المشروعية مع من ؟ ارادة شعبية ام اجندة حزبية ؟
العراقيون كلهم كانوا عراقيين في القرن العشرين ، وسواء كانوا عثمانيين أم ملكيين أم جمهوريين ، فذاك هو نظام حكمهم .. وأنهم عراقيون بالرغم من كونهم عربا ، أو كردا ، أم تركمانا ، أم سريانا ، أم كلدانا ، أم آثوريين ، أوشبكا ، أو فويليين ، أو صبة مندائيين ، أو أرمن وكاكائيين .. إنني اعرف كما يعرف الجميع كم كان العراق بمثابة شجرة وارفة الضلال ، وقد غدا اليوم عند المتحزبين والمتعصبين مجرد ورقة توت لستر عوراتهم ! وان كانت ثمة مبادئ للشيوعيين ، فليس كل العراقيين بشيوعيين ، وان كانت ثمة مبادئ للبعثيين والناصريين والقوميين ، فليس كل العراقيين بقوميين أو بعثيين أو ناصريين .. وان كانت ثمة مبادئ للإسلاميين : إخوانا أم دعويين أم مجلسيين أم سلفيين .. ، فليس كل العراقيين بإسلاميين وهكذا ، بالنسبة للكرد العراقيين ، فان كان هناك حزب بارتي في كردستان ، فليس معنى ذلك أن كل الأكراد كانوا بارتيين .. واليوم ، حتى وان كان هناك حزبان يحكمان بعد تحالفهما واجتمعا بمبادئهما ، فليس معنى ذلك أن الأكراد جميعهم في كردستان باتحاديين أو ديمقراطيين ! فما يطرح اليوم من قبل الحزبين لا يمّثل إرادة كل الكرد العراقيين . كان من من المضحك اليوم أن تجد البعض من العراقيين يتصارعون على ارض لا يريدون أن تكون عراقية، بل يعتبرونها أراضي مسلوخة، أو أنها قد سلخت منهم! متى سلخت وأرشيف التاريخ يشهد بتبعيتها وملاّكها وساكنيها منذ القدم!؟ ويعلمنا – أيضا – لمن كانت تبعيتها؟ إلى أي دولة؟ والى أية خرائط؟ والى أية مراكز ومدن؟!
العراق : خلطة سكانية رائعة
من اكبر جنايات التاريخ بحق هذه الأرض ، أو تلك المدينة، أو ذاك الشط ، أو هذه القصبات .. أن تقول بالأكثرية والأقلية ونحن ندرك كم استمر نزوح العراقيين من هنا إلى هناك على امتداد عمر الدولة العراقية المعاصرة. ان في الدول المتقدمة ذات النظم الفيدرالية ، مثل كندا وسويسرا ، للمواطن الحق في أن يعيش ويستقر أينما يريد دون من البلاد بلا أي مسائلة أو معارضة ! ما دمنا نؤمن بالعراق لا بغيره ، فكل شبر عراقي هو ملك لكل العراقيين. لماذا تصبح عملية استيطان مدينة ما جريمة من الجرائم، وتغدو عملية نزوح واسعة النطاق إلى العاصمة حالة طبيعية؟ لماذا لا نسأل عن أسباب تلك الحركة وذاك النزوح وهذا الاستيطان في كل المجتمع العراقي؟ هروب ألاف الموصليين إلى بغداد عام 1959 وما بعدها ؟ نزوح أهل الصرايف إلى ما حول بغداد من كل جنوب العراق ، وخصوصا من العمارة والناصرية ؟ من أين أتى الكويان والشقاقية وأهل تنّه وغيرهم ليحلوا بالموصل في شمال العراق؟ قبائل بدوية تنزح حسب المواسم عبر البوادي العراقية والسورية والسعودية .. القرج والكاولية على أطراف المدن الكبيرة .. كان العراقيون ينزحون من مكان إلى آخر بإرادتهم.. ويسكنون قرب المدن بإرادتهم. باعتبارهم يتحركون على ارض وطن واحدة موحدة بلا مساءلة، ولا ملاحقة. لم يعرف العراقيون أن بلادهم هي مجموعة جزر متفرقة ، أو مقاطعات ، أو دوقيات. ولم يتخيلوا يوما أن يأتي احدهم ليصف بعض قسمات بلادهم بـ “مناطق مسلوخة”! وما كانوا يدرون أن مدنهم كلها ، أو بعضها ليست عراقية! لقد فتح العراقيون أبوابهم لكل النازحين والمهاجرين واللائذين به من دول الجوار، ومن دون أية حساسيات، بل كان الاندماج واسعا وكبيرا على مختلف العهود السياسية.
ارشيف التاريخ قبل تزوير الجغرافية
دعونا نسأل: هل نحن نؤمن بالعراق أولا، ونؤمن بروح العصر ثانيا، حيث لا فوارق بين الأطياف الاجتماعية والثقافية في أي تجربة حضارية (فيديرالية)؟ أم نحن ضد العصر حيث نزرع الفوارق العرقية، ونخلق الصراعات من اجل حدود لا وجود لها أبدا في أرشيف التاريخ لكي نجزئ العراق تحت يافطة الفيديرالية؟ وهل كان ما يسمى بـ ” المتنازع عليها ” ، أو ” المسلوخة ، ” أو المقتطعة ” تمثّّل حقيقة ذلك كما كان حال الالزاس واللورين؟ هل من الحق أن نخلق لنا مجموعة من الجغرافيات الداخلية الشبيهة بدوقيات العصور الوسطى الأوربية بحيث يتصرف أمراؤها على هواهم، ويصدقون ادعاءاتهم، فليس في التاريخ “وثائق ” يمكن الاعتماد عليها أبدا في مختلف دعاويهم المختلقة ! وهل نحن أسوياء نسعى لخلقها اليوم من العدم، ونبقى نحمل ورقة توت عراقية أمام الآخرين؟ إن من أسهل الأمور أن تزيّف هذا الواقع الفاسد والمتشظي بكل انقساماته، ولكنك لا تستطيع أبدا تزوير أرشيف التاريخ، خصوصا، ونحن نعلم ما الذي كان قبل خمسين سنة من اليوم ، وما الذي صار إليه الواقع ، بفعل نزوح السكان العراقيين كالجراد إلى أمكنة محددة بالذات دون أماكن أخرى، ولنا في بغداد العاصمة اكبر مثال على ما أقول، بحيث جذبت أبناء السهول والشواطئ والجبال والبراري والقفار والاهوار إلى أطرافها أولا، ومن ثم إلى أحشائها ثانيا! إن ما جرى في بغداد، جرى مثله أو أتعس منه في كل من الموصل والبصرة وكركوك بشكل خاص.
العراق هوية وقضية : انسانا وترابا
إن كان لنا عراق حضاري في يوم ما، فقد كان من صنع كل المنتجين والمبدعين والأوفياء الذين التصقوا بحياة العصر وآمنوا بوحدة شعب العراق، واستلهموا كل معاني أرشيف تاريخ العراق، وتحركوا على كل تراب العراق من دون أن يميزوا هذا الشبر منه عن ذاك، إلا من أراد الخروج عن إرادة وطن. ولقد أصبح معروفا للجميع بأن عراق التوحش والغاب لم يكن من ورائه إلا ارتال المستبدين والمتعصبين والغلاة المتحزبين ليصنعوا فجائع التاريخ على أيدي ميليشياتهم الخضراء ، أو الصفراء، أو الحمراء. أسأل: إذا لم نكن نؤمن اليوم بالعراق وطنا وإنسانا وهوية وترابا، فما القضية ؟ ما موقفنا من كلّ الذين ضحوا بدمائهم وأنفسهم ووجودهم من اجله على امتداد خمسين سنة مضت وانقضت؟ إذا كان هناك من لم يؤمن بهذا، فكيف يمكنه التعايش معي على امتداد المستقبل؟
إذا أتى اليوم من يقول إن في العراق مناطق مسلوخة، والقائل أخ احترمه واعتز به كثيرا، فماذا سيجيب الشعب العراقي على هذا التصريح الجارح؟ وهل تنفع تصريحات جارحة كهذه في زمن نحن أحوج ما نكون إلى العقل والحلم والصبر والمشاركة والمرونة لا إلى إثارة التشنج والكراهية وإشعال العواطف المتمردة. خصوصا ونحن نعلم بيد من مقاليدنا جميعا؟! أن من ذهب للحروب ودفع ضريبة دمه المراق على تراب العراق هو غير ذاك الذي لم يخدم جنديا بحجة ارتباطه بجماعات أسموها الفرسان ، وهم آلاف مؤلفة !
من يسلخ من؟ ومن يريد سلخ العراق؟
إذا كنتم تسمونها مناطق مسلوخة أو مقتطعة. فمن مّن سلخت؟ ونحن ندرك تاريخ العراق العثماني على امتداد أربعة قرون، ونعرف ولايات العراق وتبعية مناطق كل ولاية من السناجق والاقضية والنواحي. نحن ندرك دور أي مدينة عراقية في التاريخ الحديث وأعداد سكانها والتحولات الديموغرافية التي أصابتها. نحن ندرك أن دعاوى كهذه لم تكن موجودة في الماضي على أيديكم أنفسكم. فما السبب في أحيائها اليوم؟ نحن ندرك أن أهم تعداد ديموغرافي للعراق جرى في العام 1957، فلماذا لا يتم الاعتماد عليه لمعرفة الأشياء والحقائق؟ نحن ندرك أن ليس هناك منطقة عراقية واحدة من شماله حتى جنوبه لم تختلط الناس عليها على امتداد عشرات السنين. نحن ندرك أن مناطق معينة في مدن عراقية معينة امتلأت بالنازحين من كل الجهات بعد إن كانت فضاءات برية واسعة، فكيف نأتي اليوم لنطالب بمثل هذه المدن كونها مناطق مسلوخة؟
ان العراق يخوض اليوم صراعا من اجل أن يكون كما كان عليه على امتداد التاريخ، أو لا يكون من خلال من لم يؤمن به أصلا! إن العراق الذي استعصى على التقسيم كل هذه السنين، ومنذ العام 1991 مقارنة بغيره من الدول التي انقسمت وتفككت، سيبقى مصيره معلقا حتى يدرك كل العراقيين إن إرادتهم جميعا هي التي تصنع منهم شعبا لا شعوبا، ووطنا لا أوطانا، ولا يمكن أن يستقيم أمره الا مع مشروع عراقي وطني موّحد، وهو يعيش في قلب مجال حيوي، ويجاور دول إقليمية لا يستهان بها.
وأخيرا : ستبقى الشجرة .. وتختفي أوراق التوت !
إن العراق لا يمكنه أن يعيش مجزأ بأي صيغة يريدونها، فالأجزاء ستكون حتما طعمة للافتراس. وان التاريخ يعلمنا كم هو حجم المفترسين إزاء العراق. إن العراق لا يمكن ان تسيّره بعض الأحزاب التي لا تؤمن أصلا بالعراق والعراقيين. فالشعب في أي مكان سيبقى يرتبط بالأرض والجغرافيا لا بالأحزاب وقادتها. والمجتمع سيبقى يحمل موروثه التاريخي والثقافي وسيكون ذلك أقوى بكثير من أية أجندة سياسية هزيلة. إن العراق كان وسيبقى يعاني من الصراعات الداخلية حتى يدرك الشعب العراقي أن لا خيار له الا مشروع عراقي موحد يجمع إرادتهم في اتجاه المستقبل. ولا خلاص له الا بتغيير مجمل المسار السياسي الذي يتخذه اليوم. فهل سيحدث ذلك؟ نعم، ولكن بعد زمن بعيد!
نشرت في الصباح ، 9 تموز / يوليو 2009 ، ويعاد نشرها على موقع الدكتور سيار الجميل
www.sayyaraljamil.com
Check Also
نقطة نظام ضد الفساد والمفسدين والفاسدين
ملاحظة : طلب مني عدد من الاصدقاء العراقيين ان اعيد نشر هذا ” المقال ” …