(بعد خمسين سنة من الاستقلال، لم نتقدم خطوة واحدة في اتجاه تفكيك التراكمات التراثية،
ونشكل صورة صحيحة وعقلانية وواقعية عن تراث الأمة العربية ــ الإسلامية).
محمد أركون في كتابه الجديد رفقة جوزيف مايلا (من مانهاتن الي بغداد)
غادرنا قبل أيام المفكر الفرنسي جزائري الأصل الأستاذ محمد اركون الذي سجّل أهم الأفكار ، وعالج اخطر المسائل ، وكان أستاذا أكاديميا قديرا له كلمته المختلفة في الأوساط العلمية .. فضلا عن إيمانه المتميز بالتعايش السلمي للثقافات والأديان ، كما آمن بالعقلانية والتنوير من خلال العلمنة التي كانت له فلسفته عنها . لقد كانت لمحمد اركون حفرياته التاريخية في الفكر العربي الإسلامي ، وأثرى المكتبة العالمية بعدة مؤلفات ، أثار بعضها جملة واسعة من العواصف وردود الفعل الهائجة .. وكان أركون قد أثار مشكلات فكرية عديدة لم تتوقف حدودها عند المنهج حسب ، بل تنزل عميقا إلى حيث الجذور . ووقف اركون ضد نظرية صراع الحضارات لهانتينغتون التي بنيت عليها ظواهر خاطئة جملة وتفصيلا .
وامتلك اركون وعيا علميا بالصورة التي صنعها الغرب من خلال رؤيته للإسلام ، وان تلك الصورة بقيت سائدة لم تتغير منذ العصور الوسطى حتى يومنا هذا ، وهو في معرض التشابه بين الإسلام والغرب بعيدا عن زرع الخلافات كما هو سائد اليوم في العالم .. منبها إلى أن العاصمة الإسلامية بغداد كانت من أكثر المدن حداثة في وقت كانت أوروبا مطفئة الأنوار .. وبينما كانت المجتمعات الإسلامية قد تطورت وبدأت تعرف مفهوم الأنسنة (Humanism) كان هناك احتدام محاكم التفتيش التي لم تعرف الإنسانية أبدا . ويري أركون أن المجتمع الإسلامي لم تتوفر له الفرصة لممارسة تنويره الخاص والذي هو بحاجة ماسة له ولتنوير عقليته المدونة النصية الرسمية المغلقة.
إنني إذ اكتب عن الراحل محمد أركون ، فلقد كنت قد كتبت عنه وعن لقاءاتي معه منذ زمن طويل في كتابي ” نسوة ورجال : ذكريات شاهد الرؤية ” ، كما عالجت جملة من أفكاره عن العلمنة في كتابي الأول ” العثمانيون وتكوين العرب الحديث : من اجل مشروع رؤيوي ، بيروت 1989″ وكتابي الآخر ” العرب والأتراك : الانبعاث والتحديث من العثمنة إلى العلمنة ، بيروت 1997 ” .. فضلا عن مناقشتي لبعض أفكاره في أكثر من سمنار ومؤتمر وندوة ومقال . دعوني اليوم ، أقف وقفة تأبينية خاصة محددا بعض ما اعرفه عن الرجل من خصال ومزايا ومدى استفادتي للعديد من أعماله المهمة . محددا المهم ومقدما الأهم ، إذ أن للرجل جهوده البارزة واستثنائيته التي لا نجدها عند غيره . ولا ضير أن استنسخ بعض الفقرات التي كتبتها عنه منذ أكثر من عشر سنوات . إن من الأشياء التي كتبتها عنه أيضا لقاءاتي معه والتي نشرتها قبل سنوات :
لقاءاتي مع الاستاذ اركون
..التقيت بالأستاذ محمد اركون مرتين في الجزائر عندما كنت أقيم فيها أستاذا محاضرا في جامعة وهران إبان عقد الثمانينيات.. كانت المرة الأولي في واحد من مؤتمرات الفكر الإسلامي الذي انعقد بمدينة قسنطينة عام 1983 ، وكان المؤتمر باسم الأمير عبد القادر الجزائري ، وكانت المرة الثانية عندما القي واحدة من محاضراته في مركز بحوث اوراسك بجامعة وهران في العام 1986 والتي كنت اعمل فيها. وكان في المؤتمر الأول قد صبّ عليه المؤتمرون جام غضبهم واتهموه بشتى التهم ، ومنهم من اعتبرها مناسبة ممتازة لتصفية الحساب معه باعتباره مخربا للإسلام وتصنيفه من تلاميذ المستشرقين كما جاء على لسان الشيخ محمد الغزالي ـ رحمه الله ـ وكنت احضر تلك الجلسة برفقة اثنين من الزملاء السوريين الذين كانوا يقيمون في الجزائر وكانا من الوزراء السابقين ، وقد حدثت لأحدهما مشكلة مع الشيخ الغزالي انعكست ضده للأسف الشديد ، وانقطع من خلالها رزقه !! .. وعبثا ذهبت محاولات اركون الذي كان يجلس غالى جانبنا في إفهام أولئك الذين هاجموه انه باحث أكاديمي له منهج معين في دراساته الإسلامية ، والباحث الأكاديمي هو غير الآخرين ، ولكن لم يسمع احد إليه ، وهو بصوته الهادئ ، وهم بأصواتهم العريضة الخشنة !
أما عندما القي محاضرته في جامعة وهران، فقد حظي بمحاورات علمية جادة ، وخصوصا ، عندما تطرق إلى مفهوم الانسنة والعلمنة في الإسلام.. وكانت لي فرصة سانحة لمناقشته والحوار الجاد لبعض أفكاره وإحكامه ، وخصوصا ، تلك التي تتعلق بالمسألة التاريخية والمنهج التاريخي وما ردده من معلومات غير متأكد منها في التاريخ العثماني والعلمنة الكمالية، ثم دار جدل علمي بينه وبيني إذ واجهت أفكاره بحقائق ومعلومات تاريخية ، لم يكن قد اطلّع عليها ، او هكذا اشعر الساخرين، في حين انه لم يكن مطّلعا عليها بحكم تخصصه البعيد عن التاريخ الحديث ووثائقه وتعقيداته المعاصرة.. وهذه مشكلة يعاني منها العديد من الكتاب والمفكرين الأكاديميين العرب الذين لهم أفكارهم وتنظيراتهم ومعالجاتهم لظواهر تاريخية لم يسيطروا على معلوماتها التاريخية والوثائقية . لقد احترمت فيه تواضعه الجم ، وتقبله للرأي الآخر ، فازداد إعجابي به .. ومضينا معا ولوحدنا نتحاور عن أتاتورك والأفغاني والخميني والحرب العراقية الإيرانية التي كانت تدور رحاها بين بلدين عريقين ، ومأساة التاريخ السياسي في الإسلام .. وجدته يسمع طويلا ويفكر في الذي يسمعه ، وان تحدّث ، فانه يسهب في موضوع قد يختزله ، ولكن يشبعه أسئلة ويضع نفسه ومن يقابله في دائرة بحث عن أجوبة .. في اليوم الثاني نزلنا الى مقهى السنترال واحتسينا القهوة الاكسبريسو بعد ان ضيفّني إياها مع قطعة من الكرواسو ، وافترقنا ليأخذ طائرته الى باريس .
مواصفات اركون وخصاله
ولد محمد اركون في الجزائر العام 1928 ونشأ وترعرع فيها أيام العهد الفرنسي ودرس في جامعة الجزائر، ومن ثم رحل إلى فرنسا وأكمل فيها دراساته واستقر بها ودّرس في السوربون وبقي يعمل فيه .. وقد نشر عشرات الأعمال والبحوث والكتب بالفرنسية في الفكر العربي الإسلامي . اثار محمد اركون جملة هائلة من العواصف ضده من قبل العرب والفرنسيين ليس بسبب نقداته القوية اللاذعة، بل لأسباب عديدة أخرى، فهو صاحب مشروع سماه (الإسلاميات التطبيقية)، وأسلوبه معقد جدا في الكتابة، حتى يكاد لا يفهم كله مطلقا سواء في الفرنسية أم العربية وقد تجّرد احد طلبته المخلصين وزميله في ما بعد ، ومنذ العام 1978 بترجمة العديد من أعماله وكتبه إلى العربية، وهو الدكتور هاشم صالح سوري الأصل والمقيم بباريس، ناهيكم عن انتقادات اركون اللاذعة التي كرسها ضد أولئك الذين اختلف عن تفكيرهم ومناهجهم من المستشرقين الفرنسيين. لقد اشتهر اركون وعرف في فرنسا قبل أن تعرفه الثقافة العربية بسبب فرانكفونيته وعدم تسويق نفسه عربيا إلى أن ترجم له أول كتاب إلى العربية بعنوان: ” تاريخية الفكر العربي الإسلامي” . كان في بداية الأمر يعرفه الجزائريون بحكم جزائريته ، ولكن لم يكن لا في كتاباته ولا في محاضراته يتداول بالعربية أبدا.
من خصال الرجل التي وجدتها فيه تواضعه الكبير في تصرفاته وملبسه وعاداته .. صحيح انه اكتسب الكثير من عادات الفرنسيين الذين تعلم على أيديهم ، ولكنه يعتز بجزائريته كثيرا ، ويحلو له ان يتحدث عن الجزائر ، ويحلم أن يراها بلدا متحضرا ، وهو يمارس بعض عاداته الجزائرية وينطلق إن أراد بلهجته الجزائرية التي ترّبى عليها .. لم أجده ضد الإسلام والمسلمين ، بل معالجا لأوضاعهم وناقدا لمظاهرهم وله باع كبير في معرفة فكرهم وتفكيرهم بسبب حفرياته الدقيقة التي ساهم لوحده في أعماقها .. وبقدر ما ينتقد بعض الانشائيات العربية التافهة اليوم ، فقد وجدته ينتقد وبمرارة شديدة تحليلات بعض المستشرقين العادية ويقسو على مناهج بعضهم ، كما وينتقدهم عندما يمنحون الشهادات العليا للعرب والمسلمين كالحلوى التي توزع على الأطفال .. إذ يطالبهم أن يعاملوا الطلبة العرب والمسلمين نفس المعاملة العلمية الصعبة التي يمارسونها مع الطلبة الغربيين. إن لغة اركون صعبة جدا ومختزلة كثيرا ، فهو يعبّر عن أفكار عدة في اقل عدد من الكلمات .. ودوما ما أقول ساعد الله الأخ الدكتور هاشم صالح في مسؤوليته الصعبة عندما ترجم بعض أعمال محمد اركون الى العربية .. ويؤكد لنا كم امتلك مترجمه من الأدوات والوسائل ليس اللغوية حسب ، بل المفاهيمية عندما تجرد لأعمال اركون .
بدايات تفكير اركون
يعد محمد أركون صاحب واحد من المشروعات الفكرية ، واستهدف فيه فتح أفق من نوع جديد في الفكر الإسلامي في ما اسماه بـتطبيق للمنجز، واعتبره منهجا عقلانيا حديثا في دراسة الإسلام. ولقد بقي يسعي جاهدا إلي ترسيخ ذلك كونه يري بأنه السبيل الوحيد لتحقيق الفهم العلمي للواقع التاريخي المتنوع للمجتمعات الإسلامية. وينتمي محمد أركون إلي جيل فرنسي عالي المستوي في ثقافته وابداعاته ومناهجه وفلسفاته، فلقد استفاد حتما من تجارب ومنجزات ميشيل فوكو وبيير بورديو وفرانسوا فوريه وغيرهم من الذين أحدثوا ثورة ابستمولوجية ومنهاجية في الفكر الحديث، فأراد ان ينحي مثلهم في دراساته وكتاباته ولكن عن الفكر الإسلامي، وقد جعله منهجه ينفصل عن مناهج الاستشراق الكلاسيكي الذي بقي مسجونا في الدوامات الفيلولوجية، فهاجمها بشراسة متناهية وكل عناصرها ومن يدور في فلكها من المستشرقين الفرنسيين. وقام أيضا بدراسات ألسنية وتاريخية وأنثروبولوجية متنوعة ، وحاول تطبيق ما طبقه بعض العلماء الفرنسيين علي تراثهم اللاتيني المسيحي الأوروبي، محاولا ذلك على تراث الإسلام وتاريخية تنوعاته.. ولكن بدايات اركون لم تكن منفصلة عن مناهج المستشرقين الفيلولوجية (= فقه اللغة) المحترفة متأثرا في البداية بريجيس بلاشير الذي علمه منهجية تحقيق وتدقيق النصوص ومقارنتها ببعضها البعض ودراستها تجريبيا على الطريقة التاريخية الوضعية، ولكن كان يرنو منذ تلك البدايات ومن باب فضوله الثقافي بقراءات لما كان ينشره لوسيان فيفر، لاسيما منهجيته في علم التاريخ. وعليه، فقد اهتم أركون بالوقائعيات وتأثيرها علي مسار الفكر فضلا عن تضمينه السايكلوجيات والسوسيولوجيات في صناعة كل من السياسة والفكر معا. وفي ستينيات القرن الماضي اهتم بالألسنيات التي شاع الاهتمام بها كثيرا .
ويصف نفسه بشجاعة التطرق إلى اللا مفكر فيه في دراساته ومواقفه من الاستشراق منذ شبابه عندما كان طالبا في الجامعة الجزائرية يدرس اللغة العربية وآدابها في وضع قاس مطبوع بسيادة الثقافة الغربية الآتية إلي الجزائر لتحضيرها وإدخالها الحضارة حسب ادعاء المستعمر الغازي. وآنذاك سيطرت علي ذهنه الرغبة في الفهم والمزيد من معرفة الواقع وتمحيص الوضع، ولكنه آثر عدم الانخراط في النضال السياسي، إذ يعتبر نفسه أنه اختار الطريق الفكري للتحرير والتمرد الفكري عوض السياسي ، لأنه رغب في التحرير الفكري والعقلي للجزائر ولعموم العرب والمسلمين. ومنذ الستينات أيضا عندما أصبح مدرسا بجامعة السوريون اتبع منهجا يختلف جذريا لمنهج المستشرقين وشرع في محاولاته التحليلية المعتمدة على المقارنة الواسعة سعيا للخروج من الإطارات الضيقة وهذا ما فعله مع الفكر الإسلامي، وهذا ما جعل البعض من النقاد والمفكرين يخالفونه في بعض أدواته المنهجية ( وكنت أحدهم ) ، وبالتالي اختلفت مع الاستنتاجات التي خلص لها ومن ثمّ أتى ليبني عليها سواء أصاب أم اخطأ.
مشروع أركون
لقد هدف إلى بناء (إسلاميات تطبيقية) وذلك بمحاولة تطبيق المنهجيات العلمية ، وقد أخضع النص لمحك النقد التاريخي المقارن والتحليل الألسني التفكيكي وللتأمل الفلسفي المتعلق بإنتاج المعنى وتوسعاته وتحولاته. وفي هذا الصدد ، ركز على ضرورة فهم المأساة التاريخية التي تتخبط فيها الشعوب الإسلامية منذ أن اصطدمت بشكل مفاجئ وعنيف بالحضارة المادية والحداثة العقلية ، فلا الثورة الاشتراكية ، ولا الثورة الإسلامية أتيح لهما أن تحضيا بمرحلة تحضير واستعداد كاف كما حصل للثورة الفرنسية في نهايات القرن الثامن عشر . إذ لم يمهد لهما عن طريق حركة ضخمة من النقد الفلسفي والفكري والعلمي للتراث، ثم لنقد الممارسة السياسية لأنظمة الثقافة الموروثة. وبذلك تراكم اللامفكر فيه في الفكر الإسلامي والعربي. في حين أن الغرب كان قد انخرط منذ زمن طويل في عملية البحث عن أشكال جديدة للحداثة وقد فعل العالم الإسلامي العكس، إذ أدار ظهره للحداثة ” كونها بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ” ، ، وانه استفاق من نومه التاريخي على الأمجاد الغابرة وراح يعاين تخلفه عن الركب بعد اكتشافه أو إعادة اكتشافه لحجم الهوة التي تفصله عن الغرب علي صعيد التقدم المادي والصناعي والتكنولوجي ، وعلى صعيد الفكر والعلم وقيم المجتمع والحريات وحقوق الإنسان. واستعار النموذج القومي من أوروبا ، وتم إقامة دول مستقلة أصبح عليها تحمل مسؤولية مواجهة المشاكل الموروثة والتصدي للتحديات التاريخية سياسيا واقتصاديا وثقافيا.
لقد دعا أركون إلى التفكير في اللامفكر فيه لدراسة ما تم ويتم إغفاله أو تغييبه لأسباب سياسية بالأساس، ويلح هنا علي استخدام الأنثروبولوجيا كعلم يعطي المفاتيح اللازمة والمناسبة لاكتشاف الثقافات الأخرى والمذاهب المختلفة. إلا أن هذا العلم لا يطبق عند المسلمين. وما دام الأمر كذلك سيبقى التفكير يصاحبه دوما ما لا يمكن التفكير فيه ويتم تجاهله وعزله والانقطاع عن الاهتمام به. وهنا أقول بأنني ربما خالفت الرجل في كثير من القضايا التي عالجها ليس من الناحية الفكرية، وإنما من الناحية المنهجية.
وأخيرا : رؤيته لأحداث 11 أيلول (سبتمبر) وصدام الحضارات ، ويرى اركون في كتابه الجديد الذي أصدره رفقة جوزيف مايلا: بأن أحداث (11) سبتمبر تكشف بطريقة دراماتيكية صارخة، عن ذلك الصراع الطويل الذي اندلع في حوض البحر المتوسط منذ ظهور الإسلام والعالم المسيحي الأوروبي الذي عدّ توسّع الإسلام تمّ على حسابه في ضفاف المتوسط، وقد ابتدأت الخصومة وتعمقت أكثر بسبب ظواهر تاريخية ، منها : الحروب الصليبية فالامتدادات العثمانية فالتوسعات الاستعمارية، وانتهاء بالصراع العربي ــ الإسرائيلي . فالقصة طويلة لم تولد من عدم فثمة عداء مستحكم بين الطرفين منذ قرون عديدة! وهنا يناقض محمد اركون أحكام المؤرخ فرديناند بروديل الذي قال بعالم المتوسط الذي جمع العالم القديم بقاراته الثلاث : آسيا وأوروبا وأفريقيا .. كما ويعترض أركون على مفهوم (صدام الحضارات) لهانتينغتون الذي غدا ظاهرة تاريخية بعد 11 أيلول (سبتمبر) من دون ان نقدم نحن العرب والمسلمين ويا للأسف الشديد حتى يومنا هذا بدائل حقيقية لـ(حوار الحضارات) الذي نسعى لتكريسه مع العالم. ( هذا ما اقتبسته من كتابي نسوة ورجال : ذكريات شاهد الرؤية).
محمد اركون في السنوات العشر الاخيرة
عالج محمد اركون أيضا مسائل أخرى مهمة وخطيرة منها العادات والتقاليد في التاريخ المقارن بين الإسلام والمسيحية وحرص على ملامسة الجذور للذاكرة الجمعية أو الجماعية باستخدامه الخطوات الاثنوغرافية والبحث الانثربولوجي لمجتمعات عدة بعد أن تفاعلت تواريخها على أيام الصراعات أو عهود السلم وكيفية التخزين في المخيال الاجتماعي وخصوصا أيام الصراعات السياسية من اجل هوية معينة لتلك الذاكرة التي قد لا ترجع أصلا إلى قواعدها الثقافية والتقليدية .. واعتنى اركون أيضا بالسلطة المركزية واللغة وثقافة العلمنة ، وله في ذلك نصيب كبير من التحليلات المهمة ، والأفكار التي لم يتطرق إليها احد من قبله .. فضلا عن تناوله اللهجات وهي مسألة شائكة جدا ، وخصوصا ما يتعلق الأمر أيضا بالطائفية ، وهو الوباء التاريخي ـ كما أطلقت عليه ـ وهو الذي يراه على أقصى درجات التباين بين بيئة اجتماعية وأخرى ، بالرغم من وجوده بسبب ارث البقايا التاريخية في مجتمعاتنا التي ورثت الانقسامات .. عالج الأمية أيضا ، وخصوصا عند المرأة في مجتمعاتنا واثر ذلك على تخّلفها ، والمشكلة متوارثة وموجودة منذ أزمان ، وهي لم تزل موجودة حتى اليوم .. وهناك اهتزاز شديد في العلاقات الجنسية في مجتمعاتنا التي لم يرعاها الفكر ولا الثقافة بشكل واضح وصريح .. وهذا كله قد أثر على الحياة السياسية ، وبالتالي على أوضاع مجتمعاتنا قاطبة التي تعودت على السلطة المركزية . وبالرغم من تأسيسه لمقارنات بين مجتمعاتنا ومجتمعات أوربية ، والتي اختلف فيها معه ، نظرا لاختلاف كل البنيويات التاريخية بين العالمين ، إلا انه وجد حالات عاشتها المجتمعات الأوربية تشابه ما تعيشه اليوم مجتمعاتنا .. عالج التربية والتعليم والعدالة والديمقراطية في بيئات متباينة اجتماعيا وثقافيا ، ودعا الى ما سماه بـ ” ثقافة العلمنة ” التي ـ كما قال ـ لا تعني الإعراض عن الأديان أو رفض العقائد الدينية كما يظن الكثيرون، على العكس من ذلك، الموقف العلماني مبني على احترام جميع الذاكرات الجماعية مع عقائدها الدينية، والدولة تحمي جميع الذاكرات المتساكنة، ولكن في نفس الوقت تلح على ضرورة تدريس التاريخ مع تدريس الأبعاد الانثروبولوجية للثقافات المتواجدة في مجتمع من المجتمعات، وذلك حتى تتمكن العناصر المتساكنة من إدراك هذه القاعدة الثقافية المشتركة لجميع الجماعات في المجتمع. لقد سجّل اركون عدة حلول من خلال برامج تدريس للأديان والمجتمعات بحيث يجعل الذاكرة الجماعية تحافظ على قيمها الدينية وتقاليدها ، مع حلول انثربولوجية وسوسيولوجية والسنية وتاريخية وسايكلوجية تعالج كل العراقيل الذهنية التي لم تزل تتفاقم من خلال تسلط الشعارات الإيديولوجية التي تغذي المخيالات الاجتماعية المتصارعة وتضعف مجتمعاتنا وتهمشها ، بل وتصل الى الدرجة التي باستطاعتها محو الذاكرات الجماعية الحية ، وهذا ما حدث في مجتمعاتنا العربية المعاصرة . إن محمد اركون يقدّم في كتبه الأخيرة معالجات موسّعة للإسلام على طريقة انثربولوجية . ويتساءل : كيف لنا آن نفهم الإسلام اليوم ؟ بمعنى أن فهمه اليوم يختلف عن فهمه في الماضي . كما ويعالج الحرب العادلة والفوضى الدلالية بإعادة التفكير في الظاهرة الدينية بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 وما حفل به العالم من تصادم بتفاقم ظاهرة الإرهاب ، لم يقتصر أمرها على الدول بقدر ما طالت المجتمعات أيضا ، وانتقد ردود فعل بعض المثقفين والمفكرين في العالم جراء تلك الأحداث ، كما وانتقد الحروب التي اندلعت جراء تلك الأحداث ووقف ضد مشروعيتها ، بل عبر عن إنها كلها إرادة هيمنة بدائية ووحشية وبعيدة كل البعد عن منطق العلماء والمفكرين الحقيقيين . هنا ، يتطرق الى النظام العالمي فيفكك أسسه ، وينتقد أهدافه التي تجعل الخطاب السياسي يتغلب على القانون .. وان الإنسان سينحرف عن دوره الحضاري ، ولكنه في الوقت ذاته ، يطالب بإصلاحات لوثرية للإسلام ، إذ لا يمكن أن يبقى حال المجتمعات الإسلامية بمثل هذا الوضع أبدا . وان الحداثة ضرورة تاريخية لابد أن تتبناها كل مجتمعات العالم الإسلامي عاجلا أم آجلا . إن مشروع محمد اركون سيرحل برحيل الرجل ! هذا ما أخشى حدوثه ، وربما تواصل وإياه جيل قادم لترسيخ هذه ” المدرسة ” التي أسسها اركون في القرن العشرين .. ومضى في سبيله ، وسيذكره التاريخ ذكرا طيبا لما قام به في حياته .
نشرت في ايلاف ، 25 سبتمبر / ايلول 2010 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com