ثمة أسئلة ساخنة توجّه إلى أولئك الذين نصبّوا أنفسهم فقهاء جددا، وقد تسلطوا على مجتمعاتنا باسم الغلو والتعصب والتطرف، وأصبحوا بمثابة أوصياء من خلال الإعلام على حياتنا المعاصرة، وعلى مواريثنا المشروعة.. نشاهدهم على شاشات الفضائيات واليوتيوب ومواقع الإنترنت، وقد تيبسوا داخل شرانق يابسة أو أقفاص مغلقة في عصر منفتح على العالم وثقافاته بكل إيجابياته وسلبياته. إن أجندتهم تطالب بتأسيس هوية جديدة للقمع والتخلف والتراجعية، وآلية صاعقة للتنكيل الطائفي المقيت، وهم يستخدمون كل الأكاذيب والالتواءات واللغة الفجة والشتائم المقذعة..! تساعدهم في ذلك حكومات وقوى تسلطية وأحزاب وجماعات وشراذم طائفية، لها ترسانة إعلامية كبيرة، ينفق عليها بسخاء! لقد تجنى هؤلاء جناية لا توصف على مصائرنا السياسية وحياتنا الثقافية، من خلال أدوارهم الوعظية والترديدية والتسويغية والتخويفية والتحريضية، التي أثرت في الصميم في الجيل الجديد، ونحن نرى اليوم نتائج ذلك.
نتساءل: هل يعقل أن تتهافت مجتمعاتنا وتشغل بالها بالصراعات الطائفية عند بدايات القرن الواحد والعشرين؟ ولماذا ينقسم المجتمع على بعضه الآخر، بعد إيهامه بأشياء مخيفة لا أساس لها من الصحة تنبعث عن أنفاس مريضة لغايات شريرة؟ من سمح لمثل هؤلاء أن يحتكروا قنوات تلفزيونية فضائية تدخل كل البيوت.. كي يخلقوا الرعب، ويوزعوا الأحكام، وينشروا التخلف ، ويزرعوا الفتنة؟ من أين أتت كل هذه الكراهية والأحقاد لتزيد من هول التناقضات، وعقم الأوضاع، وبلادة الواقع؟ كيف تبلورت هذه اللغة القبيحة بكل مفرداتها السيئة، وسماجة صورها القميئة ، مع كيل الشتائم والسباب والالفاظ الجارحة ؟ لماذا ينكّل بالتاريخ والتراث المتنوع تنكيل مفجع على أيدي أناس جهلة أو كتبة متعصبين، أو رجال طوائف يحملون روح الانقسام، ويتعصبون حتى ضد أنفسهم؟
لقد كشفت ثورة العصر كل الأغطية عن أمراض اجتماعية تنكّل بمجتمعاتنا تنكيلا قاسيا! ولأول مرة تتفاقم الصراعات اليوم بين الطوائف والملل والأعراق، وتزداد الاحتقانات بين متخلفين ومستنيرين.. بين غباء حكومات وبين انهيار مجتمعات! إن المشكلة ليست مستوردة، بل تكمن في أعماق مجتمعاتنا المتشظية التي ناضلت من أجل الحرية. لقد عاشت مكبلة نفسها داخل أقنية، ومحشورة في توابيت! إننا نطمح أن تكون واقعية وواعية بنفسها، بدل التخيل بمثاليتها وملائكيتها.. أو جعلها تنهار بغلبة كل الأدران والموبقات والسلوكيات الطفيلية والمزيفة والمنافقة، بمختلف تناقضاتها المتصادمة. إن المستنيرين اليوم عاجزون أمام هجمة المتخلفين والمتعصبين ، فكان أن تراجع بعضهم ليكونوا وعاظ سلاطين، او مصفقين لشذاذ الافاق ، أو مهرجين في سيرك يزدحم بالشياطين! والحكومات لا تعرف ما الذي تفعله وسط هذا الهيجان!
نسأل أيضا: لماذا هذا الارتكاس الذي يواجه حياتنا العربية، ومجتمعاتنا تواجه مدا صاعقا يتسلط من خلاله المشعوذون والجهلة والطفيليون والحمقى الذين بدأوا بقتل كل القيم العلمية والأخلاقية! إنهم لا يؤمنون بأي علوم ولا بأية فلسفات، ولا يعرفون أي مناهج في التقويم، كي يقولوا ما لهم وما عليهم.. إنهم وجدوا الساحة لهم وحدهم، ليبشروا بالانقسامات وتوظيف خطايا التاريخ من أجل أهداف فاضحة.. إنهم مدعومون من حكومات وأجهزة، وممولون، كي يقتلوا كل روح علمية، وكل مفاهيم إنسانية.. إنهم يريدون إشعال النار لحروب عرقية وطائفية ودينية، باسم سياسات ومبادئ ومواريث عفا عليها الزمن.. إنهم لا يؤمنون بأن الحياة لها إيجابياتها وسلبياتها، وللتاريخ منجزاته وأخطاؤه.. إنهم لا يؤمنون بالقطيعة مع تاريخ مضى، كي تتشكل الحياة الحديثة على ضوء تجارب علمية وصريحة، بل يتشبثون بكل الخطايا في الضد منها أو للتصفيق لها! إنهم لم يكتفوا بما يكتبونه من الغثاثة والتفاهات، بل راحوا يذيعون قناعاتهم وخطابهم ومواعظهم التافهة في الفضائيات أو على صفحات الإنترنت واليوتيوب!
هل عدم التراث العربي والإسلامي كله على امتداد تاريخنا الحضاري وسلاسل أجيالنا، من نماذج متعددة وتسميات متنوعة تتوزعها عشرات، بل مئات من أمهات الكتب، وهي تتضمن ترجمات ورحلات وشروحات وأفكارا وفلسفات ومفاهيم ونظريات.. حتى نشطب على تاريخنا بسهولة، وكأننا مجتمعات عاشت متناحرة لا تعرف إلا شريعة الغاب؟ هل عاشت مجتمعاتنا لا تعرف إلا الهمجية، ولم يمثلها إلا الرعاع؟ كأنها لم تنجب الزهاد والمتصوفة والمتبتلين.. وكأن لم يولد في أعماقها المصلحون والمفكرون والفلاسفة والحكماء والنقاد والشعراء والفنانون والمؤرخون .. كأنها لم تعرف التعايش يوما، وقد امتدت بثقلها عبر مئات السنين في مدنها العريقة، ومعابدها المتنوعة ، وأسواقها الثرية، وعلاقاتها المسالمة، كأنها لم تعرف المعاني الإنسانية، ولا العشق والهيام والحب.. ولا حتى التجليات الروحية!!
كم كنت أتمنى لو كان بيننا اليوم من يحاسب كل من يثير النعرات، ويزرع الفتن، وينشر الخرافة ، ويهشّم القيم.. ويوظف الدين والقيم الفاضلة في الضد من سياقاتها.. ولكن بالرغم من كل المأساة، فإن التاريخ سيعيد توازنه من جديد عاجلا أم آجلا، وستدرك مجتمعاتنا في يوم من الأيام كم ضيعت من الزمن، وكم صرفت من الأتعاب، وكم أتلفت من الجهود.. وكم ساهمت في خلق تناقضات لا حصر لها ضد بناء مستقبلها. لقد أخطأ العديد من الحكومات العربية، عندما وقفت ضد مشروعات التغيير نحو الأفضل، ولم تدرك طبيعة المخاطر القادمة من الإقليم.. وأضاعت الحكمة في المعالجة، وهي تمنح كل الجناة شهادات حسن سلوك! فهل سيدرك الجيل الجديد مهماته من أجل المستقبل؟ هل يمكنه الاستجابة للتحديات القاسية وصنع مستقبل مدني يخلو من كل الانقسامات؟ هذا ما ستجيب عنه السنوات المقبلة.
نشرت في البيان الاماراتية ، 10 مايو / آيار 2011 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
شاهد أيضاً
مطلوب لائحة اخلاق عربية
تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …