لقد زرعت بذور الخراب في بنية العملية السياسية الحالية في العراق ، منذ الأيام الأولى لولادتها العسيرة على أيدي الاميركان .. كونها تخّلت عن الثوابت الوطنية التي يجتمع كل العراقيون حولها ، مهما كانت طبيعة النظام السياسي الحاكم ، فضلا عن مرورها بجملة كبيرة من الأزمات التي تابعناها ونشرنا عنها واحدة بعد أخرى منذ العام 2003 . ولما كانت تلك ” العملية ” سياسية دون أي ثوابت وطنية يقوم بترسيخها انعقاد مؤتمر وطني ، فان العراق يعيش اليوم وبعد انتهاء أول دورة انتخابية ، مأزقا سياسيا صعبا ، وليس مجرد أزمة سياسية عابرة .
هذا ” المأزق ” عطّل الحياة البرلمانية ، وأوقف تطور الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية .. وجعل الناس تسيء الظن بالديمقراطية التي غدت كسيحة ، على أيدي زعماء أحزاب وميليشيات وقوى سياسية وطائفية كبيرة وصغيرة .. ينصّب طموحهم جميعا على السلطة ، سواء للتشبث بها أو للوصول إليها .. وقد انكشفوا جميعا أمام العالم ، وخصوصا أمام العراقيين الذين ذهبوا إلى صناديق الاقتراع لانتخابهم ، إذ عاد الناس ليقولوا اليوم : ما جدوى الانتخابات ؟ وما نفع أصواتنا التي منحناها لهذا أو ذاك ؟ أين أصبحت الشعارات التي كنّا نسمعها ونقرأها والتي تبشر بواقع جديد خال من الطائفية؟
لقد بقي هذا الوباء مسيطرا على العملية السياسية برمّتها ، بل وانتقل ليشمل كل القطاعات ، بعد أن انقسم المجتمع وتشظّى بتطبيل وتهريج من سمّوا أنفسهم نخبة المجتمع السياسي ، وهم يعبرون عن أحقاد وضغائن لا يمكن تخيلها إزاء من يختلف عنهم في الملة والطائفة .. وهو تعبير ينسجم مع طبيعة السياسات التي تتبعها القوى السياسية العراقية .. علما بأن الدستور لم ينصّ على أن توزّع المناصب طائفيا أو عرقيا ، رغم من كل ما حمله من أخطاء باعتراف هيئة كتابته التي أقرّت إجراء إصلاحات فيه .. ولكن الإصلاحات لم يباشر بها بعد مرور خمس سنوات على إقراره ، وسوف لن ترى النور ، إذ أنها ستختفي مع اختفاء كل الفضاء السياسي العراقي الحالي .. خصوصا ونحن نعلم أن القوى السياسية الحاكمة قد خرقت الدستور أكثر من مرة ، ولو كانت هناك تقاليد ديمقراطية محترمة ، لاعترف المسؤولون أنهم يحكمون بلا أي وجه حق لخرقهم الدستور عدة مرات .. ولم أجد أي اعتراض سياسي أو إعلامي حتى الآن بهذا الصدد !
لم تبق في طول البلاد وعرضها أي اعتبارات وطنية ، والإخفاقات تتوالى ، والكلّ مشغولون بالاستحواذ على السلطة ، دون عناية تذكر بمعالجة المشاكل والاضطرابات الأمنية ، وحالات الاقتصاد الصعبة ، ومسائل الفساد المستشرية في كل المؤسسات .. وأيضا انسحاق الخدمات تحت الصفر . ورغم كل هذه الكوارث ، فالمسؤولون يتصارعون على السلطة ، وهم يقودون البلاد بأيديهم إلى التهلكة ، وكأنهم يقولون للعالم كله : ها نحن قد فشلنا في كل الأمور ، وكنا وراء فشل ما أسميناه بالعملية السياسية ! ها نحن نسير بالبلاد إلى حافة حرب أهلية ، أو حكومة طوارئ عسكرية ، أو تطبيق أحكام مجالس عرفية ! ها نحن نزيد من ثقل المأساة على المجتمع الذي دفع أثمانا عظيمة من دمائه وحرياته وموارده وإرادته ، على امتداد نصف قرن مضى ! ها نحن قد نكلنا بالديمقراطية تنكيلا مفجعا كوننا لم نعترف اعترافا دستوريا بالسلطة لمن حقق النسبة الأعلى في الانتخابات ! ها نحن نتمسك عن غباء وجهالة بالشراكة في الحكم ، والحكم لا يمكنه أن يكون بأيدي كل القوى ، فثمة حكومة تنفيذية وثمة معارضة لها في البرلمان !!
إن ما يسمى ” العملية السياسية ” في العراق ، قد اخفق تماما ، جراء السياسات البليدة التي يتبعها هؤلاء الذين يتزعمون القوى السياسية ، سواء كانوا من المسؤولين الكبار أو من المهرجين الصغار ، وهذا ما توقعنا حدوثه منذ العام 2005 ، فلا يمكن أبدا التعويل على شراكة المكونات الأساسية بين سنة وشيعة وكرد ضمن أيديولوجية لم توحدّهم أصلا ، وهي مخيبة للآمال وغبية ، كونها تأتي في مثل هذا العصر ، فالعراق لا يمكنه أن يعيش دون إرادة وطنية موحدّة تنبثق عنها قوى وأحزاب عراقية وطنية مدنية متحضرة بعيدة جدا عن الكهنوت الطائفي أو التجزئة القومية ..
إن العراق اليوم مقبل على زمن ترتهن المتغيرات فيه ضمن دائرة شرق أوسطية اكبر ، أو أن تتسارع الأحداث في الداخل من اجل إيجاد صيغة جديدة تقضي قضاء مبرما على هذه العملية السياسية ، كي تبدأ ” خطة إستراتيجية ” مؤقتة أو عاجلة من نوع آخر ، وستكون بعلم الولايات المتحدة الأميركية حتما وبتخطيط منها للتخلص من ورطتها .. فربما ستنفرج الأمور .. أو مع بقاء الخروقات الدستورية ، فمن المحتمل تأليف ” وزارة ” سوف لن تقوى على الحياة في ظل الاوضاع السيئة التي خلقتها السنوات السبع المنصرمة .. سيقول العراقيون يوما : آه .. كم ضاعت منّا جملة من الفرص التاريخية التي لم نستغلّها كما يجب .. سيأتي اليوم الذي يتأسف فيه العراقيون على ما جنوه في حق أنفسهم ، وحق وطنهم ، وحق كل الأجيال القادمة ..أو سيأتي الخصوم من اجل تصفية الحسابات ، مع بقاء شلالات الدم تفور في كل البلاد لا سمح الله . ودوما ما أقول : إنها نتيجة منطقية لمجتمع لم يعرف الانسجام أبدا ، وكان ولم يزل يحمل احتقاناته معه ، سواء كانت بأقنعة لما قبل 2003 أم دون أقنعة بعد 2003 !
نشرت في البيان الإماراتية ، 15 سبتمبر / أيلول 2010 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
Check Also
نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين
ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …