الناس من جهة التمثيل أكفاء أبوهمو آدم والام حواء
هذا منتهى الديمقراطية في صدر الاسلام مثلها لنا الامام علي بن أبي طالب ( رض ) ، بهذه الكلمات الوجيزة ، وليس هذا الا ما ترمي اليه الشريعة السمحاء ، ولكن ويح انفسنا ، فما لنا من جماعة المتنبلين من خلاص ! اذ لم تزل كل أمة مصابة بفئة من بنيها ، يعشش في رؤوسهم الغرور ، وان شئت فقل الطيش ، فيبيض ويفّرخ ، واذ ذاك لا يرون الدنيا الا في ثلاثة : باطل مجد استهواهم فصرعهم حتى اذا ما هديهم من سبيل ، وتقليد أخرق ملك أعنتهم وأخذ بنواصيهم ، فاستعذبوا التقليد وصبوا الى الرق ، ودعوى فارغة تقاصرت معها هممهم عن ادراك درجات اصحاب النبل الحقيقي من أرباب العزائم الصادقة والنفوس العصامية ، فجاشت في صدورهم عوامل الجد ولعبت بهم نشوة الكبرياء وعز عليهم ان يتزحزحوا عن درجة الممائلة لمن قد شادوا لأنفسهم صروحا عالية بجدهم ، ولم يقدروا أن يقفوا بأنفسهم عند الحالة التي يجب ان يقفوا عندها ، فانضووا تحت لواء الذين يوهمون الناس انهم نبلاء من سراة القوم ، متسترين بظواهر كاذبة ليوهموا البسطاء بأنهم من أولى الحل والعقد ، ومن الهامات والنواصي ، يريدون بذلك شفاء انفسهم المعتلة ، ونيل ما يطمحون اليه من سعادة وغبطة .ويح تلك الفئة ما أشقاها وما أوهى جنوبها عن مضاجع السكون والراحة ! فمنهم لا ينالون بذلك الا عناء كبيرا ، وشقاء جما ، ولا يقضون الا حياة كلها تعب وحزن وأسى ، ولكنهم أبتغاء حفظ منزلتهم المموهة هذه في عيون السذج لا يبالون ان يقفوا نفوسهم على الجهد والعناء ، وان يقدموا على الكذب والخداع والظلم لا يقصدون بذلك كله الا قليلا مما يسكتون به مطامعهم ، ويخمدون به نار كبريائهم المضطرمة .
هل يرى من الانسان ما اقرب استسلامه الى الغرور ؟ واعلق فؤاده بالرق متى آنس فيه اليسير من مروحات النفس وان اجتمعت فيها الاباطيل وحفتها المكاره ، ثم تعسا للانانية ! ما أعجب شأنها واغرب تناهيها في الانسان حين يعتوره الضعف والقوة معا ، وتتنازعة العظمة والصغار ، فينحط الى الدرك الادنى ، متى كان التناهي في الانانية تحول الى مقت الذات ، وكره النفس ، لا جدال في ان الانانية قوام الحياة وعمادها ، ولكنها اذا لم تصاحبها الاخلاق الزكية والمبادئ القويمة والعقل الراجح وقوة التمييز والوقوف عند هذا الحد الذي ينبغي ان لا تتعداه تكون كقطرات الندى اذا تساقطت على الارض وامتزجت بما فيها من التراب ، فاستحالت اوحالا حتى الاقدام تعاف ان تطأها . ومما لا ريبة لنا فيه فراغ انانية المتنبلين ومقلدي النبلاء من اركان النبل الحقيقي ولوازمه التي تحول بينه وبين النفائص والرذائل . ولعل أوجه الاسباب في بغض الناس ، وكرههم أدعياء الارستقراطية ، ومقتهم لهم : دعواهم الكاذبة ، وترفعهم عن ابناء طبقتهم الحقيقية وحركاتهم التقليدية الثقيلة ، وما يصاحب ذلك كله من خداع ورياء وانتفاخ وخيلاء وما شاكل ذلك مما يزعمون انهم يويدون به مراكزهم !
والمتنبلون ، هم في الغالب من أهل الطبقة الوسطى بالنسبة الى المحيط الذي هم فيه ، بل هم ممن لم يكن لمولدهم حظ في حجر المجد الحقيقي ، ولكن لازمهم التوفيق فصادف جزءا من النجاح ، ولما لم يكن لهم القدرة التامة للرقي الى العلياء وجعلوا انفسهم الطموحة الى القليل فرضوا بالجلوس بين جران قصور الارستقراطية واكثروا من التظاهر بالمظاهر الفارغة الكاذبة ، التي ان راجت على بعض العقول ، فلا نخالها تروج على الباقين .
ولهذه الزمرة طرق في حياتهم وأخلاقهم ، واساليب في معاشرتهم وتعابير خاصة في مخاطبتهم ، واصول في وقوفهم وجلوسهم ، وتسليمهم ووداعهم ، وحركاتهم وسكناتهم ، وكلها خاص بهم ، أخذوه او توارثوه بالتقليد عمن مضى ، ولكنهم مسخوه بما أدخلوه عليه جهلا من التشويه والخروج به حتى عن الاداب الارستقراطية الحقة الى السخافات والمخازي ، وقد يستغرق ذكرها بالتفصيل الصحائف العديدة ولذلك نرجو القارئ الكريم عفوه من الاطناب ومن الخوض في هذا الموضوع ، فان في هذا ما يخفف لبعض الالام .
صدى الجمهور ، 30 حزيران / يونيو 1927.