من فم الذئب الى حلوق الضباع
لقد خرج العراق من فم الذئب ليدخل مقطعا ممزقا في حلوق الضباع بفعل ما أحدثه الاحتلال .. وكان العراق طعمة سائغة منذ خمسين سنة لصراعات الحرب الباردة ، ومؤامرات إقليمية ، وانقلابات عربية ، وتمردات داخلية ، وحروب مع الجيران ، وحصار دولي وصولا إلى احتلال أمريكي وحرب طائفية أهلية .. لقد لعب العالم كله ألعابه مع العراق .. وإذا كان المسؤولون العراقيون بمختلف أنظمتهم السياسية في مراحلهم الملكية أو الجمهورية باستطاعتهم أن يبقوا على وحدة العراق الاجتماعية ، فان العراق اليوم يعيش تجربة فاشلة بسيطرة ثلاث قوى حاكمة عليه ، هي : الأمريكيون المحتلون، وتكتلات القوى الدينية من شيعية وسنية ، وهناك تحالف يجمع اكبر ائتلاف ديني حاكم مع حزبين كرديين يحكمان إقليم شبه مستقل عن الحكومة المركزية ببغداد !
لقد كانت فكرة حزب ديني يحكم العراق ، فكرة خيالية قبل خمسين سنة ، نظرا لما عرفه المجتمع العراقي من تطور فكري وسياسي لدى النخب العريضة مع تقدم في مؤسسات الدولة ونقابات المهنيين والأحزاب الليبرالية والاشتراكية والقومية .. ولم يكن احد ليصدّق أن الأمريكيين سيعتمدون على أحزاب دينية في حكم العراق.. والتي لم تكن مجرد أحزاب دينية ، بل اتخذت لها طابعا طائفيا بالضرورة بفعل انقسام المجتمع دينيا وتاريخيا بين سنّة وشيعة .. وكان لابد أن تنبثق أحزاب دينية مسيحية لأقليات سكانية كي تبحث لها عن وجود لها . هكذا ، تبلورت أجندات مبهمة كالتي وجدت عليها القوى السياسية اليوم ، وفي ظل الفراغ السياسي الهائل الذي تركه النظام الراحل بعد حرب جيوش التحالف بقيادة الولايات المتحدة واحتلال العراق في 2003 .
بدائية القوى الحاكمة
لقد كان العراق بيد قوة حزبية سياسية واحدة على امتداد عهد صدام حسين ، هيمنت على مقاليد العراق قرابة 35 سنة ، ولقد افرغ العراق من كل القوى السياسية السابقة ( ليبرالية وقومية وراديكالية ) والتي عاشت بعد أن ولدت وتبلورت في أزمان مختلفة من القرن العشرين .. وبالرغم من وجود قوى سياسية في الخارج ، وكان اغلبها يمّثل مكونات المعارضة السياسية منذ زمن بعيد ، إلا أنها جميعا لم تستطع النجاح أبدا والانتصار بتغيير النظام والوصول إلى السلطة .. ولما كانت الدواخل محرومة تماما من أية قوى سياسية ، ولن يكن النظام السابق ليسمح حتى بإصدار جريدة مستقلة ، فان من المحّرم على العراقيين تأسيس حزب أو جمعية أو حتى جماعة أو حتى أثنين مع بعضهما .. مع إلغاء كل الحركة النقابية والجمعيات الثقافية ..
وعليه ، فان العراقيين سرعان ما انتشرت بينهم أنواع عديدة من الأحزاب وخلقت قوى سياسية متنوعة بالرغم من بدائيتها السياسية اثر السقوط ، واستعادت الأحزاب القديمة نشاطها وبفشل ذريع ، وانتشرت المراكز الحزبية في عموم العراق .. بل وبدأت تتشكل المؤتمرات والمجالس والندوات وانبثقت جملة هائلة من الأحزاب الفردية والعشائرية ، وانفردت بعض التيارات الدينية لتغدو كتلة سياسية لدى الشيعة أو كتلة أخرى لدى السّنة ، وهما تفرضان قوتهما من رصيد الشارع العراقي الذي بدا منقسما على اشد الانقسام . وعليه ، فان صورة القوى السياسية قد تشكّلت من مجموعة من أحزاب وكتل وتيارات .. غلبت عليها النزعات العشائرية والطائفية والهيئات الدينية والتحالفات النفعية البنتهامية وانتشرت المليشيات المسلحة .. وكلها متباينة الأهمية والامتداد والعمق . إن بعض هذه القوى يمتد في تاريخه إلى عدة عقود من الزمن ، لكنه اضطر إلى تجميد عمله أو نقل نشاطه إلى المنفى، وبعضها نشأ وترعرع ونما في الخارج، واغلب بل كل تلك ” الأحزاب ” تلقّت مساعدات مالية ومن أطراف متعددة ومن دول كثيرة والثالث ظهر في المرحلة التي تلت الغزو مشكلا ظاهرة غير طبيعية ، بل واستثنائية من التعددية السياسية المشّوهة ، والتي لم يعرفها العراق أو المنطقة من قبل وذلك قبل أن تنكشف الأقنعة عن الوجوه ليظهر كل طرف هويته التي لا تجعل المبادئ الوطنية هي الأولى ، بل وجدنا فرزا حقيقيا لمسألتين مضادتين هما : الطائفة الدينية أولا والاثنية العرقية ثانيا . إن من الأهمية بمكان رصد هذه ” الخارطة ” العجيبة ، ولكن من الأهم معرفة طبيعة كل التناقضات التي أنتجها التغيير التاريخي الذي حدث في العراق عام 2003 .. وان من الأهمية دراسة تجربة العراق لخدمة أغراضه ومجالاته الحيوية .
اصطفافات وتخندقات
لقد وجد العراقيون أنفسهم بعد سقوط النظام السابق عام 2003 ، أمام مرحلة تاريخية جديدة ولكنها مليئة بالتحديات والتشوهات معا ، والتي يقف على رأسها الاحتلال .. وهنا ، بالرغم من أن التحالفات والقوى السياسية قد أعادت ترتيب نفسها وأوضاعها لمرحلة جديدة ، ولكنها تبّنت ” الديمقراطية ” سريعا من دون أي دراسة معمقة لفشل التجربة ، ولم يمنح المجتمع السياسي فرصته التاريخية بمرحلة نقاهة يجدد فيها تفكيره ، ويحرر فيها إرادته .. لقد كانت العملية السياسية والدستورية سريعة جدا وبأجندات متشظية ، وفي ظل أوضاع غير أمنية سيئة للغاية ، فتبلورت لأول مرة اصطفافات على أساس الدين أو الطائفة أو العرق أو العشيرة .. وغدت التجربة تنتقل من فشل إلى فشل من نوع آخر حتى وصلت الأمور إلى وضعية سيئة ، فتحولت الاصطفافات إلى تخندقات ، وتحول التنافس السياسي إلى صراعات دموية .. وتمحورت حول الأحزاب الكبيرة ميليشيات اوليغارية مسلحة ، وبدأت الصراعات مكشوفة على العلن في صراع على المصالح والسلطة والنفوذ والمال .. كما غدت التخندقات الطائفية مع شرور الإعلام المحلي والإقليمي متأججة إلى درجة لم تعد القوى السياسية تتفاهم على حدود دنيا وقواسم مشتركة يتلاقى عليها الجميع ويتفاهم عليها كل العراقيين .. ولقد انتظمت القوى المدنية السياسية على هذا الأساس، مع الإشارة إلى وجود بعض الاستثناءات التي لم تعتمد الانتماء الديني أو العرقي أو القبلي معيارا ، ولكنها لم تكن مقبولة ، ولم تستطع أن تجد لها مجالا وسط تلك الصراعات .
لقد كان الائتلاف الشيعي الذي حصل على أكبر عدد من المقاعد البرلمانية ، باستخدامه الورقة الدينية والشعارات الطائفية بديلا عن أي برنامج سياسي ، وكان طموحا في الحفاظ على موقعه القوي في البرلمان أو على الأقل تشكيل كتلة قوية داخله، وان ما أسفرت عنه الانتخابات ” قد رضخت إليه بقية القوى السياسية من حيث عدم التوازن في مفردات الخارطة السياسية ، وان السبب يكمن كما شاع وكتب أن ثمة تزويرات قد حدثت .. فضلا عن أن التحالف بين الائتلافيين الشيعة والأكراد المتماسكين ( مع ميليشياتهما الاوليغارية ) قد أثقل ظهر المعادلة ، وقد فسر انه ليس لصالح بقية القوى السياسية العراقية ، وقد فسّرته ليس لصالح أي مشروع وطني يعد عقدا بين الدولة والمجتمع . ولم تزل الأحزاب الدينية مصّرة على بقائها في الحكم بالرغم من فشلها ، وخصوصا بعد أن كانت سببا أساسيا في تمزيق المجتمع طائفيا .. وهي مصّرة على الإبقاء على خطاياها التي ارتكبتها من خلال ما تفعله اليوم إزاء الانتخابات القادمة في يناير 2010 .. علما بأن لها إيديولوجيتها التي تريد تطبيقها في كل المنطقة . ان اغلب الاحزاب العراقية الحاكمة اليوم وغير الحاكمة ، هدفها الاساسي هو السلطة ، والوصل اليها بأي ثمن من الاثمان .. فضلا عن مصالح جهوية وفئوية وقبلية واثنية وطائفية وقومية .. تستشري بقوة يوما بعد آخر . هنا على العراقيين ان ينتبهوا تماما ، ويفصلوا بين مشروعية وطنية في حكم العراق وبين صراع مصالح متنوعة في السيطرة على العراق .
دروس مستخلصة:
1) العامل الديني وانعدام الوعي السياسي
لا شك أن للعامل الديني والطائفي خاصة تأثيره البالغ على الناخب والممارسة الانتخابية عموما وبالتالي على اتجاه العملية السياسية في البلاد. لقد فقدت النخب السياسية المدنية الليبرالية والراديكالية فرصها التاريخية في أن تكون لها كلمتها المسموعة ، خصوصا وان العراق لا يمكن أن يحكم من قبل أحزاب دينية بحكم تنوع الفسيفساءات الاجتماعية ، وان تلك القوى الدينية والشوفينية سرقت الآلية الانتخابية واستخدمت ما سمي بـ ” الديمقراطية ” وصعدت من خلالها للتسلط والتسّيد على كل العراق . إن ما يثير الغرابة حقا ، عدة ملاحظات لابد من التأمل بها مليا ، ومنها التي يمكن صياغتها في أسئلة محددة : لماذا اعتمدت الولايات المتحدة على الأحزاب الدينية والعرقية في حكم العراق ( الجديد ) ؟ كيف نفّسر شراكة الحزب الشيوعي العراقي في العملية السياسية التي تقودها أحزاب دينية ؟ لماذا تصر الولايات المتحدة على إستراتيجيتها في العراق من دون أن تسمع لما يريده العراقيون حقا ؟ لماذا أضاع التيار العلماني والليبرالي الفرصة ودخل النفق المغلق ؟؟ إن الأقوال لا تنفع إذا لم تقترن بالأفعال .. إن التصريحات بتأسيس دولة حديثة مدنية لا تنفع ، إن لم تغيّر كل الأحزاب الدينية أثوابها الطائفية ومضامينها الداخلية ، وتسعى فعلا لاحترام الدين وجعله نزيها عن مشكلات الدنيا وأوساخها ، وان تغدو كلها مدنية لتطوير دولة القانون .
2) من خيبة الامل والاحباط الى بناء مشروع حضاري
إن القوى السياسية المدنية العراقية تبدو اليوم ضعيفة جدا أمام المجتمع وهو يعيش صراعا خطيرا في الداخل مع فقدان الوعي السياسي وانعدامه لدى القوى والتيارات الدينية .. إن المجتمع العراقي كان يتأمل حدوث التغيير لينتشله من واقع مأساوي من الحروب والحصارات والدكتاتورية ، ولكنه يعيش اليوم إحباطا هائلا كونه قبل بالمعادلة الدينية من دون أن يحسب أنها الوحيدة القادرة على استحواذ السلطة باستخدام الآليات الديمقراطية الغربية بعيدا عن المضامين السياسية المدنية الحقيقية .. ولم يزل اغلب الليبراليين يؤمنون أن تيارهم سيحيا مع زوال الاحتلال ويواصل مسيرته التاريخية في صناعة مستقبله .. نعم ، خاب رجاء العراقيين في القوى السياسية الدينية التي لم تدرك كيف تتعامل مع الواقع أولا ومع المستقبل ثانيا ، بل وساهمت مساهمة أساسية في شرذمة المجتمع العراقي وتمزيق أوصاله .. إنني اعتقد أن المستقبل سيكون صعبا جدا في ظل وجود الخارطة الحالية .. ومع تغييرها أو تبديل النهج ( أو أكثر ) لمعظم القوى والأحزاب والكتل السياسية .. سيبدأ العراق حياته خصوصا وان أجيال القرن الواحد والعشرين سوف لا تبقى بالضرورة على ارث القوى السياسية في القرن العشرين .. فهل سيبدأ العراق سيرورة مفعمة بالأمل ؟ هذا ما سيجيب عنه المستقبل .
نشرت في مجلة روز اليوسف المصرية ، 29 أغسطس 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
Check Also
نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين
ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …