ابحثوا لي عن شريكه الحقيقي .. سوف لا تجدونه ، لأنه هجر الثقافة المعاصرة منذ زمن طويل . لقد غدا المثقف العربي في حالة بائسة ، فهو إما مسحوق ، أو مقهور ، أو مهمّش ، أو مبتلى ، أو مسجون ، أو مأسور ، أو مهاجر ، أو صعلوك ، أو بوق سلطة !! انه لا يتمتع بأية حريات في أسوار منظومته .. هذا الكائن الرائع لم يعد يدرك ما الثقافة في العالم ؟ لم يعد يبدع ويساهم في رفد ثقافته نفسها . المثقف الحقيقي هو مبدع رائع يخلق الأشياء الجديدة ويبدع المعاني العليا .. فهل يستقيم حجمه المتضائل مع هذا الركام السكاني اليوم في كل عالمنا ؟ كانت له قبل خمسين سنة شراكته من خارج بيئته .. كان متابعا لما يجري هنا وهناك .. كان يتواصل مع الأدب الروسي ، والفلسفات الفرنسية ، والأفكار الانكلوسكسونية ، والمؤدلجات الاشتراكية ، والفن الايطالي ، والشعر الأمريكي ، والمسرح الألماني .. الخ كانت الترجمات ممتازة لروايات عالمية مشهود لها بالصنعة الثقافية . ماذا ترى اليوم ؟ يبوسة وعزلة ! كان يعتني بأفكار العصر وشعره وفلسفاته .. اليوم أخذته الموجات الطاغية وهو في لجّات العتمة .. سرقه الماضي ، وأصبح لا يفكر إلا بالأوهام والماضويات العتيقة باسم الأصالة ! انزل إلى اقرب معرض للكتاب .. فستجد حالة بائسة ومزرية .. سنة كاملة تمضي ولن تجد إلا غثاء السيل من دون أن تقع على إبداعية مثقفة حقيقية إلا نادرا . وتجد المهرجانات الفوضوية لأغنيات سمجة تسحق الذوق .. أن أي امة لا تقرأ ، فهي لا تنتج أي مبدع ، والأمة التي تتيبّس ، سوف لن تلد المبدعين من بينها .. والأمة التي تأكل رائعيها ، سوف لن يعرها احد في العالم أي اهتمام !
إن السياسات التي اتبعتها الأنظمة الحاكمة قد سحقت كل المثقفين الأحرار ، وتيّهت المبدعين ، وحاربت المستقلين .. بل أن المؤسسات الثقافية ووزارات الثقافة العربية ـ باستثناء النادر منها ـ قد أصبحت بأيدي مسؤولين لا يدركون أي معنى للثقافة ، ولا يميزون كما قال الصديق الشاعر احمد عبد الحسين بين التمثيلية التلفزيونية وبين المسرحية ! وان اغلب المسؤولين والحكام والمتسلطين لم يقرأوا كتابا واحدا في حياتهم .. فكيف يمكن للمثقف أن يعيش في ظل التوحّش ؟ وكيف له أن يتنّفس ؟ وكيف له أن يمارس إبداعه ؟ نسأل : هل هي مشكلة الدولة والنظام السياسي لوحده ؟ أجيب : لا إنها مأساة النظام الاجتماعي بأسره أيضا .. إذ ولدت سلطات جائرة تحاسب الإنسان أيا كان على سكناته وحركاته .. على ألبسته وأسلوبه الشخصي ، فكيف بها تقبل بمن ينادي برأيه ويعبّر عن طموحاته وأفكاره بمنتهى الحرية ؟ إن مجتمعاتنا قد سحقتها بعد أن غسلت أدمغتها الموجات العاتية للقوى المتسلطة على المجتمع باسم الإسلام السياسي ، وباسم انتشار الأصوليات التي تلاحقك بما يجوز أو لا يجوز .. وسحقت القيم السمحة والتقاليد والأعراف القديمة والتآلف مع أصحاب الديانات الأخرى. إن مجتمعات عربية كانت لها فسيفسائها الاجتماعي الخصب على مر العصور ، تأثرت ثقافيا وإبداعيا بشكل مباشر من جراء الغلواء والتعصب الذي اجتاحها منذ ثلاثين سنة ، ومنها مصر والجزائر .. ناهيكم عن أوضاع الحروب الأهلية التي مرّت في لبنان والعراق والسودان واليمن .. أو المآسي التي عانى منها الفلسطينيون . فهل لك بعد هذا وذاك أن نسأل عن ندرة المثقف الرائع وهو يسحق هنا أو هناك ؟
نشرت في مجلة الأسبوعية ، بغداد ، 18 تشرين الاول / اكتوبر 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
اللوحة المرفقة للفنان التشكيلي الكويتي سامي محمد
شاهد أيضاً
مطلوب لائحة اخلاق عربية
تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …