المدخلات
لقد كانت وما زالت بعض بيوت الموصل بمثابة مؤسسات حفظت تراث المدينة وتراث مجتمعها، ولقد كانت الأمهات والجدّات حافظات أمينات على ما تركه الآباء والأجداد، فهل ستوفق الأجيال الحاضرة بالاستمرار بحفظ ذاك التراث وإدامته؟ كان أبي كوكب ـ رحمه الله ـ منشغلاً دائماً بتراث أبيه فجمع وصنف ونقل بخط يده كم كبير منه، فجمع ديوان شعر علي الجميل ، وكتاب حديث الليل وكتاب آخر بعنوان نوابنا في الميزان، وآخر وآخر، ولم ير أي كتاب من هذه الكتب النور، وقد وقفت العديد من الأسباب وراء ذلك منها ، طبيعة البيئة العراقية طوال نصف قرن من الزمن أو يزيد، واليوم أشعر بمسؤولية كبيرة بإخراج ما أستطيع إخراجه من ذاك الكم الكبير لهدف رئيس وأساسي يتمثل في الأمانة الملقاة على عاتقنا نحن الأبناء تجاه الآباء والأجداد.
لقد سمحت لي الفرصة بإعادة أرشفة ذلك التراث الكبير لحفظه من تحديات الزمن وعادياته، وكنا سمعنا كم أحرق من ذلك التراث في التنانير، وكم أتلف وكم رمي منه في آبار البيوت آنذاك لأسباب سياسية صعبة واجهتها المدينة، ويبدو أنه آن الأوان لكي يطلع من يرغب على جزء بسيط في تاريخ بلدهم القريب وكيف استطاع الجيل الأول من القرن العشرين أن يوصف ظاهرة عاشها، وما علينا إلا فهم الدرس وإدراك أبعاده.
وبالرغم من كل ما كتب عن علي الجميل بدءً من روفائيل بطي وهو ينعيه في مجلة لغة العرب سنة 1929، وانتهاءً بآخر ورقة كتبت عنه بقلم حفيده الاخ الدكتور سيار الجميل ؛ أسوة برجال هذه المدينة وعلمائها ومفكريها، فقد وجدت جانباً قلما اهتم به آخرون، وهو المقالة الاقتصادية والتجارية والإدارية، وفعلاً وجدت معالجات ومناقشات تنمّ عن دراية ومعرفة اقتصادية ومالية ، فعمدت إلى دراستها وتحقيقها والتقديم لها في عدة جوانب وزوايا: الجانب الأول؛ البيئة الاقتصادية والتجارية التي نشأ وترعرع فيها علي الجميل ، فكان هذا بمثابة الفصل الأول ، اما الجانب الثاني ، فيحكي سيرة الرجل العلمية والعملية ، فكان هذا عنواناً للفصل الثاني، ويحكي الجانب الثالث الأسس العلمية للنظرية الاقتصادية التي سادت إبان القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وهي النظرية الاقتصادية التقليدية والنظرية الاقتصادية التقليدية المحدثة، وهكذا اكتمل الإطار المنهجي الذي يمكّن القارئ للتعامل مع الجزء الثاني من الكتاب وهو مقالات على الجميل في الاقتصاد والتجارة .
إن واجب الأمانة العلمية ومنهجية البحث العلمي تقتضي توثيق وتدقيق وتوصيف الظاهرة ، وهذا ما اعتمدناه في هذا الكتاب بعيداً عن كل ما يخالف المنهجية العلمية، ويبقى للقارئ رأيه وإدراكه للظاهرة ورسمه للأبعاد السياسية والاجتماعية. لقد عاش الرجل سنوات قليلة كان عطاؤه كبيراً ، ويبدو كانت أمنياته كبيرة وتطلعاته نحو مجتمعه أكبر وأملي أن أكون قد أديت جزءً من تلك الأمانة التي بدأ بها سواء أصبت أو أخطأت ، اللهم اشهد.
المخرجات
وبعد، هذه مقالات مضى على نشرها ثمانون سنة، واليوم وفي الذكرى الثمانين لرحيل كاتبها نعيد قراءتها برؤية جديدة تحمل تأشيرة سنة 2008 ، فإذا كان البشر قد رحلوا ، وإذا كان الزمان قد مضى بثمانين سنة، ولكن الظاهرة يبدو كانت وستبقى محل نظر وجدل ونقاش في كل عهد وزمن، البطالة الإنتاج، العمل، الضريبة، التحالفات الدولية، الثروة، الدخل، المخاطر، التحديات، وهلما جرّا ….
قبل قرن من الزمن كانت المدينة في أوج عزها الاقتصادي، نتيجة معطيات فرضت للموصل ميزات تنافسية إستراتيجية معينة، وإذا كان الموصليون قد فكروا بالدخول في عصر النور والكهرباء وكيفية التحول نحو الإنتاج والثروة والتطوير والتنوير وقد واجهتهم تحديات كبيرة وخطيرة، وكانت خياراتهم ضيقة ومصيرية تخص الهوية والوجود، فاليوم تتكرر الظاهرة وتفرض على المدينة تحديات اقتصادية وإستراتيجية بطبيعتها تخص وجودها وهويتها.
وأياً كانت التحديات الاقتصادية التي تواجهها المدينة وهي الظاهرة التي يبدو تكررت في بداية القرن الحادي والعشرين كما كانت قد حدثت في بداية القرن العشرين، وإن طبيعة تلك التحديات اقتصادية ومالية ومواجهتها أيضاً ينبغي أن يكون اقتصادياً، وما هذا إلا بعد يضاف إلى جملة الأبعاد التي يعمل بها المحلل الإستراتيجي وهو البعد التاريخي الاقتصادي .
لقد عاشت الموصل على الفضاءات المفتوحة شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً وأستطاعت أن تؤسس لمنظومة تجارية دولية وإقليمية نشطت من خلالها الفئات الاجتماعية المختلفة ، على الرغم من كل التحديات والصعوبات والخسائر التي تكبدتها طيلة عقود من الزمن ولكن كان للفعل والعمل دوره الريادي في مواجهة التحديات والتغلب على الصعوبات وتعويض الخسائر ضمن منظومة تفاعلية لمجتمع أدرك سلفاً أن المنفعة متبادلة وأن أساسها العمل فكانت العائلة تنتج حتى في الليل وفي أوقات الراحة لتبيع في النهار وتزاول عملها ولكن التحدي الأكبر والأهم يجده القارئ في تلك المقالات التي هي أقرب للوثائق التاريخية منها للمقالات الصحفية، فقد ناقشت تقارير ودونت معلومات وحللت بيانات وطرحت خيارات وبدائل إستراتيجيات كان العالم أبعد ما يكون عنها، فهل سنفهم الدرس في بداية القرن الحادي والعشرين ؟
* هذه هي مقدمة وخاتمة كتاب د. سرمد كوكب الجميل الموسوم : ” مقالات علي الجميل في الاقتصاد والتجارة ” ، الذي سيصدر قريبا بتحرير مرئي على موقع الدكتور سيار الجميل ، وبتحرير ورقي من خلال دار نشر ..