رغم إن قراءة الكتب الإحصائية والحسابية والمالية (استهوتني كثيراً، إلا إن قراءة كتاب “الموازنة العامة للدولة” شدني منذ البداية وأغواني على إكماله، فقد أثار فضولي حين استخدم ثالوث الديمقراطية من مشاركة وشفافية ومساءلة، والأكثر إغراءاً بإكمال الكتاب هو المقالة التي استعان بها الكاتب ليثبت إن العراقيين عملوا بالشفافية والديمقراطية قبل ثمانين سنة أي منذ عام 1927 وهذه المقالة نشرت في جريدة صدى الجمهور في ذلك الوقت للكاتب والصحفي علي الجميل، وحين اطلعت على هذه المقالة التي نشرت قبل ثمانين عام تساءلت: أي صحافة كان العراق ينعم بها في تلك الفترة؟وأي خبراء كانوا يناقشون الموازنة؟ أليس ما كان يطرح في هذه المقالة الصحفية عن نواب الأمة والموازنة والاقتصاد وهو أعلى حالات الديمقراطية؟ وكم هي كبيرة تلك المضامين التي يطرحها الكاتب في الكفاءة والفاعلية على مستوى التشغيل والعجز والفائق على مستوى الأداء الاقتصادي والسياسات الضريبية، وأي مسؤولية مجتمعية كانوا يحملونها؟
وكيف تشارك الصحافة في وضع الخيارات أمام متخذي القرار.. أليست هذه مشاركة في القرار؟ أليست هذه الشفافية بعينها؟ أليست نابعة من حس عال بالمسؤولية، ومساهمة في رسم وصياغة السياسات؟ لقد شكلت هذه المقالة بعداً اجتماعياً كان يمارس في العقود الاولى لتأسيس الدولة العراقية، والسؤال هو اين نحن الآن من كل تلك الممارسات والمفاهيم والقيم؟ الجميل في هذه المقالة (وهذه نقطة لصالح الصحافة العراقية وريادتها) انها بدأت هكذا:
(نشرت أو ستنشر غداً ميزانية الدولة العراقية بموادها وفصولها في البرلمان العراقي لأجل أن تدقق من جانب نواب الأمة ولأجل أن تمحص ولأجل أن يناقش فيها على الفقير والقطمير فيمحى منها ما يمكن أن يمحى ويثبت فيها ما لابد منه ان يثبت، ثم لابد ان تعرف الأمة بعد قليل من الزمن مقدار دخل خزنية الدولة ومقدار مصارفاتها ومقدار ما يقتصد لأجل ان ينفق في إحياء البلد وإسعاد الأمة ولهذا فقد باتت الأمة بفارغ الصبر ما يكون بعد المناقشة وبعد التدقيق والمحو والإثبات..و هكذا سيسترسل بالمقالة).
وقد ذهب فضولي ابعد من إتمام قراءة الكتاب، حيث ذهبت لمقابلة مؤلف الكتاب الأستاذ الدكتور سرمد كوكب الجميل الأستاذ في جامعة الموصل، والذي قال: ان هذه المقالة نشرت بالعدد 13 في 31 آذار عام 1927 في جريدة صدى الجمهور للكاتب علي الجميل رئيس تحرير تلك الجريدة.
وعن سبب اختياره هذا الموضوع بالذات وفي هذا الوقت قال:
– أولاً إن الموازنة العامة للدولة هي جزء من اختصاصي العلمي، وقد كثفت في دراستها وكتابة المقالات والدراسات، وخاصة بعد أن كان اغلب الطلبة يبتعدون عن هذا الموضوع متعذرين بقلة المصادر وشحة البيانات والمعلومات، فكنت دائماً أتابع تطورات علم الموازنة العامة عبر الكتب والدوريات الحديثة المعنية بالأمر.
والشيء الآخر الذي دفعني لكتابة في هذا الموضوع هو التحولات التي حدثت في المنطقة العربية على مستوى النظم والاقتصاد والإدارة والتي برزت نتيجة طبيعية للتغيرات العالمية والتي جعلت ظاهرة الفساد المالي واضحة وصار الجميع يؤمن لها ويوصفها، وبات للفساد فكر ومنهجية علمية ومنظمات علمية ومهنية تعنى به.
* أنا اتفق معك بأن الفساد المالي هو أبشع صيغة عرفها الإنسان، وهو كما تقول تحويل المال العام الى مال خاص من خلال أساليب متعددة منها الرشوة والتزوير وغيرها، ولكن كيف تكون الموازنة عاملاً مهماً في إيقاف الفساد؟
– قبل أن أتكلم عن الكيف، أود ان أقول ان أبشع أنواع الفساد يتمثل في التنفيذ السيئ لبنود الموازنة، فقد ينفق المبلغ وحسب الأصول والقانون وبموجب تعليمات وإجراءات صارمة،ولكن من دون نتائج صحيحة، فمثلاً قد ينفق في مقاولة ما لتنفيذ مجرى لتصريف المياه بملايين الدنانير ولكن من دون نتيجة تذكر على مستوى الخدمات العامة للمجاري، أو ربما على وفق مواصفات متدنية النوعية، وهكذا تلاحظ ان نسبة عالية من الموارد المالية للشعب تذهب دون نتائج تذكر، أما كيف تساهم الموازنة في حد الفساد فأقول ان المشاركة والشفافية والمساءلة يمكن ان تنفذ وتحدد من الموازنة شعاراً يقول (أموالنا مسؤوليتنا) ومن هنا يمكن ان تكون هذه الصيغة أداة لتحقيق الكفاءة والفاعلية أو تقف سداً مانعاً أمام كل حالات الفساد والتلاعب والاختلاس.
* ولكن كيف يساهم المجتمع في تعميق الرقابة والمساءلة والمشاركة والشفافية للحد من الفساد، ونحن لحد الآن نتناول الموازنة من باب الأدبيات فقط فقد نكتب مقالاً او نناقشها شفوياً، او نكتب فيها البحوث، فالموازنة كما تعلم صيغة تعدها الدولة وفق سياقات قانونية واقتصادية ومالية ومحاسبية، فعمل الموازنة تقريباً مؤسسياً أليس كذلك؟؟
– مهم جداً ان يعرف المجتمع دوره في موضوع الموازنة العامة للدولة بوصفه موضوعاً يخص الكل وفقاً للشعار الذي ترفعه معظم المجتمعات (اموالنا مسؤوليتنا) مما يؤثر دور المجمع في مكافحة الفساد والغش والتلاعب وبعكسه يصبح الفساد جزئية من جزئيات الموازنة، فالموازنة يمكن ان نستخدمها كسلاح للقضاء حالات الفساد وانتشاره، ولنستفد من الدول المتقدمة الديمقراطية من تطوير آليات الرقابة والمتابعة ضمن نظام الثلاثية المعروف المشاركة والشفافية والمساءلة، حيث يساهم المجتمع بإفراده ومنظماته في تعميق الرقابة والمشاركة في اتخاذ القرار، مما يؤشر تنفيذاً صحيحاً وإنفاقاً في محله الصحيح ضمن حدود القوانين والتعليمات، وهناك المحاسبة والجزاء مظلة قضاء مستقل عادل، مما يخلق صورة متكاملة لنظام تتفاعل فيه كل العناصر أفراداً ومنظمات وهيآت حكومية وسلطات فتكون هناك نتيجة واضحة لا لبس فيها مفادها النمو والتطور.
* بدءاً من عام 2003 وعمليات التحول التي شهدها العراق، ومروراً بما رافقها من ظواهر سلبية من فساد وسرقة واختلاس ورشوة واستباحة المال العام، حيث احتل العراق الدولة الاسوء في العالم، وانتهاءً بما يرغب العراقيون بلوغه من تطور ترى ألا يستدعي هذا معالجة على مستوى التشريعات والتعليمات والإجراءات؟
– أهم نقطة هي معالجة الفساد بكل تأكيد، ويبدأ هذا من تفعيل دور الموازنة فالموازنة تمتلك حجماً كبيراً بمبالغها الضخمة في السنوات الأخيرة، وان ارتباط إيراداتها ارتباطاً مباشراً بأسعار النفط، يؤشر كتزايد حجم المخاطر التي تواجهها الموازنة بغياب تنويع إيراداتها وتوسع نفقاتها لكل هذا فأن الموازنة هي بمثابة البوابة التي تحول الخطط إلى نتائج فعلية ومنها ينطلق النمو ومن خلالها يتم التطوير مما يستلزم الاهتمام بالموازنة العامة للدول بوصفها نظاماً له هيكلية وله عملياته وأدواته وبه تحقق النتائج، وتثرى الدولة وتتقدم، وهذا ما أثبتته البحوث والدراسات التي تعنى بالموازنة ودورها في الاقتصاد والمجتمع، الموازنة هي المرحلة الأخيرة من عملية التخطيط، مما يعني ان هناك ستراتيجية تنطلق منها سياسات اقتصادية وخطط سنوية تترجم رقمياً إلى موازنة عامة للدولة.
* هل تحقق هذا، من خلال وضع ستراتيجيات ووضع سياسات اقتصادية ومالية ونقدية وحزبية وغيرها؟
– الحقيقة، منذ سنوات ونحن نسمع في عراقنا بوضع موازنة ولا نعلم نحن بوصفنا مختصين أين هي؟ ونسمح حصصاً للمحافظات هذه او تلك، وتخصيص معين لمبلغ من المال فأين ذهب؟ ما النتائج التي تحققت للمجتمع؟ وكثير من التساؤلات التي نطرحها أمام متخذ القرار لنضعه أمام تحد، وهو ان ما يتوفر اليوم من مال قد لا يتوفر في الغد، وما هو متاح اليوم، قد لا يتاح غداً، لذا لابد من التغيير في النظم التقليدية والتحول في مضمون العمل، فمثلاً إن تخصيص مبلغ المال لمدينة او هي من ضمن تخصيصات إضافية يثير سؤالاً مفاده.. ما النتائج المتوخاة من هذا التخصيص؟ وهل تحققت ام لا؟ والاهم من هذا ان تطوير آليات الإفصاح والشفافية والتحديث اليومي للموضوع وفتح قنوات مساءلة الجهة المنفذة والمسؤولة ورفع شعار أموالنا مسؤوليتنا، وانه لا يجوز ان تعمل مؤسسة او وزارة من دون ان يكون لها قنوات تتصل بها بالمجتمع أفراداً وجماعات ومنظمات، فمثلاً ان يكون موقعاً الكترونيا، وأقول إن الأجداد كانوا أفضل من الأحفاد في تطبيق الشفافية والمشاركة رغم إنهم لم يعرفوا هذه المصطلحات إنما دخلوها من مبدأ قيمي.
* ماذا تهدف من وراء تأليف هذا الكتاب؟ هل قصدت الوضع الحالي في العراق؟ انه سيكون مرجعاً أكاديمياً على مدى الأيام.
– الموازنة العامة للدولة من اهم المواضيع التي ينبغي الاهتمام بها لما لها من دور كبير وأهمية في تطور المجتمعات من كل النواحي السياسي والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وقد انصب التركيز لعقود من الزمن على جانب واحد من الموازنة وهو الجانب الذي يخص الحكومة وأهملت الجوانب الأخرى، لذا سنركز على أسس ومفاهيم الموازنة وكيفية إعدادها وتنفيذها والرقابة عليها من قبل الحكومة وهو أمر غاية في الأهمية وليكون لنا نظام يعتمد المشاركة في القرار والشفافية في العمل تحت النور والمساءلة أمام ممثلي الشعب، أي حكومة قادرة على مواجهة ممثلي الشعب وتحقيق مساءلة عادلة.
* ما أهداف الكتاب الأخرى؟
– ابرز دور المجتمع في الموازنة العامة للدولة، والعمل على توضيح الموازنة وبشكل مختصر من حيث القوانين والمفاهيم والأدوات والسياسات والستراتيجيات واستخدام الموازنة كسلاح للقضاء على الفساد.
وتوضيح إن الموازنة هي ليست مقالات وآراء وبحوثاً فقط، إنما هي إدارة ومحاسبة وهي رؤية مجتمع ومنظمات وتحليل الموازنة بما يمكن الطالب أو الدارس من تحقيق الفائدة المرجوة.
نشر الحوار في طريق الشعب ، 2009
الرئيسية / تراث آل الجميل / قبل ثمانين عاماً… الصحافة العراقية.. تنعم بحرية تدفق المعلومات.. حوار مع المؤلف الدكتور سرمد الجميل
شاهد أيضاً
قد سما .. أوج السما
أرشف زلال الكأس وأشد مرنماً وأنثر على القرطاس نظماً محكماً وأنظر لغصين الأس أضحى لابساً …