المعنى الحقيقي للتجديد العراقي
لا يمكن أن يعيش العراق من دون أن يجدد نفسه على أيدي أبنائه من زمن إلى آخر .. وشعب العراق متنوع حتى بين الحداثة والتقليد .. ولكنه اليوم بأمس الحاجة إلى أن يجدد نفسه وتفكيره وأساليبه في الحياة .. تربوياته وسياساته وتقاليده وأعرافه الاجتماعية .. لقد كان للمجتمع العراقي تقاليده عند بدايات القرن العشرين ، ولكن مجتمع بدايات القرن الواحد والعشرين يختلف تماما عما عاشه الآباء والأجداد فكرا وقيما وأساليب نظام وسلوكيات وأخلاقيات .. وكما كانوا قد عانوا الأمرين إبان ذاك الزمان ، فهم يعانون من تحديات أدهى وأمرّ هذه الأيام .. إنهم بأمس الحاجة إلى امتلاك وعي جديد ، وان يتسلحوا بسلوكيات متباينة عن تلك التي مارسوها في القرن العشرين .. إن التجديد في حياة العراقيين سيمنحهم دفقا من المعاني الجديدة ، خصوصا إذا ما عرفت الأجيال الجديدة معنى روح الإخاء والتعايش والمحبة والتعاون والتسامح والفهم المشترك للأمور .. على العراقيين اليوم أن يجددوا كل مرافق حياتهم ، وهذا لا يتم إلا بعد أن تسلك الدولة ومؤسساتها سبل التجديد وأساليب الحداثة ، وخصوصا ، العمل على تجديد كل من التربويات العراقية من اجل خلق سلوكيات جديدة وأصول التعامل وأصول التمدن في العلاقات والخلاص من كل الأمراض التي غدت مزمنة ومفجعة ..
الهوية .. عراقية فقط
انني اعتبر ” الهوية العراقية ” أهم مبدأ من مبادئ العراقيين الجديدة ، والذي ينبغي أن يسود ويترّسخ في الضمائر العراقية منذ زمن الطفولة .. إن خلق جيل حضاري عراقي متجدد لا يتم بسهولة ميسورة ، فثمة عوائق سايكلوجية واجتماعية وثقافية تعيق التجديد وفلسفته في التطبيق .. ولكن لابد من الابتعاد قدر الإمكان عن كل ما يثير النزعات الطائفية والقبلية والشوفينية .. وان لا يكون الدين أو العرق أو الطائفة أو العشيرة .. بدائل عن العراق . إن العراقيين بحاجة إلى منهج دراسي يتدارسونه منذ نعومة أظفارهم ، تكون الهوية العراقية أهم المبادئ التي يتعلمونها .. ثم كيف يكونون حضاريين في تعاملهم مع بعضهم الآخر ، والابتعاد قدر الإمكان عن كل ما يثير النزعات المجافية أو المصادرة للمسألة الوطنية ، وان لا يكون أي منها ما يميز العراقي عن الآخر . منهج ينبغي أن يتعلمه الكبار قبل الصغار ، والحكام قبل المحكومين .. منهج يحرص أن يتربى الصغار على أن يكونوا عراقيين ، ولا هوية أخرى بديلا عن عراقيتهم .. والخروج من دوائر الانغلاق والشعارات والأوهام والمخيالات والأمراض والخبالات والاحتقانات والتفرقة على أساس التنوعات والدين والطائفة والعشيرة والقومية والاكثريات والأقليات .. الخ
لماذا ماتت حياتنا العراقية المنتجة ؟
قلنا ونعيد القول من جديد ، إن التجديد ضرورة أساسية لكل المعاني والأشياء العراقية .. لننظر إلى أوضاعنا العراقية اليوم والمأساة التي تعيشها ثقافتنا العراقية التي انعدمت منها الحداثة والتجدد والإبداع والتألق ، فهل من الصواب أن يموت الفن العراقي ، أو يهاجر القلم العراقي ، أو تتيّبس القرائح العراقية ، أو يسكت الطرب العراقي ، أو تنام الفولكوريات الرائعة ، أو تنعدم الحريات الشخصية ، أو يختفي الفكر والأدب والشعر ، أو تتشرذم القوى الفاعلة ، أو تموت الصنعة والمهن الصغيرة ، وتضمر أساليب الصناعة والزراعة .. ولا نجد في العراق إلا قوى الظلام والعتمة والمسكونية البليدة والقوالين المنبريين والمهرجين التافهين .. بأي وجه حق تكّبل المرأة بالقيود ، ولا نجد الشارع والمقهى والسوق والمنتدى والنادي والكازينو والمطعم والمكتبة العامة .. الا زنازين مخيفة ؟ بأي وجه حق لا تجدّد الروح النقابية التي كان لها تاريخها الناصع في العراق ؟ بأي وجه حق ينقسم المجتمع انقسامات مقيتة ، وتصل درجة الانقسام إلى النخب العليا والى المثقفين والمتعلمين ولم تبق حبيسة الأنفاس الكريهة للسياسيين الطفيليين الذين يهمهم الانقسام في المجتمع العراقي ، كي يجدوا وسائل تسلقهم نحو السلطة ليغدوا طغمة حاكمة ليمارسوا أساليب رزقهم الماكرة ؟ نحن في أي عصر في هذا العالم حتى نجد المجتمع العراقي يعيش احتقانات سياسية وفئوية وطائفية وجهوية وعشائرية وعرقية شوفينية ؟
هل من عقد اجتماعي مدني ؟
كل هذا وذاك يحصل ، ولا يمكن للمجتمع نفسه أن يجدد نفسه بنفسه ، إن لم تكن هناك دولة لها حيويتها وأنشطتها في انجاز عقد اجتماعي مدني بينها وبينه من اجل إنقاذه .. وإنقاذه لا يتأتى بدستور انقسامي وعلى أيدي أناس مقلدين غير مجددين ، أو مسؤولين يحملون كل أمراض الماضي ، أو مشروعات انعزالية أو انقسامية تميت العراق وتكبت العراقيين ، أو تكالب على مصالح شخصية ، أو رفع شعارات كاذبة ، أو الإبقاء على أحزاب متشرذمة غير متجددة تسبح بحمد هذا وذاك بعيدا عن كل العراقيين ، أو ترديد خطب منبرية ، وإطلاق تصريحات تلفزيونية ، ونشر مقالات تافهة تبث السموم والأحقاد والكراهية ، أو تمارس الشتائم المقذعة وتزوير المعلومات .. أو مقايضات على السلطة والمال والأرض .. أن هذا لي وهذا ليس لك ، ولا تسمح لأي أنفاس من المحبة والتعايش والتسامح .. فضلا عن تبادل الردح والاتهامات من دون تشخيص أو تحديد ، بل إطلاق التهم على قومية بأسرها أو عشيرة بعينها أو طائفة بأكملها بلا أية محددات وبلا أي هوامش أو خطوط رجعة .. إن سياسات الإلغاء والتهميش والاحتقار والكراهية والتلفيقات مع التعتيم الإعلامي وترويج شعارات هذا الطرف على حساب ذاك .. كلها قد أضرت بالمجتمع العراقي ضررا بالغا وأنهكت قوته ناهيكم عن الحاجة إلى تغيير سلوكيات سيئة أصبحت تلصق بكل العراقيين .. إن احتقار المثقفين أو المتمدنين سلوكية عراقية واضحة ، فلقد غدا ـ مثلا ـ استهجان الأزياء التي تربينا عليها ، واقصد بها تلك الأزياء المدنية التي عهدناها في العراق وخصوصا ربطة العنق عند الرجال أو تصفيف الشعر لدى النساء ! لم يعد الإنسان العراقي يمتلك حريته الشخصية أبدا حتى وان وجد حريته في الرأي السياسي ، فمشكلته اليوم مع سلطات في المجتمع لا حصر لها بعد أن كانت مشكلته مع سلطة الدولة التي لم يعد لها أي قوة ولا أي تأثير !
التنكيل بالسلوكيات العراقية المدنية
إن التنكيل بكل المظاهر المدنية يعد من أسوأ ما يشهده المجتمع العراقي الذي كان بأمس الحاجة الى الانفتاح الحقيقي على العالم ، بل هذا النفي القسري للسلوكيات النظيفة .. لقد عتب عّلي احد شيوخ العشائر العراقيين الجدد في حفل غداء بدولة غربية ، واختلف معي كوني كتبت يوما أن بعض القيم العشائرية البليدة قد عادت عند نهايات القرن العشرين بعد أن تعب العراقيون المستنيرون في النضال للتخلص منها وبناء مجتمع مدني !! فقلت له : ثمة معاني جميلة وبعض قيم رائعة في محلياتها ، ولكن لا يمكن ترويجها في المجتمعات العراقية الحضرية اذ انها تنتج تشوهات لا حدود لها .. كما هو حال القيم الاجتماعية الدينية التي لا يمكن أن تروجها سياسيا في أي مكان بالرغم من جمالياتها الفردية والجماعية في دور العبادة .. إن السلوكيات العراقية بحاجة إلى ثورة تغيير جذرية تنسف كل العلاقات الموبوءة التي لا تعرف إلا المصالح الشخصية والأسرية والفئوية والعشائرية والطائفية .. الخ والسعي بكل الوسائل حتى غير النظيفة للوصول الى السلطة ! إن المداهنات ومديح المسؤولين والسلطويين ورشوة الموظفين ونفاق الكذابين والمماطلين والملفقين والتملق لأصحاب العمّة والجاه والسلطة بشكل مقزز ينفي أي صفة كريمة لإنسان عراقي يحترم المعلمين ويعشق المثقفين ويسلك سلوك الأسوياء المحترمين ، كما كان عليه حاله في الماضي .. ولكن المجتمع قد أصبح موبوءا منذ عقود طوال من السنين جراء أمراض واحتقانات وخوف جماعي وهلع هستيري أصاب الملايين ، وغدا اليوم كل العراق يعيش فوضى قيمية ، ومخاطر سياسية ، وصراعات محلية ، وأجندات خارجية ، ومحاصصات فئوية ، وتوافقيات طائفية وصراعات عرقية ، والتسبيح بحمد المكونات الرئيسية والشعور بالانسحاق من قبل الأقليات العراقية .
الانطلاق : تجديد الدستور اولا
لو كان هناك أي مشروع وطني قد بني على مبادئ عراقية أساسية يحترمها ويجمع عليها كل العراقيين ( ويمكن أن تحدد بست مبادئ وطنية فقط وقاطعة ، وهي مدنية غير قابلة للأخذ والرد ) لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه . إن أي تكوين سياسي ووطني جديد ينبغي أن ينطلق من نقطة الصفر باستناده إلى ” مبادئ ” يتضمنها دستور مدني يقبله ويحترمه الجميع ، اذ ليس من المفروض أن يفرض دستورا وهو مثقل ببنود خطيرة يحمل مبادئ انقسامية مميتة ! ومنذ أربع سنوات يطالب العراقيون بإصلاحه ، والبعض يطالب بتجديده أو تغييره ، ولكنه باق على عّلاته ، فإذا كان قد ولد ميتا ، فسوف يبقي كل الحياة العراقية مصابة بالشلل والكوارث . لقد أثبتت التجربة التاريخية أن العراقيين مهما بلغت تبايناتهم وخلافاتهم ، فهم أصحاب معادلة واحدة لا تقبل الانقسام ، فما علينا إلا أن نعيد النظر بكل ما تقدّم عمله والذي غدا غير قابل للإصلاح بأي حال من الأحوال . إن إبقاء دستور البلاد بهذه الوضعية السيئة سيجعله تحصيل حاصل للعراقيين وهم غير قادرين أبدا على التجديد أو التغيير لا السياسي ولا الاقتصادي ولا التربوي ولا الاجتماعي ولا الثقافي ..
نحن بحاجة الى عراقيين جدد
إن العراقيين اليوم بأمس الحاجة إلى التجديد في تفكيرهم وأساليب حياتهم .. في تربوياتهم ورؤاهم للأمور .. في علاقاتهم السياسية وفي قيمهم الاجتماعية .. إنهم بحاجة إلى سلوكيات جديدة تقبل بالآخر وتتعلم من الآخر .. إنهم بحاجة إلى سايكلوجيات جديدة مبنية على روح التسامح والتعايش والمحبة بدل كل الاحتقانات والكراهية والأحقاد .. إنهم بحاجة إلى مثقفين ومعلمين ومبدعين وليسوا بحاجة إلى ساسة ومتحزبين ومهرجين .. إنهم بحاجة إلى شعراء وأدباء وفنانين ومطربين وليسوا بحاجة إلى ملالي ساذجين ومنبريين كذابين وأناس متعصبين .. إنهم بحاجة إلى عمال وطلاب وكسبة وفلاحين منتجين وليسوا بحاجة إلى لصوص وقتلة وسراق وحرامية ومرتشين .. نحن ـ باختصار ـ بحاجة إلى عراقيين جدد ومجددين ، متمدنين وحضاريين ، ديمقراطيين وانفتاحيين .. وان يستعيد بقية أبنائنا العراقيين الآخرين قيمهم النظيفة وسلوكياتهم الجميلة .. وذلك كله لا يولد أبدا إن لم يبدأ الجميع بفلسفة جديدة ورؤية جديدة في الحياة .
( للحديث بقية )
نشرت في جريدة الصباح البغدادية ، 27 آب / اغسطس 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
شاهد أيضاً
نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين
ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …