إن مفهوم العولمة هو غير ظاهرتها وتأثيراتها على مجتمعاتنا التي لا يملك اغلبها زمام أمره ، ومواطنها الشهيرة التي تتضمنها مركزيات جيوستراتيجية . وثمة مقترحات أراها عملية في تأسيس مستقبلنا إزاء العولمة التي تداخلت في نسيج مجتمعات وثقافات واقتصاديات كل العالم ، ومن أبرز تلك المقترحات : السعي لتأسيس كتلة اقتصادية في منطقتنا قبل أن تكون تحالفية سياسية لأن عصر التحالفات سينتهي عند نهاية العقد الأول من هذا القرن كي يبدأ عصر التكتلات .. ثم السعي الحثيث لأجيالنا القادمة من قبل النخب الفاعلة في مجتمعاتنا العربية والمسلمة لتأسيس دور فعال لها على الساحة في معالجة التحديات والمخاطر التي حللتها في كتابي العولمة والمستقبل ( 1999) . وقد اختلف معي البعض في الذي نشروه حول طروحاتي هذه ، ولهم ألحق كل الحق في ذلك ولكنهم لم يعطوا البديل مع الأسف !
العولمة الجديدة وتفكير مجتمعاتنا !
لابد من تفكير جديد يمكننا استحضاره وبنائه إزاء ظاهرة العولمة التي لا يمكنها أن تموت بسرعة كما يتوقع البعض من قصيري النظر .. ومرة أخرى لابد أن يحمل مضمون التفكير الجديد للأجيال القادمة عندنا نقدا معرفيا صارخا لأوضاعنا سواء في واقعنا أم تفكيرنا ، فلابد من أن يفكك التفكير الجديد العولمة كظاهرة تاريخية معاصرة ومستقبلية ضمن سلسلة الظواهر الكبرى في التاريخ .. فهي ظاهرة كابيتالية تأتي بعد ظاهرة الاشتراكية وظاهرة الاستعمار وظاهرة الثورة الصناعية .. الخ من الظواهر الكبرى في التاريخ ؛ ولكنني اختلف عن بقية المحللين والمفكرين العرب الذين يحيلون كل مآسينا وأوضارنا على مرجعية العوامل الخارجية ، إذ أنني أجدها أساسا في العوامل الداخلية وما عشناه وما عانينا من الأخطاء ، ولم نزل نرسخ تفكيرنا على الذهنية المركبة والتفكير الذي يروج للشعارات والنصوص المؤدلجة والمسوغات المخيالية بعيدا عن المهارات والاعتراف بالأخطاء والاستفادة من التجارب .. ناهيكم عن الانقسامات وحدة التناقضات والثنائيات ! وازعم أن في كتابات فكرية لبعض المستنيرين أجوبة مفيدة لأسئلة يفرضها التاريخ علينا ليس لمعالجة التخوفات من المستقبل ، بل لإيجاد وسائل وأدوات وأساليب للخروج من مأزق مألوفات الحاضر المر . والسؤال : هل نسعى لإعادة أسئلة التاريخ برؤية مستقبلية ، فيما تنطلق دعوة ملحة اليوم في الأوساط المعرفية لتخليص الماضي من المستقبل وتخليص المستقبل من الماضي ؟
دعوني أقول بأن المجتمعات الواعية والشعوب المتمدنة لا تهرب من حقائق تاريخها ولا من فهم ثقافاتها ، بل نجحت في توظيفها من اجل بناء مستقبلياتها .. وعلينا أن نعترف بقصورنا الفاضح في الهروب من استكشاف أنفسنا وتواريخنا وتنوعات ثقافاتنا !! ثمة حقائق دامغة تواجهنا لا يمكن أن نهرب منها تحت ذرائع ومسوغات وحجج واهية مرة باسم التراث ومرة باسم المقدس ومرة باسم الادلجة ومرة باسم السياسات !! ذلك لأن أسئلة التاريخ مفروضة علينا شئنا أم أبينا ومزروعة بقاياها الموجبة وخطاياها السالبة في جوانحنا وأفكارنا وتصرفاتنا وحتى في لا وعينا !!
متى نتخلّص من الحكواتية ؟
وهناك اليوم خلط مبهم في المفاهيم والمصطلحات والمضامين والمعلومات حتى عند ابرز مفكرينا ، نظرا لضآلة معرفتهم وثقافتهم التاريخية والعامة ؛ وليس هناك أمة تحترم نفسها إن لم تفهم تاريخها وثقافتها ، أقول تفهمه ولا تقدسه ، وكم عزف ( التقدميون ) معزوفاتهم للجمع بين النقائض ورقصوا على مسألة التراث والحفاظ عليه ، وهي مسألة واهية وضعيفة كونها لم تؤسس على أساس من القطيعة المعرفية ! إن المشكلة عندنا غير محددة من أجل معالجتها ، فهناك أوساط ( معرفية ) لا تعالج بقايا التاريخ في الذهنية المسيطرة ! وهناك أوساط ( سياسية ) تنطلق من أفكار مؤدلجة مسبقة ! وهناك أوساط ( جماهيرية ) ترّبت على مفاهيم خاطئة ومختلطة وكلها لا تعرف غير التمجيد والمفاخرات واعتمادهم على الحكواتية ! وهناك أوساط لا تفهم من النزعة القومية إلا ( الشوفينية ) وبأسوأ ممارساتها الخاطئة ! وهناك أوساط من الناس يتلذذون بقراءة الأكاذيب ( والمفبركات ) الإعلامية الرائجة ! وهناك أوساط ( منعزلة ) تقفز على تواريخها بعيدا حتى عن واقعها وليس لها أية رؤية معاصرة بل تبقى في إسار زاوية ضيقة ومحددة ! واستجدت أوساط اليوم ليس لها إلا بناء الجدران الوهمية السامقة وإشاعة الرعب الديني والتطرف الأسود واستخدام كل المحرمات ! اننا فعلا ظاهرة صوتية ، لا نقرأ بقدر ما نسمع ، ولا نفكر بقدر ما نحكي .. الحكواتية ، مرض لعين ابتلينا به ، فالكل يحكون ، والناس يسمعون .. اما ماذا يحكون ؟ ليس مهما . وكيف يحكون ؟ ليس مهما . ويصل الحكواتي الى مستوى الهذيان عندما يسهب ويطنب .. عندما يفبرك ويكذب .. عندما لا يجد احدا يوقفه عند حده ، ليقول له : ما الثبوتيات ؟ ما المصادر ؟ ما الشواهد ؟ ما الاصول ؟
الحاجة الماسة إلى الصراحة والنقد والتفكيك والمكاشفات
لقد باتت الحاجة أن يتخلص التفكير العربي الراهن والذهنية المركبة من عبادة النصوص والشخوص والتغني بالأمجاد والمفاخرة بالبطولات إلى تأسيس القطيعة مع البقايا المستهلكة المرعبة والترسبات التاريخية الصعبة .. وهنا نسأل : هل نبتعد عن مجاراة الواقع ، وخاصة الرأي العام ، وهل من الخطأ ـ أيضا ـ قياس الغائب التاريخي على الشاهد الزماني ، ألا يعني ذلك أصلا إن إطلاق أسئلة بوجه التاريخ تضيف لنا معضلة إلى معضلة التاريخ نفسه ؟
أقول : إنها تعنى به من اجل المكاشفة تعرية لكل الموبقات وزيف المفبركات .. إنها تحرره وتطلقه! إن تاريخنا كما مضى ليس معضلة بحد ذاته ، إن المعضلة تكمن في ذاك الذي ما زال يحمله على كاهله صبح مساء . هذه الكتل البشرية التي تحمل ذهنيات مركبة من التراث والمعاصرة معا هي معضلة بحد ذاتها ! إن مجتمعاتنا قاطبة لم تتحرر أبدا من سطوة البقايا والترسبات فتأخرت كثيرا عن الركب وستبقى تلوك الغث والسمين وتجتر النصوص والشعارات باغتراب حقيقي عنها وعن الواقع ومن دون أي تفكير يثير أسئلة الذهن الحقيقية وإجراء حفريات نقدية فيه! لقد مضت قرابة ستة أجيال من حياة العصر الحديث في قرنين كاملين من الزمن وتحولات الواقع بطيئة جدا قياسا لما غدت عليه المجتمعات الأخرى التي لا تملك تواريخ ومواريث معقدة كالتي نمتلكها نحن .. معنى ذلك : أننا بحاجة إلى ضرورات مضاعفة من اجل ترتيب علاقتنا الفكرية والمعرفية من خلال القطيعة النقدية الفاعلة والمفاهيم المنهجية والفلسفية العليا التي لا تقف أمامها أية خطوط حمراء ! فمتى يحدث ذلك ؟ إنني احترم الرأي العام ، ولكنه لم ينشأ ويتربى أبدا على الديمقراطية ! ولهذا تراه يخرق القانون والعقيدة والنظام والحريات والإعلام باسمها ! لقد كان ولم يزل ترعبه السلطويات مهما كان نوعها سياسية واجتماعية وأيديولوجية ! ألم يحن الوقت ونحن في عصر ثورة المعلومات أن يثير نقديا أسئلة التاريخ والسياسة والمجتمع والفلسفة والأدب .. من أجل أن يتعلم التفكير المعرفي بعيدا عن المراوغة والتسويغ والتسويف والإطناب والتبرير والتزوير والمفاخرة والتمجيد .. ومن اجل أن يتخلص من مشكلة التلفيق التي تعلمها مؤخرا بين التراث والمعاصرة ؟؟
إن هذا ليس لوحده سر تخلفنا ؟
تقول فلسفة التكوين التاريخي ونظرية سلاسل الأجيال ، بأن مجتمعاتنا قد تأخرت عن الدورة الحضارية الحديثة بفعل ما صنعته بنا الأفكار الجاهزة والسياسات الداخلية والأيديولوجيات المستوردة واجترار الأفكار والمحددات ذات الخطوط الحمراء ناهيك عن التربويات الهزيلة والانغلاقيات على النصوص والمسجونات من المقتبسات التي علمت الرأي العام ليس كظم غضبه وكبت رأيه واللعب بعواطفه والاستخفاف بمبدعيه وآرائهم .. بل ودجنّته على الخوف من أي سلطة سياسية واجتماعية وإعلامية وعلموه هز الرؤوس وأن يقول نعم لكل ما يسمعه ويقرأه ، وان يقيم في محراب المدائح والتمجيديات والمفاخرة والتشبب والتقديس للماضويات وعلى الشوفينية والقطرية والعشائرية والتظاهرات الصارخة والشعارات .. الخ التي لم تعد تجدي نفعا بديلا عن النقد والحوارات والتواضع والجداليات والانفتاح الفكري وثورة المعلومات .. واليوم زاد الضرب على أوتار الماضي بسعي اغلب سياسات العالم الإسلامي عن إبعاد الجيل الجديد عن المعرفة المدنية وعن المؤسسات العلمية ، وأنها تساهم من حيث تدري ولا تدري بزج التراث مهما كان نوعه في التكوين العلمي المعاصر بعبادته وتقديسه بدل نقده وفهمه !
ما الذي يعلمنا إياه الدرس من ضرورات ؟
ينبغي اتخاذ سياسات جديدة ومستقبلية تراعى فيها المصالح الإقليمية والأمنية وتأسيس التكتلات الاقتصادية لتطوير مجتمعاتنا التي أنهكتها الحروب والصراعات السياسية والدكتاتوريات من اجل بدء عصر جديد يستطيع أبناؤنا التعامل مع العولمة الجديدة على أسس وقواعد جديدة وعقليات جديدة وقوانين جديدة ودساتير جديدة وتربويات جديدة .. أما إن بقيت الأمور كما كانت سائدة في القرن العشرين فستحل التفككات والانقسامات والانهيارات لا سمح الله .. ولا يمكننا فهم ومعالجة المشكلات المستقبلية لمجتمعاتنا بكل أصقاعه ومدياته من دون إدراك المجالات الحيوية فيه وطبيعة العلاقات البونية بين جزئياته المتباينة .
إن الحاجة باتت ماسة لتغيير جملة من المفاهيم الخاطئة التي سادت في القرن العشرين ، وان ذلك التغيير لا يمكن أن يتم من دون الوعي بقيمة الأجيال المتعاقبة كوحدات تاريخية صغرى وسماتها في عصرنا الراهن من اجل أن يكون لمجتمعاتنا شأن مهم في المستقبل .. وهذا يعتمد على ما ستفعله الأجيال الثلاثة القادمة في القرن الواحد والعشرين . فهل سيحدث ذلك بمنتهى السهولة ؟ إنني اشك في ذلك !
نشرت في مجلة روز اليوسف المصرية ، 8 اغسطس 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
شاهد أيضاً
مطلوب لائحة اخلاق عربية
تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …