الطائفية : شتيمة في القاموس العراقي
غدت تهمة ” الطائفية ” مشاعة ليس عند ساسة عراقيين ضد خصومهم من هذه الفئة أو تلك ، بل عند مثقفين وكّتاب يصفون أنفسهم بـ علمانيين وتقدميين أو ماركسيين أو ليبراليين .. إذ أجدهم يستخدمونها بكل بساطة ضد أي عراقي قد لا يخالفهم فقط ، بل ربما يختلف عن نظام الحكم اليوم ، أو تكون له عدة ملاحظات على أداء المسؤولين العراقيين الجدد ، وهذه ليست سّبة ، فهؤلاء ، ببساطة ، ليسوا برجال دولة ، وليست لهم أية خبرات لا في الإدارة ، ولا في معرفة شؤون العراق ، إذ لم يتسلسلوا وظيفيا في دواوين الدولة .. وربما يزيد البعض من غلوائه بحيث يصف كل من يطالب بمشروع وطني حر ومستقل كونه طائفي . إن تهمة الطائفية التي كانت تلصق بكل من يتزّمت إزاء مذهبه أو طائفته .. غدت شتيمة في القاموس الاجتماعي العراقي تطلق على كل من لم يؤمن بهذه الثنائية البليدة التي خلقها حكم جائر ! بل وتطلق ضد كل من يعرض نقدا ضد حكومة أو حزب أو برلمان أو مسؤول !
والطائفية إن كانت انحياز معلن من قبل صاحبها إزاء مذهبه أو طائفيته ضد الآخرين ، فلقد أصبحت تطلق ذات اليمين وذات الشمال على كل من ألغى من ذاكرته أو ذهنه هذا التصنيف البغيض الذي بات يستخدمه البعض من المثقفين والكتّاب من أجل السعي والمشاركة ضد أي بادرة إصلاحية ، أو أي نقد فكري ، أو أية محاولة لرأب الانقسام والتئام الجروح .. أو ضد أي مشروع للتلاؤم والانسجام بين أبناء المجتمع الواحد .. واعتقد بأنها ظاهرة خطيرة ، ولكنها مؤقتة ورهينة بظروف المرحلة الصعبة التي يمر بها العراقيون .. وفي مجتمع يعيش مشكلات صعبة جدا ، إذ اعتقد أنها ستختفي حالما يترسخ الوعي بالعلمنة والشراكة الحقيقية والشعور بالمصير المشترك الذي ينتظر هذا المجتمع . وكلنا يذكر كم راجت مصطلحات معينة سابقا ، ثم اختفت من أدبيات العراقيين وأذهانهم .. إن مصطلحا مثل ” الشعوبية ” الذي لم نعد نسمعه اليوم ، كان قد استخدم أداة سياسية وإعلامية من قبل القوميين والبعثيين ضد كل عراقي يعترض على مفاهيمهم . ومهما حاول القوميون قبل خمسين سنة أن يوزعوا اتهاماتهم على من يخالفهم ، فإنهم باءوا بالفشل .. كذلك مصطلح ” الطائفية ” الذي اعتقد انه سوف لن يجد أرضا خصبة في المجتمع العراقي .. انه سيزول هو الآخر ، ولكن بعد أن يفتك في النفوس طويلا ، ومن كلا الفئتين إزاء واحدتها الأخرى ، وستبقى حالة عدم الثقة متبادلة بين الطرفين بحكم تناقضات التربية والتكوين لكل العراقيين منذ خمسين سنة مضت.
الطائفية : من محنة عادية الى فتنة جماعية
إن الطائفية في العراق مغروسة في النفوس منذ أزمان طوال ، وكانت تظهر وتختفي بحكم استخدامها سياسيا ثم سلطويا في اغلب الأحيان ، ولكنها لم تكن رائجة عند المثقفين والمبدعين والكتّاب والمفكرين .. إذ كانت من القبح بمكان أن تستخدم لا بأسلوب علني ولا حتى بشكل غير مباشر .. إن بروزها بمثل هذا الشكل هو رد فعل جماعي عنيف جراء ما حدث من ظلم كبير على مئات الألوف من البشر .. عندما سقط الآلاف من الشباب في الحرب ضد إيران ، كانت تلك الآلاف تدافع عن تراب وطني .. ولكن عندما يهّجر آلاف الناس بتهمة التبعية ، فان ذلك قد ولّد حقدا جماعيا لا يمكن نسيانه أبدا .. وعندما تعرضت شرائح مجتمع كامل للقمع والتشريد ، فان ذلك قد ولّد كراهية مقيتة لا يمكن تخيلها .. وعندما تمسح بلدة كاملة من فوق وجه الأرض مع بيوتها وبشرها وتغيب حتى أشجارها عن الوجود ويغير اسمها ، فان ذلك ولّد نقمة جماعية لا يمكن نسيانها ، وعندما تستخدم الغازات السامة ضد عراقيين ناهيكم عما حدث من هياج جماعي جراء اجتياح قطعات عسكرية ليتدفق آلاف الناس صغارا وكبارا إلى خارج الحدود ، كما شهدنا مآسيهم على شاشات التلفزيون ، فان ذلك قد سبب كراهية عمياء .. وعندما يسحق أناس أبرياء ويسفّرون وهم يخدمون في أدنى مستويات الحياة كونهم فويلية أجانب ويعبث بمصيرهم ، فان ذلك يبعث على الاشمئزاز .. ولا يمكن نسيان تلك القصص المأساوية التي حفلت بها حياتنا العراقية المعاصرة والتي شهدناها بأم أعيننا .. ألا يستحق منّا نحن العراقيين أن نعترف جميعا بكل المظالم التي حصلت ؟ أليس من العدالة أن نفتح صفحة جديدة كي نوقف كل ما يحيق بالمجتمع من تفكك وتبعثر ؟ الم يحن الوقت كي ندرك أسباب التشظي الطائفي في العراق ؟
يبدو واضحا أن الديمقراطية لا تنفع أبدا في مجتمع طائفي ، ومجتمعات الشرق الأوسط اغلبها طائفية ، وتتباين قوة ذلك من مكان لآخر حسب فاعليتها .. ومن زمان لآخر حسب تداعياتها التي تسببها في اغلب الأحيان ، الأفعال الشديدة وردود الأفعال الأشد . إن المحاصصة الطائفية التي اعتمدت بشكل فاضح في العراق بعد سقوط النظام السابق ، قد عّبرت عن ردود أفعال شديدة القسوة عن أفعال حمقاء ارتكبت وكانت شديدة القسوة .. وإذا كانت الطائفية سياسية في العراق وقد تحّولت اليوم إلى طائفية سلطوية ، فان الخوف يرتاب كل العراقيين الأسوياء ، كيلا تغدو طائفية ثقافية متفسخة .. ومن يتابع ما ينشره البعض من العراقيين اليوم ، سيجد أن المصطلح يعّبر عن تهمة خطيرة .. وحين تصل درجة الاتهام بالطائفية حتى ضد اللاطائفيين ، كما تفلسف بذلك أحد الزملاء الأكاديميين ، فان هناك ثمة من يدفع بهذا الاتجاه بغية إشعال الفتنة في المجتمع العراقي ، لا العمل على اتقائها بإيجاد حلول ومعالجات لهذا الوباء الخطير .
اين صراعات العراقيين الطائفية عبر التاريخ الحديث ؟
إذا كان بعض الساسة والمروجين قد استخدم ” الطائفية ” تهمة تاريخية ضد هذا النصف أو ذاك من المجتمع العراقي ، وأنا واثق تمام الثقة أن هؤلاء لم يعرفوا من تاريخ العراق إلا النزر اليسير ، فهل من العقل أن ينحرف بعض الكتّاب والمؤلفين والمثقفين العراقيين نحو هذا المنحى الخطير باستخدام الورقة التاريخية لتكريس الانقسام ضد المجتمع الذي نجده اليوم متشظيا على اقسى ما يكون التشّظي ؟؟ وهل يعقل أن يكون التاريخ بكل ايجابياته وسلبياته أداة حيوية في قهر المستقبل لا في بنائه ؟ ونحن نعلم أن المصير الذي ينتظره كل العراقيين هو مصير مشترك . وهل عرف التاريخ بحلوه ومرّه أي شكل من أشكال المجتمع المدني ؟ هل كانت هناك كيانات ودول في التاريخ تدرك معنى الحداثة والعلمنة والفصل التام للدولة عن الدين والمذاهب ؟
أتمنى أن أجادل هؤلاء الذين يتهمّون تاريخ العراق الحديث بالطائفية لكي يجيبوا على أسئلة واضحة تماما : هل انقسم المجتمع العراقي على امتداد أربعة قرون لما قبل الاحتلال البريطاني ، أي على أيام حكم السيطرة العثمانية .. وحارب بعضه بعضا ؟ هل تولى أي عراقي مهما كان مذهبه أو عرقه أو دينه السلطة والإدارة والجيش في أي ولاية من الولايات العراقية إبان حكم السيطرة العثمانية ؟ الم يكن كل الولاة والعسكر والاورطات غير عراقيين ؟ هل كان المجتمع العراقي متلاحما أيام الشدائد والمجاعات والنكبات .. أم كانت هذه تطال طائفة دون أخرى ؟ الم تكن الأسواق والخانات والقصبات مشتركة لكل العراقيين ؟ الم يتعاملوا في ما بينهم على الثقة والعهود والقيم العراقية بما فيهم التجار اليهود العراقيين ؟ أم كانت هناك صراعات طائفية بين أبناء شماله وجنوبه .. شرقه وغربه ؟ وان كان هناك شيء من هذا القبيل ، فأتمنى أن تدلوّني عليه ؟ هل اشترك أي عراقي في حملات الإيرانيين ضد العثمانيين على ارض العراق ؟ وهل اشترك أي عراقي في حملات العثمانيين ضد الإيرانيين على ارض العراق ؟ هل وقف العراقيون مثلا مع قوات الإيرانيين مع قوات نادرشاه وهو يغزو بغداد والموصل ؟ وهل وقف عراقي واحد مثلا مع قوات طوبال باشا وهو يقاتل الإيرانيين على تراب العراق ؟ من هم أولئك الشعراء أمثال : حسن عبد الباقي وعبد الباقي الفاروقي والموسيقار الملا عثمان الموصلي وغيرهم الذين كتبوا تلك الأشعار الجميلة في مدح آل البيت الكرام وبكوا على مأساة الأمام الحسين مع إخوانهم في كل من كربلاء والنجف والكاظمين ؟
القرن العشرون يتناصف بين زمنين
صحيح أن الضباط الأوائل كانوا من طائفة محددة عندما قبلوا في المدرسة العسكرية ببغداد ، وأكملوا دراساتهم باسطنبول .. ولكن لماذا وجدنا بينهم البعض من طائفة أخرى ومنهم رؤوف البحراني وغيره كما تخبرنا مذكراتهم بالتفاصيل ؟ وأسأل : هل كانت ثورة العشرين ثورة وطنية عراقية أم ثورة طائفة محددة ؟ هل ثار قسم من العراقيين ضد الانكليز دون أقسام أخرى ؟ ما الذي فعلته جمعية العهد وكل أعضائها في المدن العراقية ؟ ما الذي فعله الجيش القادم من دير الزور وكله من الضباط العراقيين والعشائر واصطدامه بالانكليز قرب تلعفر ؟ ما دور الشيخ محمود الحفيد في كردستان ضد الانكليز ؟ وأرجو أن يقرأ هنا ما كتبه الدكتور علي الوردي للتأكد مما أقول .. وهل نشأت الحركات والأحزاب الوطنية في العراق عند طائفة دون أخرى ؟ من الذي ساهم في تأسيس حزب البعث في العراق ؟ من الذي اجتمع في دار الإذاعة حول الزعيم عبد الكريم قاسم ليصفقوا لإعدامه ويبتهجوا ؟ ومن الذي اصدر الفتوى لمقاطعة حكمه وإنهائه ؟
إن من يريد استخدام التاريخ لمشروع انقسامي طائفي ، فهو يكتفي بما سمعه من عموميات رائجة ، ويستنجد بجداول خاطئة لغير عراقيين .. أما من يريد استخدام التاريخ العراقي لمشروع وطني وحضاري ، فعليه أن يكون دقيقا ويعتمد على وثائق عراقية رسمية . إن من أسوأ ما يحصل أن يستنجد بعض الكتّاب العراقيين بمعلومات خاطئة وغير عراقية في قراءتهم لتاريخ العراقيين من اجل تكريس الانقسام وإشعال الطائفية في المجتمع الذي لم يخل منها ، ولكن لم يصل هذا الوباء إلى ما وصله اليوم سياسيا وسلطويا .. إن الاقتصار على بحث الأسباب الجوهرية التي قادت إلى هذا المصير على امتداد خمسين سنة مضت هي كافية جدا مقارنة بما عاشه المجتمع العراقي على امتداد مئات السنين متلاحما متكافلا متعايشا وموحدا ..
دعوة للاعتراف والتعايش
وأخيرا ، إنني أدعو بمحبة وصدق وإخلاص كل أصحاب الغلو والتطرف من كلا الجانبين ، التخفيف من غلوائهم ، لأنني مؤمن بأنهم لا يمثلون كل العراقيين .. وأدعو إلى التخفيف من استخدام التعابير الجارحة بين الطرفين ، وقد راجت حتى بين الكتاب المعروفين مصطلحات تبث الانقسام والتجزئة ، مثل ” الحكم الشيعي ” أو ” الأقلية السنية ” ، أو ” الصفويين ” أو ” النواصب ” .. الخ وأدعو إلى عدم لصق مثل هكذا تهمة بليدة وغبية على عراقيين لم يكونوا يوما بطائفيين ، فانك إن اختلفت سياسيا مع نوري السعيد فلماذا تنال من أصله ؟ وان اختلفت مع عبد الكريم قاسم فلماذا تصمه بالشعوبية ؟ وإذا كنت ضد سياسة عبد الرحمن البزاز .. فهل يعقل وصفه بالطائفية ؟ إنني أدعو إلى ان يحترم كل عراقي العراقي الآخر ، ويحترم مشاعره وطقوسه وعاداته وتقاليده .. عدم استخدام التاريخ ورقة للتلويح بالطائفية .. فمن لم يكن مؤرخا ومدققا في بواطن حياة العراقيين ، فالتاريخ ليس وصفة علاجية للإقناع يستخدمه البعض كاركاتيرا يزينون به مقالاتهم التافهة .. وأدعو مخلصا إلى الاعتراف بما حاق بالآلاف المؤلفة من البشر من قمع وتهجير وتشريد وبهدلة بلا مبرر .. وأدعو إلى إدانة استئصال أبناء مدن وقرى كاملة وإسكانهم في مجمعات إسمنتية موحشة اثر إحراق قراهم وحلالهم ( ومنها قرى اليزيدية قرب سنجار كما شهدت ذلك بنفسي ) .. وأدعو إلى الاعتراف بعمليات الفصل العنصري التي جرت إبان العهد السابق .. وأدعو إلى الاعتراف بالمآسي الجماعية التي حلت بالأبرياء من هذه الطائفة أو تلك الأقلية .. إن العراقيين عليهم أن يكونوا صادقين مع أنفسهم بعيدا عن الأهواء السياسية والعواطف الطائفية .. إن العراقيين بحاجة إلى وعي وطني جديد ينقذهم جميعا من حالتهم التعيسة التي يمرون بها .. وليدركوا أنهم باقون هنا جميعا على ترابهم إلى الأبد ، فمصيرهم مشترك ، وان أي تطاحن هو جناية على الطرفين .. وان أية محاولات للتهجير أو التهميش .. للقتل والإرهاب لطرف معين من قبل الطرف الآخر .. سوف لن ينفع أبدا .. وان أي انقسام سياسي أو فيدرالي أو حتى جغرافي للعراق في ما بين العراقيين ، فان ذلك سوف يدمرهم بحروب مستعرة لا تبقى ولا تذر .. أتمنى من صميم القلب ، أن تكون رسالتي وطنية ونظيفة ، وقد وصلت إلى الجميع .
نشرت في الف ياء الزمان ، 21 ديسمبر / كانون الاول 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
شاهد أيضاً
نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين
ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …