مقدمة : 2011 تفتتح مرحلة جديدة في التاريخ
كنت أتوقع أن تبدأ متغيرات التاريخ في منطقتنا مع نهايات العام 2009 ، ولكن مضى العام 2010 بكل ما حفل به من أحداث تاريخية صعبة رافقها رحيل عشرات الرموز العربية ، وقد اعتبرتها تمهيدا للعام 2011 الذي افتتح ايامه ومنذ الشهر الأول بسلسلة أحداث درامية قوية جدا ، بدأت في تونس ثم انتقلت الى مصر التي نشهد اليوم اشتعال الأحداث فيها ، وهي في قلب المنطقة . لقد قلت في مقال سابق لي نشر في إيلاف بتاريخ 6 يناير / كانون الثاني 2011 ، والمعنون بـ ” غياب عنقود عربي : 2010 : نهاية رعيل وولادة جيل ” : إذ كتبت قائلا في موضوع أسميته تساؤلات في مغزى سلاسل التكوين التاريخي : ” الا تثير سنة 2010 التساؤلات حقا ؟ ألا يتساءل المرء ، لماذا غاب العدد الكبير من الشخصيات السياسية والأدبية والعلمية والفنية عام 2010 ؟ لماذا بلغ الرحيل ذروته في 2010 ، بعد أن تصاعد منذ العام 2008 و 2009 ؟ ….. ويستدعي رحيلها جملة من التساؤلات المهمة عن نهاية رعيل وولادة جيل .. سألني احد الأصدقاء المثقفين والمتابعين وهو الأستاذ أكرم سليم رئيس تحرير صحيفة أكّد الكندية قبل عام مضى ، قال : كنت قد حدثتنا عن ظاهرة ستحدث عام 2009 ، ولكن العام مضى من دون حدوثها .. أجبته لننتظر اكتمال العام 2010 ، وها أنا ذا اعلمه بما سأل … إنها قفلة تاريخية ترحل فيها عناقيد من الناس لتنمو عناقيد أخرى في سلسلة تكوين تاريخي يتخضرم بين قرنين من الزمن ” . ولقد انتهيت من المقال بتساؤل يقول : ” وكم يا ترى سيحدث من متغيرات على أيدي الجيل الجديد ( من ولادات نهاية السبعينيات ومطلع ثمانينيات القرن الماضي ) ؟ وما سيتلوها من متغيرات على أيدي الجيل القادم الذي نشهد ولاداته الآن ؟ .. كيف ستكون حياتهم في ظل الصعقات الكبرى التي تجتاح العالم .. ” . فرضيتنا اليوم عن متغيرات النظام العربي الذي بقي على ما هو عليه منذ قرابة ثلاثين سنة .. دعوني أتساءل معكم :
لماذا لم ينتبه النظام العربي على نفسه ؟
لم ينتبه النظام العربي الحالي حتى الآن إلى حجم المتغيرات التي أصابت الجيل الجديد في حياتنا العربية ، ناهيكم عن تضاعف أعداد السكان في اغلب البيئات العربية مقارنة بما كانت عليه الاوضاع قبل ثلاثين سنة ! ولم ينتبه النظام العربي الحالي إلى كونه يسير بلا أية مؤسسات قوية لصنع التاريخ ، فلم تزل القرارات لا تصنع إلا في مكاتب الرؤساء والملوك والزعماء أنفسهم ! ولم ينتبه أولئك الزعماء العرب إلى أنفسهم ، إنهم ماضون باحتكار السلطة حتى نهاياتهم ، بل ويسعون إلى توريثها إلى أبنائهم ! لم ينتبه النظام العربي برمته حتى الآن إلى قوة النداءات التي ناشدته ، والمطالبات التي طالبته منذ مطلع القرن الواحد والعشرين ، ولم يفتح أي حوار مع اصحبها لمعرفة ما الذي يريدونه منه ! بل ولم يلتفت النظام العربي إلى نفسه حتى ولو لمرة واحدة ليعالج ما يحتاجه من خطط وبرامج ، إن كان يفكر بذلك أصلا ! لم ينتبه أبدا إلى قوة متغيرات العالم خلال الثلاثين سنة الأخيرة أبدا .. ولم يشعر بتأثير تلك المتغيرات بدءا بثورة الميديا ولا ثورة المعلومات ولا ثورة الاتصالات .. ولم يستوعب بعد تأثير ذلك على الجيل الجديد الذي ان سمح له بأي حراك ، فانه سيقدم البدائل العملية بعيدا عن تخبط الإيديولوجيات القديمة ! لم ينتبه النظام العربي الحالي الى ضعفه وخوره وهزاله الذي يعيش عليه ، ولم يزل يتغنى بأمجاد وهمية يعتقد بها ، وما هي إلا ثمة تجارب فاشلة في التاريخ !
ومثلما لم ينتبه النظام العربي الذي سبقه والذي عاش لثلاثين سنة بعد الحرب العالمية الثانية ، إلى أفول النزعة القومية وسقوط الأحزاب الشوفينية والنازية ، فكان المد القومي عند العرب طاغيا في النظام العربي السابق ، فان النظام الحالي الذي انبثق اثر انطلاق الوفاق الدولي اثر الحرب الباردة وانبثاق الدولة الدينية في إيران عام 1979 ، لم ينتبه إلى ما هو عليه اليوم إزاء متغيرات العالم منذ سقوط الاتحاد السوفييتي واضمحلال المنظومة الاشتراكية .. ولم يزل يتغني بالعقائدية ! لم ينتبه النظام العربي الحالي إلى شيخوخته التي يعيشها إزاء موجات مليونية من تدفق نزعات الجيل الجديد الذي يتنامى عدده بشكل هائل ، ولكنه يعاني من جملة تحديات واسعة لا يمكن التكهن بما ستحدثه في الثلاثين سنة القادمة وفي ظل نظام عربي آخر سيولد الآن ، ولا يعرف مدى قابليته على التغيير ! لم ينتبه النظام العربي الحالي إلى جملة من كوارث ومآس سببتها عوامل سياسية خارجية وداخلية .. ولم يسع إلى تفكيك تلك ” العوامل ” بصراحة متناهية من اجل إعادة تركيب البناء على ضوء جديد ! لم ينتبه هذا النظام إلى جملة من المطالبات المشروعة من قبل النخب الفاعلة والقوى التجديدية والتي نادت بالإصلاح .. أو تحديث كل المرافق ! لم ينتبه أيضا إلى شعاراته ومانشيتات إعلامياته وأكاذيبه التي صاغها في عدة مبادرات من اجل الإصلاح .. وكان أن أخرجها مسرحيا في عدد من مؤتمرات القمة من دون أي تفعيل او متابعة !
لقد كان النظام العربي الحالي كالنظام الذي سبقه غارق بأكاذيبه على الناس وفبركاته على العباد وفي أجهزة إعلامه الهادرة التي كانت مهمتها ولم تزل خداع الجماهير في كل مكان ! لم ينتبه أبدا إلى سقوط بعض الأنظمة السياسية في المنطقة العربية .. ولم يتعلم من تجارب بعضه بعضا ، ومثلما خدع الناس ، فالناس خدعوه وأوهموه أيضا بأن من سقط كان بفعل غزو خارجي وقد عميت العيون عن رؤية الحقائق أو الإبصار في ليل معتم ! لم ينتبه إلى خدعته للناس وخداعهم له باسم المؤامرات الخارجية والغزوات القادمة من وراء البحار .. وكأنه يجمع ملائكة لا تشوبهم أية شائبة !
لم ينتبه إلى المصالح القومية العليا عندما فتك الجار بجاره ، وآذى الأخ أخيه .. بل وراح البعض يرتزق على أبواب هذه الدولة أو تلك بعيدا عن سمعة النظام العربي وهيبته التي أطيح بها في الحضيض ! لم يفهم النظام العربي الاوضاع الداخلية السيئة التي تعيشها المجتمعات العربية ( باستثناء مجتمعات محددة وصغيرة ثرية في منطقة الخليج ) ، إذ تتفشى البطالة ، ويعم الفقر ، وينتشر الغلاء ، وتتفاقم المشكلات ، وتتزايد الصعوبات ، وتتوالد الإخفاقات في كل مكان من الأرض العربية ! ولم ينتبه النظام العربي إلى تلك العوامل الداخلية التي فتّت في عضد الناس ، وجعلتهم يعانون من عقم السياسات ، وسوء الإدارات ، وانتشار الفساد ، وازدياد الأزمات للغذاء ، والسكن ، والنقل ، والاتصالات ، والخدمات .. الخ لم ينتبه النظام العربي إلى حجم التحديات الإقليمية وزحف الشعارات وشراء الذمم مراهنا على توفيقيته مرة وعلى مركزيته مرات .. من دون أن يدرك تفككه وضعفه وهشاشته إزاء سياسات إقليمية مركزية وثابتة وواضحة الأهداف !
لم ينتبه النظام العربي إلى أن الإصلاح المنشود لا يقتصر على مؤسسة جامعة الدول العربية التي شاخت ولم تعد تقوى على الحياة ، بل وساهمت منذ تكوينها على أن تعمل ضد النظام الداخلي الذي تؤمن به ! فلم تفعل شيئا للنظام العربي سواء ذلك الذي عاش المد القومي اثر الحرب العالمية الثانية ، أم هذا الذي عاش المد الديني اثر الحرب العالمية الباردة ! إن النظام العربي الحالي يدرك كم سببت الجامعة العربية له من مشكلات ، وما كرسّته من حالات التفسّخ وما تراقصت به على جراحات الناس ! لم ينتبه النظام العربي إلى أن النمو السياسي ليس مجرد شعار سياسي أو ترقيع رسمي للبؤس الاجتماعي العربي الذي ازداد بشكل مذهل في السنوات الأخيرة .. بل راح يغّرد كل بلد عربي على هواه ! لم ينتبه النظام العربي إلى أن حالة الانقسام العربي لم تعد نفعا بزوال الحرب الباردة ، بل تفاقم امرها جراء عوامل لا تعد ولا تحصى .. وغدت الحياة العربية لا تطاق تناقضاتها في ظل حكومات دكتاتورية او مخابراتية او بوليسية .. واغلبها غارق في النفعية والفساد والجهالة ..
المواقف في دواخلنا العربية والاقليمية والدولية
ان دواخلنا العربية تنخرها الاختراقات من هنا وهناك وقد تفاقمت التناقضات في مجتمعاتنا التي اصبحت في خدمة الانظمة السياسية والسلطوية .. وتلوث المناخ السياسي الذي يعكس مواقف ومخاوف متباينة من التحديات الخارجية ، وان من المضحك جدا أن نطلق على أية تحركات شعبية تسمية ” اتجاهات الرأي العام ” ، فالرأي العام شيء والتحرك الشعبي شيء آخر .. ولا نستطيع القول بأن كلا من الاثنين مرتهن من قبل الأنظمة الحاكمة وإراداتها السياسية ، فكل ما يحدث على الساحة السياسية العربية لا يمثل بطبيعة الحال الرأي العام العربي الذي هو في عداد المختفين ، وان التحرك الشعبي لا يمكن أن يصّدق أبدا إلا إذا جاء عفويا من دون أي إعداد مسبق وترتيبات أمنية .. اذ انه يبدو مزيفا ، وهو ينطلق بموافقات حكومية ويرخص من قبل وزارات الداخلية . لقد كانت هناك ثمة تحركات شعبية واسعة النطاق عام 1991 في بعض العواصم العربية عندما ضرب العراق في حرب الخليج الثانية ، ولكن ما تأثيرها ؟ وماذا تحقق من جرائها ؟ فإذا كان الحال كذلك قبل قرابة عشرين سنة وفي ظل وجود القطبين الدوليين ، فما بالنا اليوم وقد انفردت الإرادة الأمريكية الواحدة بالعالم وأتباعها سياسة العصا الواحدة ، وفي ظل إستراتيجية خارقة لأغلب المناطق الحيوية في العالم ! لا أقول أنها بلغت مداها في التأثير على منظمات المجتمع المدني والقطاعات الشعبية ، بل لأن مداها في الاختراق والنفوذ قد وصل إلى الذروة بحيث لم يعد الانصياع هو الذي يميز الدول العربية والاقليمية حسب ، بل وصل إلى بلدان العالم كلها : زعماء وحكومات ومؤسسات وجيوش وعناصر مخابرات ..
فهل هي المجتمعات المدنية والقطاعات الشعبية أقوى من حكومات كبرى في هذا العالم المهتز على اشد حالات الاهتزاز ؟ اعتقد بأنني لست مخطئا إن قلت بأن مثل الحالة لم يمر بها العالم من قبل على امتداد التاريخ بغياب الانعكاس الثنائي في التاريخ وانفراد قوة عظمى للهيمنة على العالم كله ! كما اعتقد بأن الموقف العربي الراهن يتغيّر شيئا فشيئا ليزيل نظاما عربيا حكم لثلاثين سنة .. لصالح تبلور نظام عربي جديد ، لا نستطيع التكهن بمدى قوته واتساع مدياته ، وسيبقى لثلاثين سنة قادمة .. نجهل اليوم طبيعة كينونته وطبيعة علاقاته مع محيطه والعالم .
وعليه ، فان الصمت العربي الذي اطبق على الحياة العربية لأكثر من ثلاثين سنة ، سواء كان حكوميا أم شعبيا ، وكان قد غدا حالة مألوفة ولا يمكن تصنيفها لا باليأس من الاحتجاجات ولا بالتسليم ، الا بالأمر الواقع ولا اتساقا بين الطرفين : الحكومي والشعبي ، ذلك لأن المنطقة العربية بأجمعها كانت قد صمتت منذ زمن طويل ، وتعودت على الصمت الرهيب لأن صوتها لا تستخدمه إلا للتصفيقات وترديد الشعارات البهلوانية : ” يعيش ويسقط ” و ” بالروح بالدم ” ! أو أنها تستخدم شارعها السياسي بمنتهى القرف سواء في تشييع الجنازات والبكاء عليها أو سحل الجثث والتشفي فيها ! لقد جمع الشارع السياسي العربي نقائض لا حصر أو عد لها نتيجة ما لاقاه من قمع وما صادفه من اضطهاد على أيدي الأجهزة البوليسية .. وربما كانت الجاليات العربية والمسلمة في بعض العواصم الأوربية والأميركية تشكل فيها ثقلا معتبرا ، هي التي استفادت من مناخ الحريات والديمقراطيات في لندن وبرلين وباريس ونيويورك وغيرها لتعّبر عن المزيد من الاحتجاجات ..وأقول إن ما شهدته الشوارع الأوربية والأمريكية من احتجاجات ضد السياسات الأمريكية لم تكن إلا سببا للملايين المحتجين ضد العولمة وضد البطالة وضد الأوضاع الاقتصادية القميئة وليس حبا لا بالعرب ولا بنظامهم العربي الحاكم ولا بمنظومة العرب أو المسلمين !
وأخيرا : ماذا يمكننا قوله ؟
إننا نجد بأن الأصوات تعلو والانتقادات تتزايد ليس ضد غياب الديمقراطية والحريات عند العرب ، بل ضد النظام العربي الحالي الذي يعتبره البعض واحدا من أسباب خراب بلداننا وتدهور حياتنا .. إن هناك اليوم رأيا عاما أراه يتبلور يعلن عن مطالبات بالحريات وحقوق الإنسان بعيدا عن كل القيم الإنسانية التي ساهم في تغييبها النظام العربي الحالي ، وبدأت سنة 2011 بحالات ثورية تعلن الرفض الشعبي العربي العارم ، وهي تدرك توقيت ذلك الهياج وعمر ذلك الرفض ثم خفوتهما وسكوتهما نهائيا بعد تسليم العرب بالأمر الواقع ، وهذا ما أثبتته أحداث القرن العشرين .. وعليه ، فان الخصم عادة ما يزيد من وتيرة الأحداث باتجاه المزيد من نيل المصالح مستفيدا من وضع ليس مؤهلا فقط ، بل ومهلهلا ومتناقضا ومنقسما على نفسه بأقصى درجات الانقسام !
إننا نتوهم كثيرا من خلال عدم معرفتنا بما ستؤول إليه الأمور ، وصناعة أي حدث تاريخي قد نصفق له كونه يمثّل حالة إنقاذ .. من دون أن ندري ما سيلحق بنا من تداعيات وأضرار وأذى وآثار تدميرية .. فالعرب لا يستبقون الأمور ولا يحاولون درء أية ضربات أو اتقاء أية حروب نحن في غنى عنها مع تجديدهم نظامهم العربي تلقائيا ! فهل ساهم العرب دولا ومجتمعات في إيجاد أساليب حياة عربية جديدة ؟ وهل ساهمت جامعة الدول العربية في إيجاد أية حلول لأي مشاكل ومعضلات عربية ؟ ان الحلول بايدينا ان استطعنا ان نخلق نقيض النقيض ، فلا الصمت سيمنحنا الأمان ، ولا الصراخ سيجدي نفعا !
نشر في ايلاف ، 1 شباط / فبراير 2011 ، ويعاد نشره على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
شاهد أيضاً
مطلوب لائحة اخلاق عربية
تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …