في ظل الحالات المأساوية التي مرّ ويمر بها العراق ، لابد من وعي وطني جديد للعراقيين كلهم من دون استثناء ، فثمة ضرورات تفرضها علينا أوضاعه السيئة التي كلنا يعرف مدى ما وصلت إليه ، خصوصا عندما نعلم بأن العراقيين يضمخون بالدماء ، وهم يتطلعون للإنقاذ بعد أن تفجّرت تناقضاتهم بشكل لا يمكن تخيله أبدا .. إن العراق تلزمه وقفة كل أبنائه لإخراجه من المأزق الذي هو عليه اليوم .. بالرغم من أن الحناجر قد بحّت منذ سقوط النظام السابق ، وأصحابها يدعون إلى العلاج ، والى إتباع أقصى درجات الحيطة والحذر فضلا عن تشكيل مشروع وطني مدني بعد تردّي حالة كل الأجهزة والمؤسسات التي تعمل من دون أي اهتمام ، ولا أي نزاهة ، ولا أي وطنية ، ولا أي مراجعة ، ولا أي محاسبة ، ولا أي تفكير ، ولا أي ضرورات ، ولا أي مستلزمات ، ولا أي معالجات أو إصلاحات .. ناهيكم عن أولئك الذين يعملون على الانفصال ، وكأنهم لم يرضعوا من حليب العراق !
إن حالة العراق السيئة من كل النواحي ، لا يمكن أن يحلها أناس عاجزون مرتشون ، ولا يمكن السيطرة عليها بواسطة طاقم من القياديين الضعفاء ، الذين لا يدركون فن القيادة ولا الإستراتيجية ولا المناورة ولا معالجة الأزمات .. كما لا يمكن حل المشكلات والقضاء على التهور والفوضى والفساد والانقسامات إلا باستخدام القانون والقوة والضبط والقضاء من خلال حكومة مركزية .. ولا يمكن إشاعة الأمن والنظام إلا من خلال ضبط الإدارات والحدود وإعلان الأحكام الاستثنائية بحل المليشيات وجيوش الأحزاب والأقاليم .. ولا يمكن استئصال الإرهاب والقضاء على العنف ، إلا بحل كل ما له علاقة أساسية بالماضي .. فالمستقبل لا يمكن أن يكون مرتهنا لمن فشل في تجربته ، ودعا إلى الانقسام ، واخطأ في فرض دستور حمل تابوت العراق ـ كما وصفته في العام 2005 ـ .
لابد من المناداة بان ثمة حاجة أساسية وضرورة ملحة من اجل إسكات صوت الانقساميين والبدء بإعادة تشكيل الحياة السياسية على أسس وطنية بصيغة موحدة نظيفة وجديدة ، بدل كل ذاك الذي كان على امتداد أربعين سنة ، أو هذا الذي فشل في إدارة البلاد ، أو تلك التي تختفي تحت الأرض وهي تشعل نارا وتحيل العراق خرابا .. فضلا عن معرفة حجم التهديدات بحق السكان وأبناء العراق . فالتمردات ، ومشروعات القتل ، وزراعة الرعب ، وآليات الكراهية بحق هذا أو ذاك ، لا يمكنها أن تستمر أبدا ، وإلا نكون قد سجلنا نوعا فريدا من الهراء . إن العراق ، كما يبدو ، قد بلغ من الضعف والهزال درجة لا يمكن تخيلها . وهنا لا ينفع النفخ في قربة مثقوبة ، كما ولا ينفع وضع القادة في منطقة خضراء أو تحرك المعارضين على ساحة حمراء .. فضلا عن تسويغات المهرجين ، وشعارات المرتزقة ، والعراق يزحف نحو الفناء إزاء تصريحات من يذكي النار من الانقساميين لحروب أهلية أو إقليمية .
إن ما يجري اليوم في العراق لا يمكن تسويغه بخطاب مزيّف ، أو بمعلومات ملفقة ، أو بالإعلان زورا وبهتانا عن تطوره ! إن من يريد زراعة الأمل ينبغي أن يدرك حجم ما وصل إليه الفساد في العراق ، بعيدا عمن تجده يتغّني بالأكاذيب والتلفيقات والتهويل وهو لا يدرك المصير الذي ينتظرنا جميعا . إن جميع الشروط التي كان لابد لها أن تسهم في إعادة بناء العراق بعد سلاسل الحروب والآلام ، لم تتحقق لكونهم أرادوا جعل العراق مقبرة للإرهاب العالمي . وان يدفع بدماء أبناؤه كل يوم ثمنا سخيا لذلك . إن الإرهاب قد استباح كل ارض العراق ، وكان لجيران العراق أدوارهم وتدخلاتهم في غياب قوته ليس كدولة قوية ، بل كمجتمع متماسك افتقد بصره في حمأة الوغى ، وبات لا يدرك كيف يحافظ علي وجوده . والمصيبة أن بعضا من أبنائه وأحزابه لم يعد تهمه مصالح العراق الحيوية والعليا ، موثقا علاقاته وروابطه وعواطفه من هذا أو ذاك أو تلك . فهل يمكننا أن ندرك قليلا حجم المأساة ؟ إن الاحتلال سيرحل عاجلا أم آجلا ، وسيبقي العراق بعيدا عن الاعمار ، وبعيدا عن الطمأنينة والأمن ، وبعيدا عن التطور ، وبعيدا عن خلق المنظومات الحضارية .. فكيف يمكن للحلم أن يتحقق مع وجود قوى وشراذم تعمل من اجل الانقسام وتفكيك العراق ؟ لقد أخطأت الولايات المتحدة كثيرا في سياساتها البليدة والتي رعت الانقسامات والمحاصصات التي تصفق لها طوابير خامسة وسادسة في العراق نفسه ..
وأخيرا، يبدو أن الانقسامات السياسية في العراق اليوم وليدة انقسام بين من قال ” نعم ” للدستور العراقي وبين من قال ” لا ” له ! انه انقسام أساسي خطير وحقيقة عراقية كبرى ولا أظن ذلك يمثّل وضعا من الديمقراطية في شيء ، بل ينطلق من اختلافات حول المواقف والمعاني للاستحواذ على الواقع الانقسامي والسلطة بأي ثمن .. وقت ذاك ، قلت أن الانقسام حول الدستور سيؤثر على سيرورة الواقع السياسي في العراق ، ليس نحو الأحسن ، بل اعتقد انه سيمضي نحو الأسوأ ! ووعى الناس بعد جحيم 2006 و 2007 أن دستورهم بحاجة إلى إصلاحات ، في حين أنني أصّر على أن العراق بحاجة إلى دستور مدني وطني من نوع آخر ! إنني أطالب بإعادة طرح هذا الدستور على الناخبين العراقيين في الانتخابات القادمة للتصويت من جديد ، من اجل تشكيل دستور حضاري جديد يليق بالعراق بعد أن فشل الدستور الحالي ، وهو يأخذ بخناق العراق يوما بعد آخر !
نشرت في البيان الإماراتية ، 22 يوليو 2009 ، ويعاد النشر على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
شاهد أيضاً
نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين
ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …