من أجمل الحالات أن يعّبر الشعب عن مطالبه سلميا، وأن تكون إرادته وطنية وتفاعلاته أخلاقية، وذلك بالحفاظ على المال العام والخاص وصون الكرامة، وعدم الاعتداء وتحديد مستوى الغضب.. وعدم تحويل التعبير السلمي إلى صراع دموي يعبث بمقدراتنا، ويهتك مجتمعاتنا التي تعبت كثيرا جراء ما عانته من تحديات خارجية، وتدخلات سلطوية، وانسحاقات اجتماعية وشظف عيش، وانقسامات سياسية ومنهوبات اقتصادية وتهرؤات ثقافية.
لقد افتتح العام 2011 صفحته بأحداث مريرة في تونس الخضراء، التي لم تزل تتفاعل انتفاضتها الشعبية بعيدا عن الأحزاب وأطياف المعارضة التي يبدو أنها تؤهل نفسها لاقتطاف الثمار الجاهزة، التي ضحى من أجلها الشباب.. وبعد أن حقق الجيل الجديد انتصاره على جيل قديم بقي على موبقات أورثها إياه القرن العشرون.. المشكلة أن الأحداث التونسية لم تولد من فراغ، بل جاءت بعد ركام من العوامل المباشرة وغير المباشرة، وانطلقت بلا قيادة، ولا تخطيط، ولكن من خلال شراكة البعض الآخر ضمن علاقات الشبكة العنكبوتية، من دون أن توجهها أفكار إيديولوجية ولا أية خطط سياسية، بل أستطيع القول إن دور الإعلام كان أكبر من دور السياسة. وأن الروابط الالكترونية كانت أقوى بكثير من الفضائيات التلفزيونية، وأن الفيس بوك منح الشباب كل الحرية في تبادل ما يريد أحدهم من الآخر. إن الإعلام الالكتروني، بدأ يدفع اليوم بالأحداث إلى التفاقم، نتيجة ثورة الاتصالات الواسعة، ليس في داخل البلاد وحدها، بل مع كل العالم.
ليدرك كل السياسيين ورجال الحكم في عالمنا العربي، أن آليات القرن العشرين وعناصرها قد انتهت بلا رجعة.. وذهب زمن الانقلابات العسكرية والدوائر الأمنية.. وماتت الأحزاب التقليدية والإيديولوجيات الثورية التي كانت تنظم الأحداث الداخلية، وتسير بها نحو غايات مرسومة.. غابت البيانات من فئة رقم (1) التي تفاجئ الدنيا بحدوث انقلاب أو أي هياج ثوري.. غاب مصطلح «رسمنا بما هو آت..»، الذي عّبرت عنه هيئة ضباط أحرار، أو جبهة تحالف أحزاب.. وغدا الأمر تتحكّم فيه عوامل جديدة تبلورت في مجتمعاتنا مؤخرا، وعلى أيدي جيل جديد لم يعش تجارب القرن العشرين المتعبة، التي قادت إلى صناعة الدكتاتوريات هنا أو هناك، مع هياج المناخات الإيديولوجية، سواء تلك التي عاشت أيام الحرب الباردة إبان الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، أو تلك التي عاشت لثلاثين سنة بين 1979 ? 2009، لما وصف بتفاقم التيارات والجماعات الدينية التي أنتجت الصراعات الطائفية في السنوات العشر الأخيرة!
إننا في عالمنا العربي، إزاء مرحلة تاريخية جديدة، تتطلب التغيير من أجل أن تدرك مجتمعاتنا الطريق الأسلم لها في صراعها ضد التخلف والتسلط والدكتاتورية والظلم.. إننا أمام مرحلة تاريخية جديدة بدأت تتبلور اليوم، وهي في أمس الحاجة، ليس إلى تبديل الوجوه والأشكال فحسب، بل إنها بحاجة ماسة وضرورة حياة أو موت إلى تغيير التفكير والمضامين من أجل تحقيق تطلعات أوسع.
إن الضرورة باتت ماسة إلى تغيير أساليب الحياة، من خلال إعادة التفكير في ما يمكن عمله، لا في ما فات من الزمن.. على مجتمعاتنا أن تنظر إلى مستقبلها بمزيد من اتساع الرؤى، قبل أن تستعيد صور الماضي واجترار المشكلات والمفاخرات وقداسة الزعامات.. على كل القوى السياسية والفكرية العربية اليوم، أن تجدد نفسها بإعادة النظر في مظانها القديمة والأحزاب بأنظمتها الداخلية، فضلا عن تجديد القوانين وتمدينها، وتغيير المناهج التربوية والتعليمية، وتوسيع الرؤية نحو العالم، ونشر الثقافات الجديدة، والخروج من مستنقعات الماضي الآسنة التي قادت إلى تهتكات وانقسامات وتشظيات، ولا بد من الاهتمام بمصداقية الإعلام والاتصالات، قبل الإعجاب بالسياسات والخطابات الكاذبة.
إن مجتمعاتنا العربية في حاجة ماسة إلى رياح باردة للتغيير والانتقال السلمي من مرحلة تاريخية إلى مرحلة أخرى.. إنها في حاجة إلى فهم الأجيال القديمة لمنطق الجيل الجديد وضروراته.. إننا نحتاج إلى ثمة مبادئ أساسية تحدد العلاقة بيننا وبين متغيرات القرن الجديد، قبل أن تعصف بمقدراتنا العواصف الهائجة التي تقلب الأمور رأسا على عقب.. ليس المهم أن نباشر بالغضب والعصف المأكول وعمليات الحرق والنهب، وتفاعل الانقسامات وغياب الأمن والنظام، ولا حتى القتل والتدمير، بقدر ما تحتاج مجتمعاتنا إلى خلق جدلية حوار حضاري، من أجل التغيير السلمي بين الجيل القديم بكل ما يؤمن به من مسلمات، وبين الجيل الجديد بكل ما يسعى إليه من طموحات.
إن تشييدا جديدا للعلاقات الفكرية والسياسية ينتظر مجتمعاتنا، من خلال بدائل حقيقية تسعى للتقدم ولا تقود إلى التخلف.. وتمضي نحو التغيير بوسائط العصر، ومنها الاتصالات الاجتماعية عبر الشبكة العنكبوتية، التي تدخل اليوم كل بيت من البيوت، وكل مرفق من المرافق بحرية كاملة وبعيدا عن أية سلطة رقابية، أو أجهزة سيطرة!
إن التغيير أصبح من ضرورات التقدم في مجتمعاتنا، ولكن ضمن مجموعة مبادئ لا بد من صياغتها مع بدء هذه المرحلة الجديدة، التي ستشهد أغرب المفاجآت التاريخية على ساحات معينة، وفي بيئات مخصصة من عالمنا العربي الكبير، تستلزم التعامل مع روح القرن الواحد والعشرين، والتخلص شيئا فشيئا من بقايا القرن العشرين.
نشرت في البيان الامارتية ، 2 شباط / فبراير 2011 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
شاهد أيضاً
مطلوب لائحة اخلاق عربية
تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …