رحم الله الشاعر الجواهري، الذي قال في قصيدة له عنوانها “أمم تجد ونلعب” والتي نشرها عام 1944 في جريدته الرأي العام:
ونعيش نحـن كمـا يعيــش على الضفاف الطحلب
متطفلـين على الوجــــود، نعـوم فيه ونرسـب..
من الذي صنع واقعاً كهذا الذي شهدنا صورته وتشكيلاته ووجوده ومكوناته طوال حياتنا المعاصرة؟ ربما يختلف البعض من الذين لا يرون في واقعنا المضني، إلا الوداعة والروعة، أو الأوهام والأحلام الوردية.. بل ويخالف البعض ضميره من أجل ألا يسمع أبداً، أي نقد أو أي اعتراض، ويبدأ بسلسلة اتهامات لأولئك الذين يريدون الثورة الحقيقية على الواقع العربي المضني، في بلدان ما كان ينبغي أن تبقى هكذا منذ عشرات السنين ونحن في مثل هذا العصر.. إنهم يتشبثون بالطغاة والمستبدين، مهما بلغ حجم جرائمهم وظلمهم لشعوبهم.. ولعل أسهل تعبير راج في الثلاثين سنة الأخيرة هو “جلد الذات”، فهؤلاء الذين يستخدمون هكذا تعبير لإبقاء الواقع على ما هو عليه، تدفعهم مصالحهم ومنافعهم، أو أوهامهم وضعف بصرهم وبصيرتهم. فهم على رأس تلك الطحالب التي ليس لها إلا التصفيق للواقع المرير بكل أدرانه وأوساخه، بل ويبيحون كل تناقضاته الصعبة. والأنكى من هذا البعض، جمع من المهرجين للسلطة تحت مسميات ومسوغات شتى، وهم يبيحون كل الموبقات والجرائم، ولا يتورعون عن قتل الشعب على أيدي قواتهم وجنودهم ومرتزقتهم وكتائبهم وأشباحهم وميليشياتهم ، من أجل إبقاء هذا النظام أو تلك الأصنام، وإيجاد كل المبررات للنيل من القوى الوطنية.
نعم، إنهم يعيشون كما يعيش على الضفاف الطحلب.. يقتاتون مع الطفيليين، وهم يأكلون أنفسهم بأنفسهم، ويؤذون الآخرين، ويمقتون الطيبين والعاملين والنزهاء والوطنيين الحقيقيين .. لا تجد فيهم إلا الكراهية والاحقاد تملأ صدورهم على الناس.. يمقتون كل العالم ويمجدون أنفسهم.. يجدون بغيتهم في التسلط وإملاء إرادتهم على المجتمع بأية وسيلة.. إنهم يسرقون المال وينهبون البلاد ويسحقون العباد ، بل ويجعلون من أنفسهم سادة على الآخرين. إن مجتمعاتنا التي سحقتها أحادية الدكتاتوريين، ومهراجات القوى السياسية، ومرتزقة التنظيمات الحزبية، وجوقات المهرجين والمروجين الذين خلقوا انتماءات بديلة عن الأوطان فيها، يرتكبون أكبر جريمة تاريخية.. وعندما تصبح الهوية مضاعة بين حزمة من الانتماءات، فإن كارثة محققة ستلحق بتلك المجتمعات ، اذ ستفتح الابواب امام الغزاة والمحتلين الجدد .
لا نريد أن تتكرر تجربة العراق الانقسامية المأساوية في مجتمعات أخرى، عندما تشظى المجتمع العراقي بعد انهيار الدكتاتورية، ليدخل إلى جهنم أخرى، ولكن باسم الديمقراطية هذه المرة ، فيعيش الفوضى وهو ملييء بالخطوط القانية الحمراء التي لا يمكن تجاوزها أو تخطيها، وإلا تكون قد زرعت قنابل موقوتة تنفجر في أوقات معينة لتحرق الأخضر واليابس معاً.. وليس من الإنسانية أن تلغى ذاكرة مجتمع كامل، من أجل طائفة بذاتها، أو دولة رئيس، أو صاحب فخامة ، او سماحة امام او معالي وزير !
إن الطحالب لا تتنفس إلا في المياه الضحلة، وهي لا تقوى على الحياة أمام إرادة الشعب ومشروع وطن . وعليه أقول لمن لم يزل يقف عند أعتاب الطغاة القدماء او الجدد ، إن الحقيقة أقوى بكثير من هؤلاء المصفقين والمهرجين والموتورين والطفيليين .. إن علينا رفض هذا الواقع الكسيح. فهل من الأمانة والضمير أن نبقي على الفساد، من أجل أن يحيا حكم هذا أو ذاك، ونترك البلاد تطوف في بحر من الدماء؟ هل من الأخلاق أن نصفق لأحزاب عائلية أو طائفية أو شوفينية غرضها تجزئة المجتمع وتمزيق هويته الوطنية.. من دون العمل على مناشدة كل شعوبنا السعي لخارطة طريق جديدة تقوم على أسس نظيفة ومتسامحة مع الذات والعالم؟
إن أغلب الطغاة من الأغبياء، فلو امتلكوا قدراً ضئيلاً من الذكاء لسمحوا لمنتقديهم بأن يتكلموا وأن يسمعوهم، لا أن يوصي الدكتاتور جوقته بسحق الناس ومحو إرادتهم، أو تعذيبهم وقتلهم في الاقبية او في الشوارع هؤلاء لا يمكن الوثوق بهم وبحكوماتهم، وستكون نهاياتهم وخيمة وصعبة.. فهل يبقى الجيل الجديد والأجيال المقبلة تغط في نوم عميق؟ أو أن تبقى في رحلة عذاب تاريخي نحو المستقبل؟ هل وصل بنا الأمر أن نطرب لسماع كل الفوضى العارمة من دون السعي للوعي بالمصير الذي ينتظرنا؟ إلى متى نغلق حواسنا وعيوننا عن الأخطاء التي يرتكبها هذا أو ذاك باسم هذه القوة أو هذا الحزب أو تلك المليشيا أو تلك الكتائب او اولئك المرتزقة او هذه الشرطة او رجال الامن والمخابرات .. الخ
هل نبقى على سكوتنا أمام ما نراه ونسمعه من أقلام مأجورة أو أفواه موتورة، تحاول ملء عقول النشء الجديد بالخرافات والأوهام والشعارات الكاسدة ؟ هل ماتت جذوة الأمل في التقدم نحو الأمام؟ ابدا ، فلم تزل نزعة الاوطان وحرية الانسان اقوى من كل الاصنام . ولكن هل سنبقى نعيش كما يعيش على الضفاف الطحلب؟ إلى متى يبقى الطفيليون يعومون على الوجود.. وفيه حتفنا يتقرب؟ إلى متى التخاذل أمام هؤلاء الطغاة؟ إلى متى يبقى مصيرنا في أيديهم؟ إلى متى إلى أسواطهم نتحبب؟ إلى متى تبقى إرادتنا مرتهنة في أيدي هؤلاء؟ إلى متى يبقى كل التعنّت وكل التعصب؟ حتى وصل الجواهري في نفس قصيدته لقوله الرائع:
إن النضــــال مهمـــــــة يعيــــــــــــا بها المترهب
إن الحيــــاة ســـــــريعة وجريئــــة لا تغلـــــــــب
نشرت في البيان الاماراتية ، 20 تموز / يوليو 2011 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
Check Also
مطلوب لائحة اخلاق عربية
تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …