” غطّيني يا صفية .. مفيش فايدة “
سعد زغلول
كانت الديمقراطية قد طرحت في اجزاء مهمة من منطقتنا بعيد مؤتمر الصلح بباريس عام 1919 .. لا كما تقول الباحثة الدانماركية بريجيب راهبيك في كتابها الجديد الذي حرّرته بعنوان ” حركة الدمقرطة في الشرق الاوسط : مأزق وآفاق ” اذ أدعّت بأن الديمقراطية طرحت عند العرب في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي بواسطة الأحزاب والقوى التقدمية العربية . وانا أقول بأن العرب عرفوا هذا المفهوم السياسي وتياره وتاريخه منذ بعيد الحرب العالمية الأولى ، وانه وجد نموه وتبلوره حتى منتصف القرن العشرين ، لدى الأحزاب الشيوعية ، كما وان الاستعمارين البريطاني والفرنسي لم يبخلا على العرب والأتراك والإيرانيين بل وحتى على الهنود وغيرهم من شعوب آسيا وإفريقيا بتأسيس مجالس بلدية ومجالس ادارية منتخبة لهم انتقالا الى مؤسسات تشريعية عليا منتخبة .. وبالرغم من تعثّر تلك التجارب ، الا انها كانت لها القدرة على التطور البطيء ، فنجحت الهند ( لبقائها دولة مستقلة في حزام الكومنولث ) وفشل العرب بعد أن تلاعبت بهم الحرب الباردة والانقلابات العسكرية .
ان التدخلات الأمريكية بإحداث سلسلة انقلابات عسكرية تحت غطاء ” الثورات ” على النظم القديمة قد أوقف العملية الديمقراطية برغم هزالها وبؤسها ونحرها على امتداد القرن العشرين من قبل حكومات عسكرية او فاشية ضمن اطار الحرب الباردة التي وقعت المنظومة العربية تحت وطئتها مباشرة .. بل راحت الولايات المتحدة تدعم كل الأحزاب القومية والدينية للوقوف ضد الشيوعية العالمية وبذلك ساهمت باحداث الفوضى والاستبداد من طرف ، وغرس التراجع عن المفاهيم السياسية المدنية الحقيقية التي كان الاوائل قد بشرّوا بها ..
توظيف ” الديمقراطية ” شعارات ودعايات :
لقد بقيت القوى الليبرالية والقومية والشيوعية بالرغم من كل تطبيقاتها السياسية المتهافتة تطرح موضوع ” الديمقراطية ” كهدف أساسي من أهدافها ، ولكن الغرب كله ( وخصوصا الامريكان ) لم يعرها أي اهتمام ، بل راح يدعم الأنظمة الاستبدادية الحاكمة لأنه بقي مشغولا ومهووسا بأحادية مواجهته للخطر الشيوعي الذي يمثّله الاتحاد السوفييتي وحلف وارشو ! واعتقد ان الانظمة السياسية التي بقيت على علاقات قوية ببريطانيا ، ظلّت هادئة ومستقرة ومتوازنة. في حين نضجت ، بتشجيع امريكي ، تلك الحركات الاصولية وخصوصا بعد الثورة الدينية في إيران عام 1979 ! وبعد اكثر من عشرين سنة على تلك ” الثورة ” تفجرت ضربة 11 سبتمبر 2001 القاسية . وهنا تغّيرت الامور رأسا على عقب في سياسة الولايات المتحدة ، اذ أحسّت انها السبب الذي احال المنطقة الى ما يشبه البركان .. فبدأت تنادي بدمقرطة المنطقة ضمن اجندة سريعة ليست مبرمجة ولا معقولة ، وكأن الامر يمر من دون أي تحولات تاريخية .
نعم ، لقد غّيرت الولايات المتحدة سياستها وابتدأت تتحدث عن دمقرطة الانظمة العربية المستبدة التي وّلدت مثل هذا الحركات الاصولية المتطرفة في احضانها وعلى ارزاقها .. وجاء التغيير على ايدي القوات الامريكية ومن تحالف معها في بلدين اثنين : افغانستان والعراق . ومن سوء ما يفكّر به ( الديمقراطيون العرب ) الجدد هو نفسه المستعار من الجمهوريين الامريكيين الذين بدءوا حملتهم من اجل دمقرطة دول الشرق الاوسط .. من دون معرفة البيئة الاجتماعية وتناقضات التفكير وازمات التغيير . انهم يطرحون المسألة الديمقراطية وكأنهم يطبخون طبخة سريعة ليوزعوها على الجياع ! فلا يمكن ان تبدأ أي عملية سياسية ديمقراطية في ظل اوضاع سيئة للغاية ، ولا يمكن تشريع دستور بسرعة بالغة وفي ظل اجندة ايديولوجية يناقض احدها الاخر .. ان هكذا حالة من الفوضى سيتولد عنها الجحيم بعينه بسبب ما نتج من مؤشرات تذكي الصراع وتشعل الواقع !
والمشكلة في الغرب انهم يعتقدون بأن ما يريدونه سيطبّق مباشرة ومن دون أي اخفاقات .. والمشكلة عند العرب ـ مثلا ـ انهم يعتبرون انفسهم في مصاف الغرب ( او بالاحرى : العالم المتقدم ) اذ يقبلون املاءاته عليهم من دون أي عقل ولا أي منطق . بل واصبحت الولايات المتحدة تطلق جملة من المعلومات والمفاهيم الخاطئة التي لا تتفق ابدا وحقائق الجغرافية والتاريخ والواقع من اجل تمرير خططها في الديمقراطية السريعة .. ان الديمقراطية الحقيقية بحاجة الى عملية سياسية واعية وذكية وان أي عملية كهذه لا يمكنها ان تتطور الا في ظل اوضاع امنية غاية في الاستقرار والاعتماد على كل الاطياف الوطنية في حوارات لا تؤجج المشاعر وتصريحات لا تشعل القلوب ولا تجرح الاحاسيس . ولا يمكن ان تجرّب حظوظك في الديمقراطية الا من خلال مؤسسات سياسية مدنية لا من خلال مرجعيات دينية او طائفية ولا في ظل ولي فقيه واولياء امور واوصياء وزعماء ما ان يصلوا السلطة حتى يعتبرون انفسهم جبابرة ويتوهمون ان الارادة الالهية قد اختارتهم لهكذا مناصب .. فيتشبث بها المساكين باسم الديمقراطية !
الاصوات لمن ؟ للبرامج ام للشعارات ؟
ان المشكلة ليست بالرأي العام الذي يريدونه يبصم من دون أي دراية ولا عقل ، بل انها ابشع عملية من استغلال عواطف المجتمع القبلية ومشاعر الملايين الدينية او تعصبات البعض الطائفية .. انها – ايضا – مشكلة ساسة وكتاب والاف من اعلاميين واشباه مثقفين ولكنهم جميعا يتحذلقون ذات الشمال وذات اليمين تبعا للاهواء فيميلوا حيثما مالت كفة هذا او رجحت على حسابها كفة ذاك .. انهم يضحكون على انفسهم قبل ان يضحكوا على العالم عندما يقولون بأنهم اصحاب حضارات ، بل ويقيسون انفسهم كونهم يعيشون آخر ما وصلت اليه المجتمعات السياسية المتقدمة .. وهم يدركون مدى التخّلف الذي تثوى فيه مجتمعاتهم التي تعيش تفكير العصور الوسطى ! انهم يدركون جيدا بأن العلاقات السياسية والاجتماعية اشبه بحياة الغاب . انني لست ضد من يغّير مواقفه وافكاره بتأثير الحرية وان يغدو مروّجا للديمقراطية .. ولكنني لا اتخّيل من ينقلب على عقبيه وقد اختار صراعات الطائفية بديلا عن صراع الطبقات !
الديمقراطية العربية .. بحاجة الى اجيال واجيال !
ان مشكلة الديمقراطية اليوم تتوزع على جميع القوى والتيارات وانها قد اصبحت اداة سهلة للشغب والانقسامات والانشطارات والتشظيات والاحقاد والكراهيات .. كونها رائعة الاهداف والمعاني ولكنها سيئة في التطبيق وانها قد خلقت ازمات في داخل بنية الحزب الواحد .. فلا يمكن ان يتخّيل العالم حزبا عريقا جدا مثل حزب الوفد الليبرالي العتيق بمصر وهو ينقسم فجأة على نفسه ويتشظى ليستخدم الرصاص بين اعضائه !! ربما يقول قائل ان تجارب برلمانية وحزبية في انحاء شتى من العالم قد حدثت فيها هكذا انشقاقات . اقول : بلى ، ولكن قد يحدث هذا حتى الضرب بالاحذية وتبادل الشتائم بين حزبين اثنين او بين اكثر من اتجاه واحد ، ولكن ان تصل لدى اعرق حزب ليبرالي درجة اطلاق النار وسقوط قتلى وجرحى فهذه تجربة بليدة بحاجة الى وقفة تاريخية طويلة ..
بل الانكى من ذلك كله ما حدث في بلدان عربية مثل : الجزائر والعراق ولبنان .. ان تصل درجة الاختلاف السياسي الى القتل والنحر والتفخيخ كي نجعل العالم يقف مندهشا على هكذا تجارب نخوضها باسم الديمقراطية .. وان ذلك يستدعي الى اكثر من وقفة لاستعادة ما يقف من عوائق حقيقية بوجه تقدمنا وكيف باستطاعتنا ان نفتتح الابواب الموصودة التي ليس من السهولة ان تتحرك .
واخيرا : ما العمل ؟
اعتقد ان مخاض التحولات لا يمكنه ان ينتهي بسرعة من دون اثمان تدفع من قبل المجتمع وعلى مدى زمني ليس بالقصير ابدا .. ومن اجل اختزال الزمن ، ينبغي تسمية الاشياء والمعاني باسمائها واعتماد من يدرك ذلك ليكون مرجعا ، وان يسمع كل المسؤولين لما يقوله الرأي العام وما تقترحه النخبة .. لابد ايضا ان تتغير المناهج المدرسية والجامعية بما ينتج من تشكيلات نوعية جديدة لجيل جديد سيكون محو العملية الديمقراطية وسيرسخ تقاليد واصول سيتبعها من يأتي بعده .. ان هكذا مقترحات لا يمكن وصفها بالطوباوية عديمة التحقق ، اننا ان شئنا ام ابينا فلابد ان تمر مجتمعاتنا بهذه المستلزمات .. ان الديمقراطية يمكنها ان تتعثّر لاسباب مباشرة ام اسباب غير مباشرة . ولكن لا يمكن لمنطقتنا ان تمضي في تجاربها الخاطئة كما الفنا ذلك من دون ان تتعلم من تجارب الشعوب الاخرى .. فضلا عن ان الديمقراطية اذا كانت بداياتها صائبة فان ستكون صائبة في سيرورتها التاريخية نحو المستقبل .
نشرت في مجلة روز اليوسف المصرية 18 يوليو 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com