المعزوفة الساذجة
معزوفة مصطلحية اشاعها (التقدميون) العرب في القرن العشرين . واندلعت الثورات ، وتفجرت الانقلابات ، ورفعت الشعارات ، وحلت الحروب الباردة .. وكلها بأسم القضاء على ” التقاليد البالية” والرجعية والعملاء ! نعم ، مضى زمن صعب جدا ، وأخفق التاريخ اثر سكونية ماض عقيم . مضى الزمن الحديث عاجلا ، وأصحابه يدورون حول انفسهم ببطء شديد ، فلا تقدم نوعي حدث ، ولا تطور مدهش وقع ، ولا عدالة اجتماعية حصلت إذ ما زال الناس تعيش مأساة تخلف مريع ، وأمية طاغية ، وأوهام تقاليد ، وتقديس مواريث : سياسيون يجترون ، وأحرار قليلون ، ومتعلمون لا يقرأون .. مثقفون مضطهدون ، والناس جوعى وقد استلبت إرادتهم .. الوعي مكبوت ، والتفكير في إجازة دائمة ، والعمل معظمه بطالة مقنعّة ! العلماء يقتلون ، او يسجنون ، أو يهجّرون ، أو يلوذون بالصمت الرهيب أمام أجهزة كاتمة للأصوات ! تكافؤ الفرص منعدم نهائيا ، فكل الاذكياء مبعدون ، وكل الاغبياء هم من الطفيليين الجدد ، صناع المصائر والقرارات ! هل يعقل ايها الناس ان يحكم على البحث العلمي في مصر بالاشغال الشاقة المؤبدة في مثل هذا الزمن ؟ انها حالة مرعبة مفجعة حتما !
من يقف وراء سلوكيات موروثة ؟
لم تزل ترسّبات الماضي تتحرك في الأعماق : سكونيات ، وتواكليات ، وسذاجات ، ومستهلكات ، ومزدوجات ، واستعراض ذات وعضلات ، نرجسيات ، واكذوبات ومعتقدات بالسحر والشعوذات والاوهام .. وكل السلوكيات السالبة تكمن في اللاوعي الجمعي وهي تميل إلى حيث البلادة والتغابي عن جميع التحولات ، ومستحدثات التفكير التي غيرت العالم والكون والحياة .. وقد توالد جيل جديد يحمل ، ويا للاسف ، كل المواريث السقيمة التي تربى عليها وعلى قيمها القمعية .. التناقضات تحكم كل التصرفات ، وتهيمن على التفكير والحياة من اصغر الاشياء وأدقها الى كبرى الامور ! لقد ساهمت دولنا ، وانظمتنا ، وسياساتنا ، واعرافنا ، وعاداتنا ، وتقاليدنا في ذلك كله ، فتأخرنا كثيرا عن ركب العالم.
محاولات القضاء على الاشكال لا المضامين !
قرارات رسمت ، وصحف صدرت ، وبيانات أذيعت ، وكتب نشرت ، وشعارات رفعت ، وموجات جماهير هتفت وصفقّت .. دون جدوى ! كانت تصّرح دوما انها ” ستقضي على كل أشكال التخلف ” ، ولكنها لم تقل يوما انها ” ستقضي على كل مضامينه ” ، فأخطأت! أنها برغم صدق نواياها ، خطابا ، وأدلجة ، ودعايات ، لكنها حملت ثقلا من سلوكيات ماضوية عقيمة ! والأمر لا ينحصر عند العامة من الناس البسطاء الساذجين ، بل يصل إلى قادة ، ونخب ، وجماعات من متحزبين : احرار ليبراليين ، وماركسيين يساريين ، وقوميين ثوريين .. وصولا الى مثقفين ومفكرين يعيشون حتى يومنا هذا ، ازدواجية التفكير والتصرفات ، وثنائية المقاصد والغايات ، وعقم الماضي وتناقضات العصر!
الثنائية والانقسام والسكونية : ميراث خفي خطير
قبل أكثر من 25 سنة ، كتبت قائلا : بأن سر تخلف العرب ، وسر جمودهم ، دولا ومجتمعات يعود الى ما هو كامن في واقعهم اليوم ، والى ما هو مترسّب في تفكيرهم عن العصور السكونية التي سّماها طه حسين بـ ” العصور المظلمة ” ، وقد خالفته في تسميته لأن ” السكونية ” غير ” الظلمة ” .. واعتقد ان ذلك وهذا ، هو سر أزمة كل من الواقع والتفكير العربيين المعاصرين ، سواء ما يخص الاحوال السياسية والاجتماعية ، وما كرسّته الدولة ضد المجتمع ! وقد بقيت الامراض التاريخية التي حاول عدد من المصلحين علاجها دون طائل ، فترسبت هنا وهناك آثارها في اللاوعي الجمعي . ومن غرائب الأحوال أن تستمد الاجيال المعاصرة ، نزعاتها الخفية من تلك المؤثرات التي تتلبس الدين تارة ، والسياسة تارة أخرى .. أو تتمثل الهوية ، او الانتماء في ظل انتعاش شوفينية كريهة ، او اسلام سياسي قاتل في مجتمعات ساخنة ، مؤهلة للدمار !
أمثلة حية من الترسبات المتجذرة :
اذا كانت ” الاشكال ” ، و” الرموز ” ، و” الالقاب “.. قد ذهبت مع الذاهبين ، فان ترسبّاتها وبقاياها متجذرة في تفكير الدولة والمجتمع معا .. ان كل ما فعلته القرارات ، والاحكام ، والكتابات ، والشعارات ، وأفلام السينمات ، والقصص والروايات .. إنها ألغت ” الأشكال ” ، ولكنها أعادت انتاج المضامين باثواب مهترأة ! كيف ؟ مواريث ماضوية سكونية بالية تسكن اعماق المجتمع ، صحيح ان الطرابيش افتقدت من مصر ، ولكن الألسن ما زالت تلوك ألفاظ البهوات والابلات والهوانم والباشوات .. يا فندم .. يا تيزه ! . وفي الجزائر ، مضى أكثر من 175 سنة على تجربة الأتراك الدايات فيها ، ولما تزل المؤسسة العسكرية تعيش مضمون الاوجاقات الصارمة . وفي تونس ، اينما ذهبت تلاحقك صور قدماء البايات وعماراتهم وسياساتهم .. وفي العراق ، مزيج من سلوكيات ، وعادات ، ومقامات ، وحكايات تسلط باشوات حكام صارمين مرعبين! وفي لبنان ، مطابع ، وحداثة ، وتأورب ، وعلمنة ، وسياحات منذ عهد بعيد .. ولكن لم تزل هناك عمامات سوداء ، ولفّات بيضاء يعتمرها الرجالات ، أو طرابيش حمراء تنتصب فوق رؤوس مطربين وراقصات .. وفي السودان ، استحلى القوم الاردية البيضاء ، والعمامات الكبيرة بعد زمن النضالات ، ولم يجنوا من السياسات كسرات خبز ، بل تقلبات الجنوب المنعزل ، وتهتك دارفور ، ومواسم الهجرة الى الشمال . وفي سوريا ، اندفعت زعامات العساكر تتمرد كالانكشارية هنا في سلسلة انقلابات .. ومن الجزيرة العربية انبثقت تناقضات العصر في ابنية زجاجية على الرمال ، وفي اليمن ، قبائل قديمة يصعب ضبطها ، واصطراعات محلية ، وعادات حمل السلاح ، واختطاف اجانب وتلذذ بالقتل !
هل ستتغير المضامين القديمة في القرن 21 ؟
لم تتخلّص الذاكرة العربية حتى اليوم من جملة الادران الماضوية ، حبذا لو بقي ما هو مستأنس ومتوافق مع العصر في تفكيرنا وسلوكنا ، ولكن ينبغي تجديد القوانين ، وانبثاق دساتير مدنية ، وترسيخ التعددية بديلا عن الاحادية ، والشفافية بديلا عن الشمولية ، وتتحقق الحريات بديلا عن الممنوعات . لم يزل التعليم يعشش تحت طربوش او عمامة ، ولا يرجى منه فائدة ، فالجامعات مجرد كتاتيب وكافتيريات ، وكل شيىء مشوه في المدارس الابتدائيات والثانويات .. استنساخ ، ومسوخات ، ومسلوخات من كتابات ، لا فلسفة ولا منهج ، بل مجرد إنشائيات ومقتبسات .. لم يستفد العرب من الرواد النهضويين الاوائل بعد ان جددوا ذاكرتهم ، وحدثوا تفكيرهم . وعليه ، لابد من ادراك أن المثقف الحقيقي ، هو انسان حيوي ، يغدو منتجه الفكري او الفلسفي ، اداة حقيقية لتغيير الواقع بتجديد التفكير وتطوير الاساليب . فمتى يترك العرب أوهامهم وينقطعوا عن مخيالهم وعاداتهم أوهامهم ، ويعيدوا تفكيرهم ، وينتهوا من عقم شعاراتهم .. ؟ فهل بعد كل التجارب التاريخية المريرة من دروس وعبر !؟؟
حاجة مجتمعاتنا الى الوعي الجديد
إن الحاجة باتت ماسة في ان نرّسخ الوعي الجديد لدى الانسان .. وان يتشبّع بثقافة الزمن ويدرك لزوم التفكير بهذا العصر ومخاطره .. هذا العصر وتشيؤاته .. هذا العصر وفلسفاته .. هذا العصر ومنجزاته .. عليه بثقافة الاعتناء بالجيل الجديد ، والتفكير معا في الحياة ومستلزماتها ، فهي مهملة ومحتقرة في مجتمعاتنا التي عاشت ، ولم تزل ، شديدة العداء لهذا العصر .. ان مجتمعاتنا غارقة في التخلف ، ولا يمكنها ان تحرّك تفكيرها ابدا ، فهي منغلقة بشكل لا يمكن تخيله ! وهي مكبوتة عن فرص التحضر السانحة ، وهي غير مطلوبة في مجتمعات قابلة للحياة .. ، وسريعة في تصفياتها للمتخلفين والمتكلسين والمتأخرين .. بل وان هناك نوعية من بشر لا يهتم ، ابدا لا بجسده ، ولا بنظافته .. لا باسلوب حياته او اسلوب كلامه .. او اسلوب محاورته .. انه انسان غير منتج اليوم بعد ان كان من اهم المنتجين قبل عشرات السنين . ان علاقة كل انسان بتفكيره واسلوب انتاجه ينبغي ان تأخذ لها فلسفة جديدة عبر المظاهر الاجتماعية والثقافية والتكنولوجية الحديثة ، وبوعي لجماليات الحياة بدل ان يبقى كئيبا او نادما او متحسرا او مكبوتا . هنا لابد ان تتماثل المستحدثات العربية مع الطبيعة وتتحد معها وفيها ، ليس فقط فى قيمتها ولكن ـ أيضا ـ فى صفاتها ووظائفها . فهل سيتمكن الابناء العرب من ازالة أي ترسبات من تفكيرهم وحياتهم ، لكي يبدون متناغمين مع كل هذا العالم ويخلقون الانسجام الرائع بين الطبيعة والحياة ، وبين الكون والحياة .. نتمنى حدوث ذلك في يوم من الايام لأناس عليهم ان يغتسلوا كل يوم وان يصادقوا تفكيرهم دوما ويمارسوا ما يحتاجه انسجته من رياضة ، فالكسل عدوه ، وان يتمتع العقل بكل ما هو عطر ورائع ، كما هو المحافظة على النفس .. انها صدقا اشياء جميلة للعالم.
نشرت على الف ياء الزمان ، 12 تموز / يوليو 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
شاهد أيضاً
مطلوب لائحة اخلاق عربية
تعيش مجتمعاتنا العربية في حالة يرثى لها، لما أصابها من تفكك سياسي جعلها تتمزق اجتماعيا، …