منذ أكثر من مائة وخمسين سنة والصحافة تتطور ، مهنة وأصولا وأخلاقيات ، وكلّ من يمتهنها يدرك أن مسؤولياته مضاعفة بحكم نشر الكلمة ، وحق الرأي ، وبثّ الخبر ، فاعتبرت سلطة رابعة ، بسبب تأثيرها في العلاقة العضوية بين مؤسسات الدولة وشرائح المجتمع . ورغم تطور أجهزة الإعلام المسموع والمرئي ، إلا أن الصحافة تبقى الأساس الذي يعتمد عليه كمدونة أخلاقية لا مناص من دورها في ظل كل أنواع الأنظمة السياسية . وأصدرت الدول تعليمات نشر ، وقوانين صحافة ، ومحددات رقابة .. ناهيكم عن هيئات تحرير تضطلع بأسرار المهنة ، وصاحبها تطور معرفي وأكاديمي بتأسيس كليات وأقسام علمية خاصة بالإعلام والصحافة والنشر .. وباتت كل الصحف وأجهزة الإعلام والنشر في العالم ، تجدد نفسها من خلال محررّين مختصين وحرفيين ومستشارين ، اكتسبوا على مدى سنوات طوال أسرار هذه المهنة الخطيرة التي تقع على عاتقها مسؤولية توجيه الأمة ، وقيادة دفة البلاد ، ومتابعة شؤون العباد ، ومراقبة الأخبار المتنوعة .. ناهيكم عن الحفاظ على شرف الكلمة ، وحرية الرأي ، وكرامة الناس ..
وإذا كانت الصحافة في كلّ دول منطقتنا قد تنوعت كما هو حال أجهزة الإعلام الأخرى ، من رسمية إلى شبه رسمية إلى أهلية أو مختلطة ، وكانت هناك صحافة سلطة ، وصحافة معارضة ، وصحافة نسوية ، وصحافة ثقافة وأدب ، وصحافة صورة ، وصحافة هزل .. الخ ، وكلها منحصرة في مكان محدد وفضاء محدد وضوابط محددة .. ولكن ما جرى منذ عشر سنوات بظهور الصحافة الالكترونية ، قد جعل الأمر سلاحا ذا حدين اثنين باتساع مديات الإعلام أولا ، وتبلور فوضى لا أخلاقية ثانيا .. ورغم قلة أولئك الذين يتابعون الصحافة المرئية أو الالكترونية مقارنة بحجم من بقي يتابع الصحافة العادية ، إلا أن أخلاقيات المهنة تبدو قد تبددت ، وأصول الصحافة الحقيقية قد ضاعت في عالمنا العربي بشكل خاص ، إذ أن هناك قوانين متجددة قد شملت مثل هذه التطورات في بلدان عدة في العالم ، ومنها إسرائيل ! انه من الصعوبة جدا أن تكون الصحافة المرئية أو الالكترونية مضللة في بلدان غربي ووسط أوربا وأميركا الشمالية واليابان ، إذ أن هناك قوانين تمنع التضليل أو الخروقات ، والمحاكم تستقبل عشرات القضايا الإعلامية التي تختصر مشكلاتها بالخروج عن أخلاقيات المهنة وأصول العمل ..
دعوني أتوقف قليلا عند ما اقره مؤخرا المجلس الدولي للصحافة والإعلام من قواعد للنشر .. ونجد أن صحافتنا المرئية والالكترونية بعيدة جدا عن تلك القواعد ، إذ اشتملت الصحافة على كل وسائل الإعلام الالكترونية والصحف والمواقع الصادرة في شبكة الانترنيت الدولية وعلى كل مسؤول وناشر ومحرر لتلك الوسائل ، وعلى ان الحريات الصحافية مقيدّة بحقوق الناس في المعرفة ، وبأساليب نزيهة ودقيقة لكل من الرأي والخبر ، وان تكون ملتزمة بكل العهود ، ومستقيمة ضد التضليل أو الإباحة أو الشتيمة .. وان تقوم بنشر الرأي والرأي الآخر ، ومن حق الآخر أن ينقد الرأي أو الخبر المنشور ، ولكن ليس من حق الصحيفة أو الموقع نشر أي نقد لمقال رأي أو أي خبر قد نشرا في مكان آخر ، ولم تقم بنشرهما أصلا .. هنا أريد التوقف قليلا ، إذ نجد في صحافتنا العربية والالكترونية قيام بعض المواقع بنشر ردود على مقالات لم تنشر أصلا فيها ، وهذا عمل لا أخلاقي ، إذ لا يمكن أن ينشر أي رد إلا في الصحيفة أو الموقع الذي نشر الأصل . وهنا أود التوّجه بهذا إلى كل الناشرين العرب ومحرري المواقع الالكترونية ، عسى يتوقفوا عن ما يحدثوه من فوضى.
ولا يجوز للصحافة الامتناع عن نشر معلومات تخص المصلحة العامة ، كما وتحرّم الضغوطات وتمنع السرقات للرأي والمعلومات . إن من مصلحة أي صحيفة أو جهاز إعلامي ، معرفة مصدر أي قول تنشره ، فهي المسؤولة قضائيا أم المحاكم عن ذلك .. وتعتبر الاقتباسات الحرفية الدقيقة مع ذكر صاحبها ، بمثابة وثيقة مكتوبة ! وتنشر الرسائل بالأسماء الصريحة لا المخفية خوفا من المسائلة وتقصي الحقائق . والحذر من نشر أي خبر غير موثوق .. والابتعاد عن التضليل والتراجع عن الأخطاء تحريريا والاعتذار والرد بالبنط العريض .. ولا يجوز النشر دون موافقة صاحب المادة ، ويحّرم التعرض للخصوصيات والسمعة أو التشهير ، ولا يجوز للصحفي أو المحرر تقاضي أي رشوة أو هدايا أو أي صفقة مالية على حساب مهنته .. هنا أتساءل : كم تطبّق مثل هذه القواعد في صحافتنا غير الرسمية ؟ الاستقلالية مطلوبة وعدم تلقي أية توجيهات خارجية وعدم استخدام أية وسائل فاسدة والتكتم على الأسرار .
ثمة تفاصيل واسعة عن نشر الصور الشخصية عن موتى ومصابين ومتهمين ، تحت باب الهوية أو ما يتعلق بالجنس والانتحار والتبرع بالأعضاء وإجراءات القضاء والجنايات ونقل الشعارات المخلة بالشرف والكرامة الإنسانية وتبادل التهم وإلصاقها ، أو ما يدور في الجلسات المغلقة وصالات المحاكم أو نشر ما يتعلق بالتمييز العنصري يقول البند 14 من نظام المجلس الدولي للناشرين والمعتمد دوليا : ” لا يجوز للصحيفة أو للصحافي أن ينشرا أي شيء يحتوي على التحريض أو التشجيع على العنصرية أو التمييز العنصري ، أو التمييز الذي يتم على أساس أصل العائلة أو اللون أو الطائفة الجنسية ، أو الدين أو المذهب أو الجنس أو العمل أو المرض أو العجز أو المرض النفساني ، أو الإيمان أو وجهة النظر السياسية أو الانتماء إلى طبقة اجتماعية -اقتصادية معينة ” . قارنوا بين هذا وبين ما ينشر في صحافتنا العربية والالكترونية بشكل خاص ، ويا للأسف الشديد . فهل من تشريعات جديدة تحدّ من الإسفاف والفوضى ؟
نشرت في البيان الاماراتية ، 27 سبتمبر / ايلول 2010 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
Check Also
زعامات ورزايا .. ورئاسات بلا مزايا
الزعامة غير الرئاسة، والرئاسة غير الإدارة، والإدارة غير القضاء. لقد مضى زمن الزعامات الحقيقية، وماتت …