدها بجداول مهمة جدًّا (31-32).
الاندماجات والافتراقات
من الأشياء الأساسيّة في هذه ” الدّراسة ” تحليل الوضع الاقتصاديّ للأقباط في مصر، إذ لم يقتصر دورُهم على مهنة معيّنة أو طبقة معيّنة، أو نُخبَةٍ بذاتها، بل تجدهم لا يختلفون شيئًا عن الأنساق الاجتماعيّة للمسيحيّين العرب الذين عرفتهم مجتمعاتُنا العربيّة في كلّ من بلاد الشّام والعراق، ذلك أنّ ثمّة طبقيَّةً من أعيان وملّاكين ومُتَنَفِّذِينَ كبار، انتقالًا إلى طبقة متوسّطة من الموظّفين ورجال الأعمال والأساتذة وأصحاب المِهن العليا، مرورًا بأصحاب المِهن والتّجار والمقاولين، إضافةً إلى المزارعين والصنّاع والفنّانين، وانتهاءً بالطّبقة المسحوقة (ص 32). ويخلُص المؤلّف إلى نتيجةٍ مُهِمَّةٍ يُلَخِّصُها في قوله: ” ومن هذه الناحية، لا يوجد فارق جوهريّ في التّوزيع الطّبقيّ للأقباط عن بقية المصريّين. فالأقباطُ مندمجون في الطّبقات الاجتماعيّة وفي الفئات السكّانيّة في مصر كلّها” (ص 33). ويمتلك الأقباط ربع إجماليّ الثّروة القوميّة، ذلك أنّ نِسَبًا عاليةً من وسائل النّقل والصّناعة والبنوك والأراضي الزّراعيّة، هي ملك لهم؛ هذا وأنّ ثلاثة منهم أُدرجت أسماؤهم في قائمة أغنى أثرياء العالم. وعلى الرّغم من كلِّ ذلك، فإنّهم يعيشون إحباطًا وتذمُّرًا لِمَا يسمعُونه من هذا وما يلاقُونه من ذاك، وأنّهم يعيشون خيبةَ أملٍ بين ارتباطهم بمصريّتهم من جانب، وبين معاناتهم في الاعتراف بمواطنتهم من جانب آخر.
دعونا نقرأ ما الذي استنتجه المؤلّف، إذ يقول : ” وفي هذا السّياق تبرز حقيقة أخرى، هي أنّ بعض الوظائف المهمة في الدّولة، لاتزال مُغلقةً أمام المواطنين المصريّين الأقباط، وأنّ نسبة تمثيلهم في حقول القضاء والإعلام والبعثات الدبلوماسيّة والجيش والشّرطة لا تتجاوز 2%..” (ص 34).
ثمّةَ مصادرُ متنوّعةٌ لشكوى الأقباط من الحَيفِ والغُبنِ، متمثلةً في مناهجِ التّعليم وتجاهل الأقباط وتاريخهم والدّيانة المسيحيّة، والتشديد على الوتر الطائفيّ، وصبغ الحياة المصريّة بالصبغة الإسلاميّة، والتمييز في الخدمة العسكريّة، وتغيير تحيّة العلم الوطنيّ بالقَسَم الإسلاميّ، وتضييق الحكومة على بناء وترميم الكنائس، وتهجير بعضهم، بالإضافة إلى معاناة كلٍّ من المسلمين والأقباط معًا من الأوضاع المأساويّة، ثمّ حالات القتل وتفجير الكنائس، وما كان لها من آثار وتداعيات على بِنية المجتمع المصريّ. كلُّ هذه الأسباب وغيرها، قادت إلى تشكيل جمعيّات و” لوبيهات ” في الخارج، تناضل بكلّ الوسائل من أجل حقوق الأقباط ومساواتهم مع الآخرين في التّعامل والديمقراطيّة.. إلخ (ص 42-43).
رؤية من أجل المستقبل
ينبّه المؤلّف معالجًا التحوّل التاريخيّ في مصر بعد الثّورة الأخيرة، الإخوان المسلمين إلى أنّ ثمّة فرصةً تاريخيَّةً لهم ولغيرهم، للمراجعة وتوضيح مبادئهم في المسائل المدنيّة مع زوال النّظام السّابق. فهل سينفتح زمن جديد في مصر يتساوى فيه الجميع؟ هل سيُقضى على الفساد بنفس الدرجة التي يقضى بها على التحريض الطائفي؟ هل سيتم وضع حدٍّ للصّراعات والانقسامات الداخليّة في بِنية المجتمع المصريّ؟ هل سيُصار إلى حالةٍ جديدةٍ تُبعِدُ شبَح الانقسام أو الانفصال عن مصر؟
إنّ المؤلّف قد نجح نجاحًا كبيرًا في تحديد مواضع الإصلاحات اللازمة لتفكيك التّوتّر المرتبط بالمسألة القِبطِيَّةِ في مصر ما بعد الثّورة، ومن ضمنها مسائلُ الوضع القانونيّ للأقباط وإعلاءُ الهُوِيَّةِ الوطنيّة بديلًا عن الهُوِيَّةِ الدينيّة.. (ص 49)، وتطوير قانون الأحوال الشخصيّة والميراث، بإصدار قانونٍ خاصٍّ بالأحوال الشخصيّة القِبطِيَّة، ثمّ معالجة جذريّة للتفجيرات التي تَطَالُ دور العبادة، وأن يتمّ استعادةُ المواطنة المصريّة، مع التّشديد على الهُوِيَّةِ المصريّة دون غيرها، وتخفيف الحملات الإعلاميّة والحملات السّياسيّة العدائيّة بين الأقباط والمسلمين، بل إيقافها نهائيًّا، فضلًا عن العمل على انحسار أجواء الغضب على المواقع الإلكترونيّة.. ثم إيقاف هذا السيل من الفتاوى التي تصدرها الجماعات السلفيّة ضدّ أقباط مصر، وهي من أخطر ما يُمارس في المجتمع ضدّ المجتمع نفسه، في ظلّ صمت مُطبِقٍ من الدّولة (ص 50- 70).
وأخيرا : ما الذي خرجنا به من هذه القراءة؟
في خلاصته، يُشَدِّدُ المؤلّف الدّكتور بشارة على أنّ ملف الأقباط في مصر، بحاجة ماسّة إلى معالجة جدّية، وأن ينتقل الادّعاء إلى توفر النّيّة الصّادقة لتلك المعالجة؛ وإذا لم يكن ذلك متوفّرًا لدى النّظام السّابق، فإنّ أيّ نظامٍ جديدٍ ملزمٌ بالاعتراف بوجود ملف خطير يتعلّق بهُوِيَّةِ الدّولة، إذ لا يكفي وجود تسامح في التّعامل مع الأقباط، بل إلغاء التّمييز والاعتراف بأنّهم مواطنون أصليّون لهم ارتباطهم العضويّ مع مصر وترابها ونيلها.. مدنها وحقولها.. بحرها وصحرائها.. دلتاها وصعيدها.. ” ومن هنا فإنّ مفتاح التعامل مع هذا الملف هو المواطنة المتساوية. والديمقراطيّة هي الإطار الملائم لمثل هذه المقاربة.. ” (ص 70). إنّها دعوة تاريخيّة رائعة، يقدّمها الرّجل للإخوة الأعزّاء في مصر من أجل بناء تاريخيّ مدنيّ يُخلّص بلادهم من كلّ التّناقضات التي حفِلت بها، على امتداد العهود الجمهوريّة السابقة. ويمكنني أن أضيف إلى ذلك، أنّ مصر بحاجة ماسّة إلى تشريعات وقوانين مدنيّة تراعي مصالح كل أبناء المجتمع، وأن تستفيد من تجربة العراق القاسية بانقسام مجتمعه وتشَظِّيهِ إلى طوائف وملل وجماعات. إنّنا نخشى على مصر ومستقبلها، داعين إلى أن تجد طريقها السّليم في الثّلاثين سنة القادمة. وأتمنّى صادقا أن تكون رسالة الصّديق المُفكّر الدّكتور عزمي بشارة، معلمًا على طريق بناء مستقبل مصر، ومعالجة أخطر ظاهرة سياسيّة واجتماعيّة تعاني منها، وأن تكون ” رسالته ” الإنسانيّة والحضاريّة علامةً فارقةً في دروب تقدّمنا وتطوّر أجيالنا القادمة.
عنوان الكتاب : هل من مسألة قِبطِيَّة في مصر؟
المؤلّف : الدكتور عزمي بشارة
الطبعة الأولى،، بيروت 2012
الناشر : المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات / الدوحة
توزيع : الدار العربية للعلوم ناشرون.
عدد الصفحات: 78 ص
نشرت على صفحة موقع المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات ، 14 ديسمبر / كانون الاول 2011 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
شاهد أيضاً
على المشرحة.. لا مواربة سياسيّة في الحوار العلمي (الحلقتان الأولى والثانية)
الحلقتان الاولى والثانية اولا : تاريخ نضالات أم صفحة خيانات ؟ 1/ مقدمة : أهداني …