كيف اينعت ثقافة الكراهية ؟
علينا ان نعترف بأن ثقافة الكراهية هي المسيطرة على واقعنا السياسي وواقعنا الاجتماعي ليس لدى العرب حسب ، بل في عموم منطقة الشرق الاوسط .. ان ترسبات الماضي وسياسات الماضي واعلاميات الماضي وتربويات الماضي وشعارات الماضي الذي عايشناه ، خصوصا ، في النصف الثاني من القرن العشرين قد انجب كل الموبقات ، ووّلد كل الاحقاد وزرع كل الكراهية بين شطائر المجتمعات وكل القسمات .. لقد كانت المواطنة عندما اينعت على عهود الاستعمار قد تفاعل معها كل مجتمع من المجتمعات .. ولكن بدأ التفسخ بعد ان بدأ احياء النزعات الانقسامية ، وتوحشّت الاحزاب الايديولوجية ، ومورست الاقصاءات المذهبية والطائفية والدينية ، وطبقت الممارسات الشوفينية باسوأ افعالها وجناياتها بحق الاقليات والقوميات المتباينة في مجتمعاتنا .. لقد عشنا على امتداد خمسين سنة اطوارا من السياسات البدائية والشعارات المتوحشة التي جنت على تفكير اجيال القرن العشرين الذين بدأوا اليوم بالهروب الى انتماءات متنوعة بعد تشظي الهوية وتفاقم الغلو والتطرف الى حدود لا يمكن تخيلها ابدا .
ان مجتمعاتنا اليوم تختلف من واحد الى آخر بما يمتلكة من خزين ثقافي للكراهية والاحقاد بديلا مفجعا لروح الحمية والمحبة والتوادد والتسامح والالفة وكل قيم الارض والسماء على امتداد التاريخ ، وبالوقت الذي نجد مجتمعات اخرى قد تعلمت من تجاربها المؤلمة ، وغدت مجتمعات متحضرة يسودها الاحترام المتبادل والهدوء وقبول الاخر .. غابت مجتمعاتنا في لجج من المثالب والتباعدات .. ونكاد نتلمسها بشكل واضح في اي شارع او سوق او مؤسسة او محطة اذاعة او صحيفة او مقهى .. الخ بلاد تكره بلاد اخرى تجاورها وبالعكس .. طائفة تكره طائفة اخرى حتى النخاع وبالعكس .. اهل هذا الدين يكرهون اهل دين اخر بشكل لا يصدق والصورة معكوسة ايضا .. اعضاء حزب يمقتون ابناء حزب آخر والعكس تحصيل حاصل .. ابناء قومية معينة يحقدون على ابناء قومية اخرى بشكل لا يصدّق .. الخ من سيطرة ثقافة سوداوية كاملة على مجتمعاتنا لا يمكن الا الاعتراف بها ، انها ثقافة الكراهية !
تساؤلات من يجيب عنها ؟
ما اعذب المحبة ؟ وما احوجنا الى التوادد والرحمة ؟ وما اطيب الدفع بالتي هي احسن ؟ وما انقى من صفاء الانفس ؟ ما الذي اصاب مجتمعاتنا في كل هذا العالم كي تغدو كارهة للعالم ومكروهة الثقافة وتأكل الاحقاد القلوب ؟؟ ما الذي شتّت الوازع الانساني الذي بشّرت به كل الاديان ؟ لماذا لم نكتف نكره الاخر ، واصبحنا نكره بعضنا بعضا ؟ ما سر الفرقة التي غدت علامة فارقة لاممنا المنكودة ؟ ما سر التعّلق بتاريخ يعج بكل البشاعات وما سر الهروب من الحاضر الصعب ؟ ما سر كراهية المتعصبين مهما كان نوعهم لكل من يعارض اسلوبهم ؟ كيف اينعت ثقافة الكراهية في القلوب ، وغابت المحاسنة والمودة عنها ؟؟
ان ما يمكن التأسي عليه في واقعنا المرير اننا كنا اصحاب ثقافة منفتحة وقيم سمحة من نصرة حق واغاثة ملهوف وغيرها من تقاليد كريمة.. لتغدو مجتعاتنا العريقة اليوم ملوثة بالتعصب والعصابات .. وكلما يمضي الزمن تتفاقم الكراهية ويندثر التلاؤم والانسجام والرأفة والسماحة والجيرة والمحبة والرفقة والتعايش والشراكة والرفادة والسقاية .. الخ من قيم عظيمة لم يمتلكها أو يعرفها الاخرون .. ولا اعتقد ان مجتمعاتنا قد استوردت ثقافة الكراهية عن غيرها.. ولا يظنن ابدا ان خزائن الاحقاد قد وصلتنا من غزو ثقافي او بواسطة شركات العولمة ! انها ثقافة قد اينعت بعد ازمان من الكبت والالام والمعاناة وممارسة الظلم .. وركام من القمع والاضطهاد والتهميش والتشويه والتضليل والاكاذيب والشعارات .. ولقد راج منذ سنتين سؤال لدى الامريكيين يقول : لماذا يكرهنا العرب والمسلمون كراهية عمياء ؟ يتساءلون من دون ان يعرفوا ما الذي عانته هذه الشعوب ومن دون مراجعة الاسباب الحقيقية لتلك الكراهية !
الآخر : مجتمعات علمتها تجاربها
لقد تحركّت كل المجتمعات لتتخلص من بقاياها الاليمة واوضاعها القديمة .. الا مجتمعاتنا التي لم تزل تنتظر الاعتذار دون جدوى ، وهي ايضا لا تعرف روح مصالحة ولا تنمية تفكير ولا اسلوب تمدن ولا ضمانات مجتمع ولا حرية رأي ولا حياة مؤسسات .. لقد كانت السياسة والدولة والانظمة وعبادة الشخصيات وترديد الشعارات والترنم بالخطابات ساري المفعول على مدى مئة سنة من دون ان تفقه مجتمعاتنا اسرار تقدم مجتمعات اخرى كانت كسيحة وغدت متطورة بمواردها ومنتجاتها وعلومها وفنونها .. مجتمعات لم تعرف الكراهية والاحقاد .. مجتمعات تعلمت من تجاربها السياسية والطوباوية والاشتراكية .. مجتمعات تعترف بالاخر ولا تقمعه وتتصالح معه ولا تخافه وتتعامل معه ولا تكّفره .. مجتمعات لم تجد نفسها الا خلايا نحل عاملة متعاونة من اجل تحقيق مصالحها ومصالح مستقبل ابنائها .. مجتمعات لا تعرف غير العقل سبيلا وقد نجحت في تجسير العلاقات بينها وبين الدول التي وجدت لرعايتها والمجتمعات التي عملت في خدمتها .. فالعالم كله اوجد ” الدول ” كي تغدو في خدمة المجتمعات في حين كانت مجتمعاتنا ولم تزل في خدمة كيانات سياسية و “دول ” !!
مجتمعاتنا .. ماذا تريد ؟
مائة سنة مّرت ومنذ العام 1908 ومجتمعاتنا في حيرة من امرها لا تعرف ماذا تريد .. في حين تفوقت علينا مجتمعات لم تكن تذكر في العام 1908 !! واتمنى ان تجد هذه ” الافكار ” من يطوّرها ويزرعها في عقول جيل جديد ، بدل ان تجد من يصفها جلد ذات او مجرد مثاليات .. فلا يمكن لأي واقع ضنين ان تنصلح اموره من دون نقد او اصلاح او مكاشفات .. ان مجتمعاتنا بأمس الحاجة الى تنمية فكر وتفكير والى نقاء سريرة وتصالح مع النفس والى محبة الاخر ونفي ثقافة الكراهية .. ولا اقول بأن مجتمعاتنا لا نفع بها وليس لها القدرة على محاكاة هذا العصر بالتي هي احسن ، فالامر معكوسا ، اذ انها مجتمعات حيوية وفاعلة ونشيطة ومخصبة ومبدعة .. ولكنها اليوم مصابة بجملة امراض عضال .. بل وان عملتها الرديئة اخذت تطرد عملتها الجيدة ، بل وتلاحقها حتى في منافيها كي تقضي عليها .. وانها مجتمعات كانت على امتداد تاريخها منفتحة على العالم كونها مركزية ومطلة على اهم بحار العالم باستثناء جيوب منغلقة .. واصبحنا اليوم مجتمعات منغلقة على اتم صورة من الانغلاق حتى جالياتنا البعيدة لا تعرف كيف تندمج مع غيرها لتتعلم وتخصب نفسها لتبدع وتنقل ..
ان ثقافة الكراهية المسيطرة لم تتوالد عن اسباب وعوامل سياسية حسب ، بل اعتقد ان جملة اسباب معقّدة قد اينعت هذه ” الثقافة ” التي لا ترى في العالم كله الا نفسها ، بل والانكى من كل هذا وذاك انها تتصور نفسها الافضل في هذا الوجود .. واعتقد ان سبب كسلها التاريخي هو انغلاقها بفعل ثقافة الكراهية التي غمرت نفسها فيها اولا ، وايمانها الراسخ بأن كل ما هو اجنبي يعمل ضدها ويتآمر عليها وان العالم كله ـ كما تتخيل ـ لا عمل له الا التخطيط لسحقها وامتصاص خيراتها ..
الاعتراف .. التسامح : طريق الخلاص والامل
ان ثقافة الكراهية لابد ان تزول من العقول والانفس وان يعمل كل الكتاب وكل المثقفين وكل الدعاة والواعظين على استئصالها .. وعلينا ان نتشبّث بكل المعاني الحضارية التي عرفتها مجتمعاتنا منذ مئات السنين ، فالكلمة الطيبة صدقة ، والمجادلة بالتي هي احسن ، والابتسامة جواز مرور للمحبة ، واعمل لدنياك كأنك تعيش ابدا .. وان ليس للانسان الا ما سعى .. نعم ، وان سعيه سوف يرى .. الخ
ان مجتمعاتنا اليوم بحاجة ماسة الى من يعيد التفكير من جديد بنفسه اولا وبمؤسسته ثانيا ليقدم اعترافات طبيعية بكل اخطائه التي جناها بحق الاخرين .. وبحاجة ايضا الى من يتسامح ويغسل نفسه من كل الاحقاد والكراهية ان العالم اليوم بات كل يعتني بمجتمعاته وان الثقافات بدت متعايشة وغير مضادة لبعضها البعض الاخر ، وان الحياة لم تعد تتصارع بل تتنافس ، وان المجتمعات الذكية غدت تسعى للحصول على مكتسبات اكبر ممن هو باق حتى يومنا هذا ، وان السباق بات اليوم للاحسن في المجتمعات وليس للاقوى من الدول . ان من يقتل مجتمعاتنا لم يزل يعيش الاوهام والشعوذات والهيمنة والتوحش وقتل الزمن واقصاء الاخر .. وان سألته عن تجارب الاخرين ، اخذ يشتم ويسب ويزبد معبرا عن كراهية عمياء وعن ثقافتها التي نحن لسنا بحاجة اليها على امتداد زمن طويل حتى تتخّلص منها كل مجتمعاتنا في هذا العالم .
www.sayyaraljamil.com
28 ابريل 2008
شاهد أيضاً
على المشرحة.. لا مواربة سياسيّة في الحوار العلمي (الحلقتان الثالثة والرابعة)
ثالثا : الاحرار العرب : مستنيرون لا خونة ! 1/ اخطاء تاريخية وتحريف للتاريخ ويستكمل …